منلوجات الخُطى والأَقدام!
.. منلوجات الخُطى والأَقدام! شاذلى جعفر شقَّاق أشواق مُباغتة للكاتبة الأستاذة بهجة جلال ،باقةٌ من أقاصيصَ أو قُل أحاسيسَ شفيفةٍ وصُوَرٍ حياتيَّةٍ مُنتَزَعةٍ من مُتعدّدٍ ومُتشعّبٍ ومُتقاطِعٍ من هذه الدروب التي شَقَّتْ الحياةَ أو شقّتها الحياة.. تعاويذُ الأبوابِ المُشرَعة ِ للدخول أو الخروج..منلوجات الخُطى والأَقدام
..
منلوجات الخُطى والأَقدام!
شاذلى جعفر شقَّاق
أشواق مُباغتة للكاتبة الأستاذة بهجة جلال ،باقةٌ من أقاصيصَ أو قُل أحاسيسَ شفيفةٍ وصُوَرٍ حياتيَّةٍ مُنتَزَعةٍ من مُتعدّدٍ ومُتشعّبٍ ومُتقاطِعٍ من هذه الدروب التي شَقَّتْ الحياةَ أو شقّتها الحياة.. تعاويذُ الأبوابِ المُشرَعة ِ للدخول أو الخروج..منلوجات الخُطى والأَقدام في ديمومة هجرتها من بدون القُبحِ إلى وطن الجمال..أغاريد الحُلم والهوى وحبائل الحنين ..أنين الأحذية وأوجاع الوحدة وحُمّى التشظِّي ولظى الانتظار الطويل، وكثير من مَجسَّات الوعْي التي سلّطتْها على جسَدِ الواقع على لسان الحاضرِ السّردي!
ولعلَّ أوّل ما يلفت النظر في هذه الأشواق المُباغتة ؛اللغةُ الشاعرية التي كُتبتْ بها،فبجانبِ كونها رصينةً ورفيعةَ الخطاب؛فهي أيضاً رشيقةٌ وسلسةُ الانسياب لتحقيق رغبة السَّرْد، تراكيبُها منتقاةٌ بعنايةٍ فائقةٍ،ودلالاتُها تسبقُكَ إلى مُبتغاها ،لتراقبكَ وأنتَ مُساقٌ بقرائنها البصيرةِ!دلالاتٌ لا تخلو من دلال مُحَبَّبٍ ولَباقةِ توظيف،وكيْدِ أحرُفٍ عظيمٍ ،مزوّدٍ بإلمام ثقافيٍّ جَمٍّ بحنْكةٍ وحبْكةٍ دقيقةَ الرَّصْفِ والوصْف!فمثلاً في قصّتها (سباق) تقول الكاتبةُ بهجة جلال:
(الظلُّ الذي آواني فِي النَّهارِ، لن يرحلْ وراءَك كما تَعَهَّدَ سابقاً، تَشَبَّثَ بجِدَارِهِ. الحِذَاءُ الذي تَفَتَّقَ عن الإصبعِ الصغيرِ كان يشيرُ إلى سخونةِ الأرَضِ التيِ أَعْبُرهَا لم أهتمْ بالقياساتِ وقتهَا؛ خلعتُهُ، وانطلقتُ! منتصفُ الطريقِ ارِتَدَى الظِّلُّ حذائي، وركضَ بالطريقِ الموازِي)!
فإذا ما تمعّنا مفردات وتراكيب هذا النَّص المسنودة إلى ثنائيّة حتميّة مثل :(الظل –الجدار ) و(الحذاء –قياسه) و(خلعته – وانطلقت) و(منتصف الطريق – والطريق المُوزاي) ؛فإنَّك لا محالة واجدٌ نفسَكَ إزاء تأويلٍ يُلقي بظلاله على أنقاض جُدُرٍ اجتماعيَّةٍ بغيضةٍ المَرأى ،يمثِّل الرجلُ والمرأةُ دور بطولتها من لدُنِّ الاختيار بدءاً الذي يُشير إليه قياس الحذاء ،وإلى العقدة المتمثّلة في تعسُّر المسير واهتراء مقدّمة النعل، حتى الحل الكائن في نقد المقولة الرائجة في الذاكرة الجمعية ذات المفهوم الذكوريِّ المُتجبِّر(ضُل راجل ولا ضُل حيطة)! ولكن جاء كلُّ ذلك بترميزٍ عالٍ وغمزٍ لُغويٍّ ومَكْرٍ دلاليٍّ حاذق!أقول: وهل القصَّةُ القصيرة أو الومضة أو الأُقصوصة كما سُميِّتْ هنا ؛إلاَّ هذا الإضمار والحذْف والإدهاش ومقارعة المفاهيم البالية بهذا السّرد الرّفيع و(الشبّال) اللُّغويِّ الحصيف؟!
