الكشة

الكشة مهدي يوسف ......... لا أعلم على وجه الدقة متى دلفت " الكشة " إلى تفاصيل قريتنا ، كما لا أعلم من أطلق عليها ذاك الإسم و لا لماذا ، فلطالما بدا لى و كأنها خرجت و القرية من ذات الرحم ، في ذات الساعة

الكشة

الكشة
مهدي يوسف
.........

 


لا أعلم على وجه الدقة متى دلفت " الكشة " إلى تفاصيل قريتنا ، كما لا أعلم من أطلق عليها ذاك الإسم و لا لماذا ، فلطالما بدا لى و كأنها خرجت و القرية من ذات الرحم ، في ذات الساعة . أذكر أننى كنت أقفز من فراشى صباح كل يوم لألقى عليها نظرة و لو خاطفة . كنت أقف خارج حوشنا الطينى . أتلفت حولى في انفعال عاشق ينتظر محبوبة وافقت على لقائه بعد عهود صد طوال . ذاك إحساس لم ينل منه كرور الفعل نفسه . تمر دقائق مفخخة بحنين غريب قبل أن يبدأ صوت " الكشة " في مصافحة أذنى ، صوت خفيض كصوت عجوز يكح . ثم سرعان ما يبدأ في الإرتفاع تدريجيا . بعد دقائق يطل على استحياء خيط رقيق من زاوية خلوة القرآن المجاورة ، يبدأ في التكاثف تدريجيا حتى يتحول إلى سحابة سوداء عملاقة . ثوانى و يفج كائن هلامى فضاءات تلك السحابة ، يبدأ في التقدم شيئا فشيئا فاذا بقطعة حديد قديمة تلوح . تبدأ تخرج إطارات لتلك القطعة ، ثم جسد ، ثم مؤخرة .
تمر دقائق أخرى قبل أن يبين جسد سائقها الشهير بمدير العجين من وراء اللا زجاج . لا أعلم سر كنيته . كان الجميع ينادونه باحترام عال . كان رجلا طويل القامة ، أسمر البشرة ، في أواخر الخمسينات من عمره . كان يمسك بمقود السيارة و كأنه يمسك بذراعى حبيبته ، يمسح عليه بمنديله في شغف غريب ، ثم يضغط برجله على كابح البنزين بعشق فتندفع الكشة متهادية فى الدرب الترابى كما تتسكع غيمة على دروب الأثير . لم تكن الكشة في ناظرى مجرد سيارة قديمة ، بل كانت كائنا حيا نابضا مثلها مثل سائقى الكاروهات اللذين يتجمعون منذ ساعات الفجر الأولى لملء براميلهم بالماء بغية بيعها لسكان القرية ( لم تكن الخراطيم قد انتشرت كما الشرايين في جسد القرية بعد ) .
يوقف "مدير العجين " الكشة قرب " دونكى الماء " حيث تنهق حمر و تمتد كاروهات الماء . كان الصهريح المتاخم لحوشنا هو الوحيد المتوفر في القرية . حكى لى جارنا أن بعض حوارى الشيخ عارضوا فكرته في البداية بحسبان أن الحفير تكفى لحاجة الناس و البهائم من الماء ( كما أن فكرة صهريج الماء بدت لهم فكرة شيطانية على النقيض من فكرة الحفير بكل ما تحمله من قدسية وطهر ) . غير أن الشيخ كان يتمتع ببصيرة نافذة ، فأنشأ صهريج الماء. بل و كان يتلقى علاجه على يدى طبيب مسيحى يعمل في المدينة المجاورة .
ذات يوم حدثنا معلم التربية الإسلامية عن سفينة نوح . لا أدرى لم قفزت " الكشة " إلى ذاكرتي في تلك اللحظة تحديدا . أذكر أنه كان يمتطى ظهرها كل من لديه غرض لزيارة المدينة المجاورة : العمال الذين يعملون في المجلس الريفى هناك ، الطلاب الذين يفتقرون لثمن المواصلات ، الزوج الذي يريد شراء فواكه أو خضروات ، المريض الذي يطمح في تلقى العلاج في المستشفى الكبير ، الشباب الذين يريدون التهام الباسطة و شرب البيبسى ، من يود أن يحلق شعره ( غير قانع بحلاقة " حاج سعد" الحلاق المتواضع المواهب ) و آخرون . بل إن بعض النسوة كن يزاحمن الرجال على ظهرها . تقف إحداهن قرب السلم الطويل الذى يخرج من مؤخرة الكشة ، تمد يدها إلى شاب و هى تهتف " شدنى يا ود فلانة " . تسوح الكشة طرقات القرية حيث يقف الناس في محطات معروفة ، و حين يمتلئ جوفها بهم ، يميل مدير العجين طاقيته على رأسه في خيلاء و كأنه يدير حيوات من يقلهم على ظهر سيارته ، يصيح متوسلا " يا ميسر يا الله " ، ثم يضغط على كابح البنزين فتنطق محبوتبه على الطريق الترابى و هى تبعث سحب غبار هائلة في الفضاء .
كان للكشة قلب حان ساعدها على لعب أدوار اجتماعية خطيرة . كانت كما الأندية في المدن : يلتقى فيها الناس للسمر و تبادل الأخبار و كان الناس حينما يدلفون إلى جوفها تتلبسهم حالة سلام غريبة : يتصالح فيها الدائن و المدين اللذان اشتجرا قبل فترة ، يلتقى الجيران الذين لم تسنح لهم ظروف الحياة باللقاء قريبا ، يعزى أحدهم الثانى في وفاة شقيقه ، يتحدث مهوسو الرياضة عن آخر أخبار لقاء القمة ، يناقش فيها المعلمون طرق جمع تبرعات لبناء فصل جديد ، يعلن فيها أحدهم أن زواج ابنته سيكون الأسبوع المقبل . بل إن بعض العشاق كان يجد في الكشة متنفسا مثلها مثل " الدونكى " حيث تجتمع بنات و نساء القرية . كانت ترتاد " الكشة " فتاة شهيرة تحمل خطابات العشق من الأولاد إلى البنات لقاء مبالغ زهيدة . لم تكن ثمة موبايلات في ذلك الحين كما كان النفوس متهيئة للدهشة . و لذا فقد كانت عبارة مثل " قابلنى في الطاحونة عصر اليوم " تبهج عاشقا كما كقصيدة لنزار قبانى . ولعل أغرب مشهد شهدته على ظهر الكشة هو مشهد إمرأة تصلى ركعتى الفجر في حضور روحى مهيب .
لعبت الكشة أيضا دورا كبيرا في إذابة الفوارق بين الناس .  لم يكن السياف مسرور قد استلم مقاليد المدينة بعد ، و لم يكن تلاميذه قد عاثوا فسادا في البلاد بعد .مارست " الكشة " دورا مهما في تقريب الشقة بين متوسطى الدخل و الفقراء ، إذ إن ارتيادها لم يكن مجرد مشوار عادى : كان إما مشوار حلم كما للطلاب ، أو مشوار كرامة كما للعامل و من يريد شراء طعام أو شراب أو مشوار وهم جميل كما لمرتادى صالونات الحلاقة في المدينة . و قد رأيت بأم عينى سكارى و متدينين يقهقون على ظهرها في بساطة عجيبة . و لعل الكشة كانت المكان الوحيد الذى تقف فيه امرأة بجانب رجل دون أن تقذفها حصوات الاتهام و الريبة .
تتحرك "الكشة " ببطء على دروب القرية التربة .تتسلل ببطء من ذاك الكون الذى يضج بحيوات دفيقة . تتوقف بضعة مرات لالتقاط من ينتظرون عادة خارج القرية ( هؤلاء غالبا إما فلاتة يسكنون أقاصى القرية أو حلبة يعملون في مجال الحديد ) . كعادته يوبخهم مدير العجين على تأخرهم ، و كعادتهم يمازحونه ببضعة نكات قديمة ( لكنه يقهقه إثر سماعها على أية حال ) ثم تنطلق " الكشة " و هى تزحف كما سلحفاة . تتجاوزها سيارات القرية القاصدة المدينة و هى تطلق ريح الغبار الكثيف ( فيلعن بعضنا بينما يرتفع صوت البعض بتحية سائقى تلك السيارات الصغيرة ) . كانت الكشة تحشد ذاكرتى بصور لا تحصى .