.كليك توبرس _عامر محمد أحمد ..
يستطيع القاص " محمد صديق محمد احمد "من خلال نصوصه القصصية قراءة وجه القاريء، ووجهته وهو بارع في لعبة الإمساك بالزمن السردي ، لايحكي لك حكاية ، يحكي لنفسه وماعليك سوى تتبع كلماته ولغته ،وخطابه حتى لاتفوتك متعة القص . تعود بعض نصوصه لفترة سابقة، قد تصل إلى ثلاثة عقود او تزيد، حيث الجودة عالية وتدهشك بقراءة زمن الكتابة وقياس اليوم في مقابل نصوص منشورة لكتاب جدد . وهذا النص بتاريخ ١٩٨٩ ومكان هو( الزقازيق) و مكان متجدد ( دنقلا _ ٢٠١٧) كيف استطاع الحفاظ على اللغة ،وعبق المكان والزمن السردي.و وجاء في تعريف : " ﻓﺎﻟﺰﻣﻦ اﻟﻘﺼﺼﻲ ﻫﻮ زمن التجارب والأحداث التي تلازم الكاتب، ﻓﻬﻮ ﻟﻴﺲ زﻣﻦ واﻗﻌﻲ وإﻧﻤﺎ ﻫﻮ زﻣﻦ اﻓﺘﺮاﺿﻲ أو ﻧﺴﺒﻲ إﻧﻪ ﻣﺠﺮد ﻣﻦ اﻟﻜﻼم أو اﻟﺴﻤﻊ أو اﻹﺣﺴﺎس.وﻟﻜﻨﻪ ﺷﺎﻫﺪ ﻋﻠﻰ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت واﻟﻮﻗﺎﺋﻊ. إن اﻟﺰﻣﻦ ﻳﺸﻜﻞ واﺣﺪا ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻤﻘﻮﻻت اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻓﻲ ﺗﺠﺮﺑﺔ اﻹﻧﺴﺎن " هذا التعريف بما هو منشغل به الكاتب يمثل في نص "طُرَّة وَ كِتَابة " المسافة المكانية الاولى والمسافة العمرية بين التجارب الحياتية وتلازم اليفاعة والنضوج في سكة الحياة.
" مَدْخل :
( ها أنت تُراني
أتَمَلّى هذي اللوحة في أيامي الجرداء
وأُنادمها حين يغيب الندماء
أسكب للوحةِ كأساً..أرجوك
هذا إجمال القصة ) صلاح عبد الصبور._ نص طرة وكتابة " ستكتفي باجمال القصة، وتطوى صفحة القراءة .إذا طويت صفحة القراءة بكلمة تاتي كانها ملخص القصة ،فإن المدخل للشاعر الراحل "صلاح عبدالصبور "هو مفتاح الدخول إلى لوحة تحكم النص وتعيد ترتيبه في تلقائية ودهشة حيث يحيط بك " يبدو الجو غائماً , تحتشد سحبٌ عظيمة بالسماء التي اكتست لوناً
داكناً ...سرعان ما بدأ رذاذ المطر في التساقط ..تتسارع خطى المارّة بشكل متزايد ورويداً رويداً تتحول إلى شيئٍ أشبه بالهرولة ...تُطلق بعض السيارات المندفعة أبواقها المزعجة وهي تتفادي المارّة مُسرعي الخطى وأُؤلئك المهرولين ...يتقافز المارة من أمام السيارات إلى الأرصفة التي أصابها البلل هروباً إلي فرندات المحال التجارية " لوحة اجتماعية غائمة ، اصوات داهمتها المطر ، ازيز الخوف يغلف المكان ، خوف البلل ، الزمن يتراكم مع حبيبات المطر ، حقبة زمنية قصيرة تصيب الجميع بالبلل ، مع اختلاف المارة وراكبي السيارات _ تتسارع خطى المارة بشكل متزايد_ قد تفكر فيما ستفعل وقد مرت بنا كلنا _ القراء_ تلك اللحظة .بدا كل شيء يدعو الى النجاة من المطر ، لاشيء من كل ذلك يشير إلى معرفة المرء وجهته ."على طول ذلك الشارع الأنيق...تتبادلان النظر وأنتما تسيران بذات الوقع من الخطوات ...غير عابئين بتساقط المطر ولا ٍتدافع المارّة وإصطدامهم بكما في أحايين كثيرة ....كنتما تستمتعان بهذا الجو البديع ....متعة ليست كتلك التي يشعر بها أغلب الناس .