ولكنَّ خلع هذا الحذاء لا يعني نهاية الرحلة ولا بتجاوزه تأمن الخُطى عثراتِ الطُرُقات وتكرار الخيبات نهار الحياة التي لا تزال رحاها تدور ، يكشف ذلك نصُّ (رحى)الذي تخفَّف قليلاً من الترميز:
(بينَ سنابكِ الخيلِ تطوفُ بحثاً عن عاشقيها. هذا والدُ أبنائي الخمسة الكبار، وهذا والدُ ابنتيِ التيِ لم تَرَ النورَ. وذاك... ظَلَّتْ تحْصِيهم نهاراً كاملاً، وتسحبُهم إلِى مقبرتها. نهضَ شاهدٌ واحد، ومائةُ امرأةٍ ادِّعَيْنَ النبوءةَ)!
فإذا كان المفرد في نص سباق :(ظل – جدار –حذاء –طريق) فهنا في ( رحى) يصدع الجمع والتعدد كما نلاحظ:( سنابك-عاشقيها- أبنائي الخمسة –تحصيهم –مائة امرأة ادعين النبوءة) لتستمرَّ رحلة البحث عن الحُلُم ورفيق الخُطى وتلمُّس ملامحه في أعين الآخرين وتمشيط الشوارع لأجله أو لاجترار ألحان الحنين أو مضغ الأسف!
ورُغم هذا اللسان الجندريِّ المُبين الذي تخلعه الكاتبة على ألسنة وأحوال أبطالها في نصِّ(سباق) و (غواية) و(أقنعة )وغيرها؛فهي لا تتورَّع أيضاً من مُكاشفة أو كشف حال بنات جنسها سلوكيَّاً أو لعلَّها تُشير بطرْفٍ خفيٍّ إلى (نسونة) الغيبة والنميمة والسَّطحية كما سنرى في نصِّ (فضَّة السّكوت):
( ليس يعنيني سوى أنْ أكونَ كما أُريدُ، أنْ أتأَبَّط(الهُوِيَّة والاختلاف) بينما تطقطقُ النِّسوةُ لبانَ الحكايةِ، أنْ أُجِيلَ ناظرِيَّ فِي تقاسيمِ المكان بينما يُحمْلقنَ فِي لونِ حذائي ،أنْ أهفوَ إلِى لغةٍ تمسُّ القلبَ ولحن يراقصُ العصبَ بينما صخبهنَّ يُغَلِّفُ المكانَ. نظرْنَ إليَّ ككائنٍ زائدٍ عن الحاجةِ؛ تغامزْنَ، شممْتُ رائحةَ جسدِي على ألسنتهِنَّ بينما أدندنُ بلحنٍ قديم)!
أو ربَّما كان نداءً توعويَّاً للنسوة لنفضِ وبر الاستكانة والركون والانصرافيَّة وتجاوز القشور إلى جواهر الأمور ، وعقد مقاربة أو مقارنة سريعة بين ما هو كائنٌ وما ينبغي أن يكون عليه مثل (الهوية والاختلاف) و(إجالة النظر مقابل الحملقة في الحذاء ) و(اللغة التي تمس القلب مقابل الصَّخَب) وممَّا يزين هذا النصَّ (اقتباس المعنى ) من القرآن الكريم :( أيحبُّ أحدُكم أن يأكل لحمَ أخيه ميْتاً فكرهمتوه..) .
وعلى هذا النَّسَق الماكر الساخر واحتطاب الصُّور والمفارقات وتعرية سوءات القُبح ومناشدة الوعي للتأمُّل،يجئ نصُّ (استسقاء):
( القريةُ التيِ غَرِقَتْ بالأمَسِ كانتْ تدسُّ الجداريَّة التيِ تُزَيِّنُ قصرَ الحاكمِ. جِزْعُ الشجرةِ المٌنْتَصِب فِي مُنتصف ِالماءِ، أذكرُ أنَّه نحتَ عليه اسم آخرِ المارين بظِلِّ الهزيمةِ. تمتمَ شيخٌ ضرير فِي طريقِهِ لليابسةِ؛ كيف ينجو رفاة النائمين مِن الغَرَقِ؟ التقطتْ الجثامين همسَهُ، مارستِ الطفوَ، ورائحةُ الدَّمِ الحارِ منحتْ الماءَ لونَه الماكر! في دواوينِ الدولةِ دارتْ ماكيناتُ الطباعةِ بأسماءِ الذين صَلُّوا الاستسقاءَ، وتسببُوا فِي تشقُقِّ اللوحةِ)!
