الأيادي الناعمة

الأيادي الناعمة: اسيا رحاحلية.. الجزائر أحملق في الباب المغلق قبالتي. أحاول ترتيب أفكاري . أمرّر يدي على جبيني. أنظر في ساعتي . استجمع الصور في ذهني ، و في سرّي أستذكر الكلام الذي سوف أقوله

الأيادي الناعمة

الأيادي الناعمة:

اسيا رحاحلية.. الجزائر

 

 

أحملق في الباب المغلق قبالتي. أحاول ترتيب أفكاري . أمرّر يدي على جبيني. أنظر في ساعتي . استجمع الصور في ذهني ، و في سرّي أستذكر الكلام الذي سوف أقوله .
أشعر ببعض التوتّر و الارتباك و لكني لن أتراجع . لن أعدم المحاولة . هناك خطوة أولى دائما ، و على أحدٍ أن يخطوها .. ربما وجب أن يكون أنا .
هذا الصباح خلعت برقع التردّد و حسمت أمر الفكرة التي راودتني منذ شهور . سائق سيارة الأجرة كان سينعطف شمالا ، كما كل يوم ، عندما طلبت منه أن يأخذ الشارع المعاكس لمقر الشركة .
أتساءل فقط... هل سيصدّقونني؟ ماذا لو قزّموا القضية و نصحوني بنسيان الأمر ؟ حجّتي واهية مع غياب الأدلّة ، و حتى لو هناك دليل فسيكون ضعفي مقابل قوّته ، وضعي الاجتماعي مقابل نفوذه وأمواله ، تكويني الأنثوي مقابل عالم الذكورة المتجبرة الطاغية المنحازة .
حين يُفتح هذا الباب ، بعد لحظات ، و يدعوني مفتش الشرطة للدخول سوف تبدأ المعركة .
كان أبي يقول " مهما نكره الحرب قد تضعنا الحياة وجها لوجه مع معركة ما ، و سوف نخسر إذا خضنا غمارها خائفين أو متردّدين . " مسكين يا أبي ، ربحتَ معركتك بعد صراع مرير مع الظلم ، لكنك لم تهنأ بالنصر . سكتة قلبية أودت بك أسابيع فقط بعد غلق قضية الاختلاس التي لفقوها لك .
 و مع ذلك أتصوّر أنّك متّ سعيدا لأنك لم تستسلم ...
يقال أنّ الموتى يشعرون بمآسي الأحياء . كم أحتاج لأن أومن بذلك لكي أتصوَرك الآن معي... تساندني .
لست أشعر بالخوف . في أقصى الحالات سوف أخسر وظيفتي . لا يهم ..لكنّي أتمنى لو كنّ معي الآن ... سعاد أو نوال أو منيرة أو سمية .
" اليد الواحدة لا تصفّق " ... يصهل الإحباط داخل رأسي ،بينما صوتٌ واثق ، يهزّني " و لكنها تصفع ! " .
كأنّه صوت أبي ؟!
سمية لم تأت . خذلتني . لا فائدة ترجى منها . حاولت جعلها تغيَر رأيها . أرسلت لها عدَة رسائل قصيرة منذ ليلة البارحة .لم ترد . أعرف موقفها . قالت لي بصريح العبارة " لا تنتظري مني أن أكون معك " و تلعثمت " هو.. .هو لم يفعل شيئا . مرة واحدة ، أو مرّتين ، لا أذكر ، لمسني في ...في صدري ... فقط . "
و أشاحت بعينيها عن نظراتي .
كنت أعرف أنها تكذب .
" فقط ؟ " صرختُ فيها لحظتها " ماذا تنتظرين أن يفعل ؟ " . لم تقل شيئا . تركتني أصارع غضبي و استدارت نحو مكتبها .. أعرف أنّ الخوف يمنعها ، لا تستطيع أن تغامر بوظيفتها و سمعتها ..من سيعيل والدتها المقعدة و إخوتها الصغار ؟ الخوف يمنعهنّ جميعا . الخوف من الناس تحديدا. منيرة قالت لي ماذا سيقول الناس ؟ نوال أيضا . الناس ...الناس .. هل سيمد الناس لك أيديهم و أنت تغرق في الوحل ؟