عندما امتدت يده إلى جهة صدره تيقّنت بأنه قدّر أن الموقف يستدعي التدخين ...عادت اليد ممسكة بصندوق السجائر الرخيص محليّ الصنع...أخرج واحدة أشعلها بيدٍ مرتجفة بفعل البرد وبفعل شئّ آخر أنت تعلمه ...أخذ منها نَفَسَاً عميقاً ثم نفث الدخان في الأعلى مُكوِّراً فمه , لينطلق الدخان في الفضاء مختلطاً برذاذ المطر والهواء وأؤلئك المهرولين _ نص طرة وكتابة " يمضي الزمن و تتعرف في تلك اللحظة ،قليلة التركيز نحو اليقظة التامة وحمى الترقب .بالتفكير المنطقي ستهزمك لغة المنطق ، ستحذف بسهولة كل مبررات الانغماس في وحل المطر، وغياب اتجاه القلب نحو النظر ودقات اليد التي استولت على القلب..الهواء والرذاذ والاحتفاء بتحية الغريب .إنه يشبه تعارف القلوب وسط العتمة عبر الصوت وذبذباته تحت مطر."سرتما على هذا الحال صامتين متمهلين بِطول ذلك الشارع الأنيق , تتأملان الوجوه وترصدان الحركات , وتندغمان في أصوات الضجيج الذي لا ينقطع.
يسير مشواركما الصباحيّ هذا كل يومٍ هكذا ...المكان الوحيد الذي كنتما تتوقفان عنده قبل نقطة النهاية هو محل الملبوسات الجاهزة بذلك الشارع الأنيق ...تقفان هناك أمام الزجاج الشفاف تُحدِّقان في الملبوسات الراقية وتعلمان أنكما لن تتمكنا يوماً من شراء أي واحدٍ منها بالنظر إلى بطاقات الأسعار_ نص طرة وكتابة " وهنا تزدحم في ثواني كل ابنية الوصال وتختفي مع المطر ، حبيباتها المتساقطة على مهل ، لتبدا نقطة جديدة في المشوار ، اثناء تعارفكما ادركتما ان ماقد تصلان إليه يصطدم بالواقع ، بمطر مختلفة تسد الطريق بالوحل وتغلق الطرق امام المارة وتبدا مع لحظة الحقيقة ، تلتقط شذرات ماقبل الوداع..
قبل الوداع..
"تمرّان بنظركما سريعاً على كل المعروض ثُمّ تُركّزان بِشِدّة على الدرج العالي الذي تجلس عليه البائعة الصّغيرة....صغيرة كأنها عصفورة, بِشعْرِها المقصوص على هيئةِ شَعْرِ غلام....تُثبّت على وجهها الصغير المستدير نظارّة طبية رقيقة تُعطي المجال لعينيها لِتبرُزا في كامل إتساعهما مع وضوح البياض والسّواد ...تنزل من على الدرج بخفةٍ واضحة , تتحرك نحو الأرفف العديدة ...يتبيّن قِصر تنورتها ورداءة الحذاء الذي تنتعله , هَمَسَ إليك بذلك ..تبستم لقوله لإدراكك مقدرته العالية على تمييز الأشياء الجميلة مع عدم قدرته على إمتلاكها...نظر إليك ثُمّ أردف :
_ قَاتل الله الفقر.
تُرْسل ضحكة مكتومة ...ثُمّ تُخاطبه :
لولا الفقر لَكُنّا الآن بجوف سيارة أجرة ولَفَاتنا كل هذا الجمال , تضحكان سويّاً هذه المرّة ...يُشْعل سيجارته ويُقدّم إليك واحدة ثُمّ تنفلتان وسط الجموع المتقافزة والمهرولة ...وما زالت السماء مُلبدة بالغيوم وما زال المطر يتساقط ولكن بِوَتيرةٍ أقلْ نص طرة وكتابة " يستدعي القاص "محمد صديق ،" الرمزية في حشد المقطع بما هو رفقة طريق وتواصل ، وبحث عن مايحصره الواقع ويغلفه ، رسائل تدخل في صحبة ،وتمتد لكي تبهم مع الطريق ، تحديد من هو الذي يسير معك في الطريق ، حلمك مع المطر ومؤشرات بوصال بغتة.ثم ظهور المخاطب بلغة الواقع كانها مناجاة اصدقاء يسيران في حالة تسكع من المطر ويحلمان.".يختلف طريق العودة إلى السكن عن ذلك الشارع الأنيق . كان طريق العودة إختياراً مُهماً تَكْمُن مِنْ ورائه حكمة عميقة حدّثك عنها أول مرة تسلكان هذا الشارع ....كان شارعاً ضيّقاً قذراً تطلّ عليه بنايات قديمة متآكلة الجدران من ناحية , ومن الناحية الأخرى يمتدّ سور قديم هو الآخر , ويبدو أن ما وراء السور هو مخزن مكشوف تتكدس فيه مخلفات عديدة , تقوم أمامه العديد من الأكشاك الخشبية الصغيرة , يشغلها باعة الأسماك والدجاج الحي الذي يُذبح أمام عينيك ويتم تجهيزه , كما يشغل بعضها باعة الخضروات من نساء ورجال نص طرة وكتابة " ....