و لعل ميزة " الكشة " الكبرى تكمن في بطئها العظيم ، مما كان يتيح للصور الثبات و الركوز في ذاكرتي الصبية . لم تكن الشجرة مثلا تمر عبر نوافذ الكشة كما تمر عبر نافذة قطار مثلا ( عفوا ، لم تكن ثمة نوافذ للكشة ) . كنت من فرط بطء سيره محبوتى أوشك أن أحصى أشجار الطريق ، رمال الأرض ، عدد البهائم التى تنتشر على الربوع الخضراء و عدد المزارعين الذين تنحنى ظهورهم إلى الأرض حتى إذا مرت الكشة قربهم رفعوا رؤوسهم في فضول لا مبرر ، ثم نشفوا جباههم بأطراف عراريقهم المتسخة و هم يرددون عبارات ترحيب حرى . كانت السيارات تقطع المسافة بين قريتنا و المدينة في حوالى نصف ساعة ، أما " الكشة " فقد كانت تقطعها في ساعة ربما زادت قليلا . لم يكن " مدير العجين " ينتهرها إلا حين تمر بجواره اللوارى التى تقل سكان القرى المجاورة . حينها كانت تتلبسه روح منافسة شرسة ، فيضغط على البنزين في قسوة ، يهب في ثنايا السيارة العجوز شباب لا نعلم أين كان مختبئا ، فتكركر ماكينتها في الفضاء بينما تدور اطاراتها الضخمة كما بعض الدراويش في باحات الذكر . يوقف " مدير العجين " الكشة قرب بوابة " المجلس الريفى " في المدينة ، ثم يقفز عن الفراغ الذى يدعوه مقعدا . يلتفت فإذا بنصف راكبى الكشة قد اختفوا ( لم تكن حتى النسوة بحاجة أن تتوقف السيارة العجوز حتى تقفز عن ظهرها في رشاقة كارل لويس ) . لم أعلم إن كان ثمة عمل آخر كان يمتهنه مدير العجين في الريفى ، لكنه علي أية حال كان يمازح العمال ، ثم يغوص بينهم في ديناميكية هائلة تفور بالحيوية و البهاء .
آخر اليوم تعود الكشة إلى القرية محملة بأحلام تحققت و أخريات ستؤجل لصباحات قادمات . أما إذا أصيبت " الكشة " بعطب ما ، فقد كان يتخلخل إيقاع الوجود في القرية : تقل الضحكات و لقاءات العشاق و عدد الطماطم في الموائد و إجتماعات أولياء الأمور في المدرسة الإبتدائية بنين .
مرت سنون قطعتها وثبا . تخرجت في الجامعة ، ثم ابتلعتنى العاصمة في كرشها الضخمة . تحول العمر الى تسكع داخل جراح و مسئوليات وأحلام . لم أعد أختلف إلى القرية كثيرا ( اللهم إلا في أوقات الأتراح الكبرى ) . ثم حدث و عدت ذات يوم إلى القرية . أذكر أننى تسلقت ظهر الحفير الضخم أصيل ذاك اليوم . استنشقت رائحة الموج البارد و كحلت عينى بمشهد أشجار " النيم " التى تتسلل جذورها مسافات صوب ماء الحفير في غريزة بقاء جديرة بالتأمل و الإستلهام . أدرت رأسى متأملا البيوت القريبة فطالعتنا أجساد صبايا بضة تتسكع بغنج داخل ذاك البيت الشهير بالجمال . غضضت طرفى في عسر . فجأة رأيت " مدير العجين " . بدا لى رث الثياب ، نحيلا . كان يتكئ على عصا قصيرة ، هاشا على أغنام حزن عظيمة . بلغ الرجل منتصف موقف السيارات دون أن يأبه به أحد، هو الذى كان ذات زمان أخضر نبض المكان و مركزه . اقتربت منه في هدوء . حييته قائلا " مدير العجن " . التفت تجاهى وقد شهقت شمس على جبينه الأسمر . إبتسم و هو يسألنى " منو ؟ . قلت له و يدى تعصر يده المعروقة " واحد من تلاميذك القدامى " . انبسطت أسارير الرجل و نهر يتدفق في عروقه .و و من وراء دمعة خفيفة ترقرقت على خد الرجل الأيمن لمحت صبيا صغيرا كان يركض وراء عربة شكلت له وجودا كاملا !!