لا أدري لم لا تكون الأمور كما تبدو ، أو كما نتمناها و نحلم بها . من كان يصدّق أنّ ذاك الخمسيني الوسيم الأنيق هو في الحقيقة رجل متصاب ، يعيش أسير أهوائه وغرائزه الحيوانية .. أراد أن يمارس اللعبة نفسها معي غير أنّ الحظ لم يحالفه . غرّته ابتسامتي الخجولة و لم يدر بأنّ وراء ملامحي الجميلة الناعمة و مظهري الهادئ الوديع فكرا متوثّبا وعقلا حرونا لم يعوّدني أن أخونه .
أتذكَر البداية بالتفصيل . دخلت مكتبه في صبيحة يوم ربيعيّ مشرق ، و كان قد مرّ أسبوع على التحاقي بمنصبي الجديد . كنت أنوي ترتيب بعض الملفات في الخزانة ، عندما باغتني قائلا :
- دعي الملفّات مكانها ، أنا سأرتّبها عنك .
ثم أضاف و هو يشير إلى يدي بحركة من رأسه :
- هذه اليد الناعمة لم تخلق سوى لتقطيع الكعكة !.
رفعت يدي عن الملفات . نظرت إليه . تمتمت بكلمات شكر ، ثم حملت دهشتي و خرجت من مكتبه و أنا أشعر بشيء من الزهو . لا توجد أنثى لا تسعدها عبارات الإطراء و الثناء .
في الرواق وقفت مذهولة ، أقلّب يدي ، أنظر فيها كأنّي أكتشفها لأوّل مرّة .
هذه اليد ؟ يدي ؟ لم تخلق سوى لتقطيع الكعكة ؟ و أنا التي عانيت ، و مازلت ، من حمل المكنسة و تقطيع الثوم و البصل ؟!
يا له من رجل ! يا لسحره ! تقطيع الكعكة ؟! كنت أحسب أنني فزت بمنصب أحسد عليه في شركة كبيرة !
قبل ذلك اليوم ، كان قد وصلني كثيرٌ من الهمس حول أناقة المدير و سحر حديثه و وسامته . و لأنّه دائما ، في كل مكان عمل ، يزوّدك موظف ثرثار /عادة يكون امرأة !/ بالأخبار و الأسرار ، فقد تطوّعت ، عن طيب خاطر ، موظفة مسنَة ، دميمة الوجه ، لتخبرني بأنّ المدير لم يفصل السكرتيرة التي كانت قبلي بسبب ارتكابها خطأً مهنيا لا يغتفر ، كما يشاع ، و إنّما لأنها غبية .
ثم قالت لي و هي تغمزني بطرف عينها و تبتسم بخبث " لا تكوني غبية مثلها !" .
لم أستوعب قولها ، و لكني لم أهتم . غير أنّ الأيام التي تلت كشفت لي عن مفهوم الذكاء عند دميمة الوجه !
أن أكون ذكية معناه أن أتغاضى عن ملامسة يده ليدي أو كتفي أو ذراعي ، أو خدّه يكاد يلاصق خدّي ، أو أنفاسه تفحّ في وجهي و هو ينحني بحجة توقيع أوراق فوق مكتبي . الذكاء أن أوافق على البقاء برفقته خارج أوقات الدوام ، أن أقبل هداياه و دعواته للخروج ، بل وأقنع نفسي بأنّ ذلك من صميم العمل ،و ربما يدخل في منحة المردود المهني .
و بدأت أختنق و أنا أحس بشرنقته تلتف حول عتقي ، و حصاره يدكّ حصون عقلي .
و عبثا كنت أبدي نفوري من تصرّفاته ، و اشمئزازي من عباراته المبطّنة و تعليقاته الشهوانية و نظراته الجائعة التي تلاحق حركاتي و سكناتي ... ظل يحاول إغوائي ، متماديا في رعونته و نزقه ، لا يفهم ولا يرعوي .
و كان أن فقدت أعصابي تماما عندما تطوّر الأمر ليصبح التلميح تصريحا ، بل تهديدا واضح اللهجة .
أحملق في الباب . أفكّر في ما أنا مقدمة عليه . أشعر بالقلق . وقعُ خطوات أنثوية يشوّش تفكيري و إيقاع كعب عال يزيد من توتّري . يفقدني التركيز تماما.
و... تشهق الدهشة في صدري .
تمدّ يدها.. تمسك بيدي . تضغط عليها بشدّة ..
ناعمة و دافئة يدها . تسرّب دفئها إلى قلبي .
و كأنّما أحسّت تململ القلق في نظرتي ، فانحنت سميّة برأسها على كتفي و... في أذني بصوت خفيض .. " لا تقلقي . الدليل معي ."
قصة من مجموعة اعتقني من جنتك. 2014