يزدحم الشارع بكتلٍ بشرية تغدو وتروح , نساء ورجال وصبيان تختلط أصواتهم بنداءات الباعة التي لا تنقطع , يصعب هنا سماع الأصوات المهموسة أو الضحكات." يختفي صوت كنت تحدد انه هو لقاء انيس وانيسه صدفة عند المطر بعد.طول فراق ، ولكن الإشارة إلى المكان_ السكن _ واختفاء رائحة المطر ، يعيدانك إلى حياة مختلفة تنسج من نول حريرها مقاسات متعددة ،بتعدد الاحذية في المحل واحذية مبتلة بالماء في الشارعو وظهور شوارع ضيقة ، باعة اسماك ودجاج حي يذبحك امام عينيك_ يزدحم الشارع بكتل بشرية تغدو وتروح ، تختلط اصواتهم بنداءات الباعة التي لاتنقطع ."تُمسك بيد رفيقك وتتراجعان , ثُمّ تندفعان مع الكتل البشرية العديدة في طريق عودتكما إلى مسكنكما البعيد.
عندما طَرَق على باب غرفتك في ذلك الصباح الخريفيّ البديع , كنت مستيقظاً غير أنك تعمدت التظاهر بالنوم ... طرقة أخري ثم تسمع صوت صرير أكرة الباب وهي تدور ... ترفع الغطاء متطلعاً ناحية الباب... " ماتقاس به هذه اللحظة هي ان هناك كائناً مختلفاً ، ينتظر وصوله من جديد " تراه واقفاً عند الباب المفتوح مرتدياً ملابسه...ترفع يدك مُلوّحاً ثُمّ تسحب الغطاء على وجهك وتعود إلى وضع النوم ...يعود صوت صرير أكرة الباب مرة أخرى , ويبين بعدها وَقْع خطواته المنتظمة وهي تقطع الصالة نحو الباب الخارجي نص طرة وكتابة ." قبل الهبوط كان الصعود.بدافع ، الدهشة ، ولقاء الغريب ، شظايا لاتحصي تتحرك في مساحة ، ستار مسرح ، يحجب الحقيقة ، وقد يخاف الضوء ، ولابد ان الضوء له طعم المطر والشارع المزدحم ويؤدي الى الطريق السريع وانتهاء اللحظة في هذا الجزء الصغير من الزمن ورؤية الاشياء كماهي "تقفز من سريرك بنشاط واضح عقب خروجه , تتجه ناحية خزانة الملابس , تُخرج ملابس قديمة ونظيفة ترتديها على عجلٍ ويحتويك الشارع ....لأول مرة تقوم بتغيير البرنامج اليومي , تترك طريق الذهاب لتتجه نحو طريق العودة, تدلف إلى شارع السمك من طرفه الآخر " هذا النص تميز بدهشة لايمكن لك ان تقفز منها دون ان تستطلع ماخلفه.في نفسك من مقدرة هائلة في إخفاء الصورة فيما يعرف عندنا في الادب الشفاهي في وصف عملة معدنية تختلف في وجهتيها " طرة وكتابة " وتتفقان على ان لافكاك ، وان لا فراق بينهما فالمصير واحد وكلاهما يكملان بعضهما "...تقترب بتوجسٍ كبير من كشك السمك أخضر اللون, تفتش عيناك عن ذلك الركن وذلك الحجر ....كان الحجر خالياً ..تبتسم في داخلك ...تهرع ناحيته ...تجلس عليه ثم تُخرج من جيب بنطالك القديم والنظيف صحيفة قديمة تبسطها أمام عينيك , ومن الجيب الآخر تُخرج صندوق السجائر الرخيص محليّ الصنع ,تُشعل واحدةً ثُمّ تنْكبّ على الصحيفة تُقلبها بدءاً من الصفحة الأخيرة بسرعةٍ واضحة وبيدين مُرتعشتين.!! " تغيب من الذاكرة المطر ، واللقاء والمسير معاً ، ثم تمحو اللحظة الاخيرة ، كل ماكان ، تتغير بتغير الزمن تشابكات الرفقة ، اللحظة العابرة والمطر ترسمان داخل الإطار العام مايحدث في عوالم لايعرف عنها سوى العبور بالذاكرة ثم الغياب..احتشد نص "طرة وكتابة" للقاص محمد صديق ، بصور سردية اجاد رسمها ووضعها في قالب حكائي متمكن، وبلغة بها حركة، وحياة، وشسوع رؤية للنفس، حينما تدور مع الزمن ،وتناقضاته ،وكيف انها تنتقل من نقطة إلى اخرى دون ان تصطحب معها ماكان من المطر والشارع المزدحم ورائحة السمك والدجاج المذبوح .؟