نصٌّ يمدُّ لسانه ساخراً من القهر والعسْفِ والتسلُّط وهو يُميط إزار النرجسيَّة والأنانية من خاصرة قصر الوهم مقاربة من جدليَّة الحاكم والمحكوم الأزليَّة! ولربما عندما يستبدُّ الأمر وتُعلن الأصوات عصيانها المَدنيَّ على الحناجر ؛تكشف الأفكار عن سوقها وتُلقي ببراقعها وتُسفر عن وجوهها مباشرة مثل ما نرى في قصَّة (أرشيف):
(صادروا جميعَ اللوحاتِ، نهضتُ أرسمُ مُدَّدَاً. استأصلُوا الأناملَ، اهتديتُ إلِى لسانِي، حصدتْ لوحاتِي التصفيقَ؛ قطعُوا لسانِي أيضاً، رَكَنْتُ للرسمِ بالعيونِ، ذاكرتِي مَعْرِض سِّري. يؤلمُنيِ كَم المسامير هذا)!
ومثلما كان للبوح الشفيف وإسقاطات الهمِّ الأنثويِّ نصيبٌ غير قليل ، والخوف من مجاهيل الرحيل وأشباح الانتظار المقيت؛الصوت الأعلى كما في(كنْز):
(الإسفلت الذي يقودُنا لا يعلمُ ما تعجُّ به الحقائب! ملابس نومك، صندلُك الذي يغوينيِ، الكتابُ الذي كُنَّا نقرأُه معاً، وبقايا زجاجةِ العطر. أراقبُ الطريقَ بحذرٍ غريب، بينما تطيرُ العربةُ فِي شارعٍ مأكول. قلبيِ يرقدُ فِي الدَرَجِ الخلفِي ،يحرسُ مؤونتيِ لعامِ الغيابِ)!
فإنّ ثيمة الحُب والعاطفة السامية بقيتْ منارةً تعشو إليها أشواق الكاتبة لا تحيد ولا تفتر ولا تثنيها معاقرة الحزن ولا مداولة السنين،أنظر كيف تنبت أجنحة بطلتها لتحلق في الأعالي :
(أنا التيٍ تَغضَّن وجهُها ،لا أَعِير الشيبَ بالاً، بينما أخطو نحو الذي أيقظَ زهوِي. مَدَّ ليِ بكفِّ الشوقِ؛ فأزهرتُ. منحنيِ بسمتَهُ؛ فأثمرتُ نشيداً. المرأة التيِ عاقرتِ الحزنَ رَدْحَاً نبتَ جناحاها؛ فحَلَّقَتْ)!
تلتقط الكاتبة بهجة جلال شخوصها من دورب الحياة ومنعطفات همِّها العام والخاص ولكنها تتعرَّف عليهم جيِّداً قبل أن تقدِّمهم لنا في قالب سرديٍّ يُراهن على توأمة الحدث والحديث وتصاعدهما جنباً إلى جنب إلى آخر الحكي.كذلك مقدرة الكاتبة على دقَّة الوصْفِ ؛يسَّرتْ لها مطاردة ظلال الأزمنة السَّردية واستنشاق ملامح وعبَق وعرَق وقلق الأمكنة!أمَّا القاموس الذي غرفت منه الكاتبة أو لازماتها اللفظيّة التي عزفت عليها بوعيِّ فلسفيٍّ يُشير إلى سيرورة الحياةالتي هي بالضرورة رحلة أو مسيرة ،مثل :(الدروب- الخُطى –الشوارع-الإسفلت-الأقدام –الأحذية –الغرق –الانتظار –الفراق).
عموماً (أشواق مباغتة) أقداح ملأى بالدهشة والإمتاع ..(شبابيل) تهوي على كتف الذائقة الطروب ،ولكن لا تغادر دون أن تترك عطر الأسئلة وشهيّة التأمُّل!