لبعد الصوفي في الشعر العربي الحديث

لبعد الصوفي في الشعر العربي الحديث نعمة ابن حلام.. المغرب  عندما شرع الشعراء العرب في التجديد الشعري في العصر الحديثت، وجدوا أنفسهم محاطين بتيارات متعددة من الأدب والمعرفة مثل التراث الشعري العربي القديم والشعر الغربي وشعر المهجر، فكان أن استلهموا - عن قصد أو عن غير قصد- هذا الأدب واستخدموه عن طريق المحاكاة Simulation أوالتناص Intertextuality . بالتالي ، تمظهرت جوانب التجديد في بروز الشعر الحر واحتضان الشعراء حركات الأدب الغربي مثل الرمزية والسريالية والواقعية والرومانسية، إلى جانب اكتشافهم بعض جوانب الأدب العربي نفسه والتي لم يعيروها اهتمامًا كبيرًا من قبل، مثل ألف ليلة وليلة، وبعض  المصادر المهملة للتراث العربي والتي تتضمن أشعارا صوفية عبّر المتصوفة من خلالها عن أنفسهم وعن طرقهم وعن حبهم لله وللخلائق معتمدين على الرمز وإعطاء الكلام معان باطنة لا يعكسها ظاهره. ولأن بعض الشعراء العرب المعاصرين وجدوا في هذا النوع من التعبير ضالتهم، وظفوا التراث الصوفي في أشعارهم وأثرَوا المكتبة العربية بتجارب شعرية تتخطى المحسوس وتحفر عميقا في الباطن واللاّمرئي. 

لبعد الصوفي في الشعر العربي الحديث

لبعد الصوفي في الشعر العربي الحديث

نعمة ابن حلام.. المغرب 

عندما شرع الشعراء العرب في التجديد الشعري في العصر الحديثت، وجدوا أنفسهم محاطين بتيارات متعددة من الأدب والمعرفة مثل التراث الشعري العربي القديم والشعر الغربي وشعر المهجر، فكان أن استلهموا - عن قصد أو عن غير قصد- هذا الأدب واستخدموه عن طريق المحاكاة Simulation أوالتناص Intertextuality . بالتالي ، تمظهرت جوانب التجديد في بروز الشعر الحر واحتضان الشعراء حركات الأدب الغربي مثل الرمزية والسريالية والواقعية والرومانسية، إلى جانب اكتشافهم بعض جوانب الأدب العربي نفسه والتي لم يعيروها اهتمامًا كبيرًا من قبل، مثل ألف ليلة وليلة، وبعض  المصادر المهملة للتراث العربي والتي تتضمن أشعارا صوفية عبّر المتصوفة من خلالها عن أنفسهم وعن طرقهم وعن حبهم لله وللخلائق معتمدين على الرمز وإعطاء الكلام معان باطنة لا يعكسها ظاهره. ولأن بعض الشعراء العرب المعاصرين وجدوا في هذا النوع من التعبير ضالتهم، وظفوا التراث الصوفي في أشعارهم وأثرَوا المكتبة العربية بتجارب شعرية تتخطى المحسوس وتحفر عميقا في الباطن واللاّمرئي. 
فكيف تتجلى النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث؟
يرى إبراهيم محمد منصور (د.ت.) بأن الشعراء العرب المعاصرين عرفوا الصوفية كتراث يطلعون عليه وليس كسلوك أو مذهب أو ممارسة أو فلسفة يتبعونها، ويستشهد بمحمد عفيفي مطر الذي أكد في مقال له (مجلة القاهرة، العدد 73، كما ورد في منصور، ص. 9) أن "ليس بين الشعراء من قال إن تجربته الشعرية نتاج انضوائه تحت علم 'الطريقة' أو تعبير عن سلوك طريق". في نفس الصدد، يرى بنعمارة (2001) أن الشعر العربي المعاصر مرتبط بالتراث الصوفي ويستند إليه، ويستشهد على ذلك بأربعة نقاط رئيسية:
أ- تشابه الشعر المعاصر والتجارب الشعرية الصوفية من حيث الارتباط بموضوع الوجود والسعي إلى الاندماج في الكون والاتحاد مع إيقاع العالم الخفي. تشابه التجربتين هذا يعني وجود الشبه بين طبيعة الشاعر وطبيعة المتصوف، الشيء الذي يجعل كلا منهما بحاجة إلى طبيعة الآخر. فالمتصوف يحتاج إلى طبيعة الشاعر للتعبير عن تجربته الروحية من خلال استخدام لغة شعرية يمكنها وحدها استيعاب الأحوال الصوفية، وكذلك الشاعر يحتاج إلى طبيعة المتصوف للتعبير برؤية عميقة عن تجربته الكونية. ومن ثم فإن الصوفية تؤدي إلى الشعر، والشعر يؤدي إلى اكتشاف الصوفية من خلال علاقة الشاعر بالكون الذي يوفر له العناصر الشعرية.
ب- يعبر الشاعر المعاصر عن نفسه كما يفعل المتصوف. كلاهما يميلان إلى استخدام اللغة المجازية ويتجنبان الوضوح، وكلاهما يستخدمان الرموز لكون اللغة غير قادرة على احتواء تجربتهما أو لأنهما يتعمدان إخفاء المعاني الحقيقية لها.
ج- اهتمامهما بالأشياء المجردة والروحية تجعل منهما أفرادا يسعون للحرية في أعلى درجاتها، فبينما يتجنب الصوفي سلطة الواقع والعقل، يرفض الشاعر العربي المعاصر كل القيود التي تحد من رؤيته الشعرية.
د- الحاجة ذاتها التي تجعل المتصوف شاعراً والشعر وسيلة للتعبير عن تجربته الصوفية، هي ما تجعل الشاعر العربي المعاصر يستحضر شخصيات صوفية شهيرة للتعبير عن معاناته وخلاصه. (ص. 159-160)
مما لا شك فيه إذن أن التجربتين الصوفية والشعرية تلتقيان في كونهما تجربتين إنسانيتين لا يحدهما زمان أو مكان تسعيان كلاهما إلى الغوص في الذات والبحث عن الحقيقة وجوهر الأشياء بعيدا عن الماديات والدنيويات. وهذا ما يؤكده عاطف جودة نصر (1978) حيث يقول إنه لا يوجد فرق بين التجربة الصوفية والتجربة الشعرية، فكلتاهما حسب رأيه، تنتقلان بالشخص المعني من الأليف المعتاد  إلى الحقيقة الغامضة، وتمكنهما من الوعي العميق بجوهر الأشياء. يرى نصر أيضًا أن التجربة الصوفية تكتمل بالتعبير الشعري والتعبير الشعري يكتمل بالتجربة الصوفية، بمعنى أن هنالك علاقة تكاملية بين التجربة الصوفية وترجمتها الشعرية. أما صلاح عبد الصبور (1983) فيرى أن التجربة الصوفية والتجربة الفنية تتدفقان من نفس المصدر وتلتقيان عند نفس النهاية (ص 165). بينما كان جواب الشاعر محمد الفيتوري لما سئل عن تجربته الصوفية أن قال إنها جزء من وجوده وإنه عرف الشعر من خلال معرفته بها.  
كثير من الشعراء العرب إذن ظهر في أشعارهم المنحى الصوفي سواء باستخدام المعجم الصوفي أو اللجوء إلى الترميز والعمق الدلالي أو الارتقاء إلى عالم المثل و الروحانيات هروبا من عوالم مادية متلاطمة متصادمة تصيب المتأمل بالإحباط والانكسار. 
في هذا الصدد، حاول محمد بنعمارة (المصدر نفسه، ص. 7-12) أن يبرز التأثير الصوفي على الشعر العربي المعاصر فاختار لدراسته من الشعراء المعاصرين محمود حسن إسماعيل ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور ومحمد الفيتوري وأدونيس، ذلك أن هؤلاء الشعراء كما يقول، يعتبرون الشعر تأملا في الجوهر واستماعا إلى صوت الغيب ويعبرون عن ذلك بلغة مجازية مليئة بالرموز والعلامات. وجاءت نتائج بحثه لتؤكد أن تجربة الشاعر العربي المعاصر تشبه تجربة الصوفية، فكما أن الصوفية موهبة وليست اكتسابًا فالشعر أيضًا هبة يحصل عليها الشاعر من مصدر غير مرئي؛ وكما يحرَم الصوفية من الإلهام الروحي إذا عوقبوا بذنب أو معصية، فإن الشاعر أيضًا يحرم من الإلهام الشعري ولا ينهمر عليه الشعر إلا في حالات خاصة. هذا المنظور يتناقض مع المفهوم التقليدي الذي يعتبر الشعر مجرد بلاغة لغوية ومهارة إيقاعية ويعتبر الشاعر صاحب صنعة. أيضا، يتجلى تأثير الثقافة الصوفية وإنتاجها الأدبي سواء كان نثرًا أو شعرًا على الشعراء العرب المعاصرين في كون بعضهم رحلوا داخليا نحو ذواتهم فانكفأوا عليها بالتأمل والتدبر ثم عبروا عنها بأعمق وأصدق المشاعر والعواطف، وتواصلوا مع الطبيعة بإبداعاتها ونباتاتها وفصولها وأصواتها وألوانها، لا ليصفوها ويصفوا جمالها بل لينصتوا لإيقاعاتها الداخلية ويتوحدوا معها ويتمظهروا مع عناصرها. من نتائج بحث بنعمارة أيضا أن الصوفية أغنت نظريات الشعر العربي المعاصر بالعديد من المفاهيم والتصورات في كون الشعر رؤية متعمقة تماما مثل الصوفية وباستطاعته العروج إلى سماوات اللامتناهي والارتقاء صوب السمو الروحي. أما فيما يخص الجانب اللغوي فقد أثرت اللغة الصوفية الرمزية على الشعر العربي المعاصر فصار قابلا لقراءتين: قراءة سطحية تقتصر على المعنى الظاهر وقراءة متعمقة تغوص في المعاني الخفية له، كما أن المصطلحات الصوفية صارت حاضرة فيه بقوة، في حين استحضر الشعراء المعاصرون الكثير من الشخصيات الصوفية في القصائد المعاصرة واستخدموها كأقنعة يعبرون من خلالها عن أنفسهم بلغة رمزية تنأى بهم عن كل ما من شأنه أن يشكل خطرا عليهم. 
العلاقة إذن بين التجربتين الصوفية والشعرية  أكيدة في الكثير من الجوانب، فكلاهما تسعيان للإمساك بالحقيقة والتوغل في جوهر الأشياء واستبطان الكون اعتمادا على العاطفة والوجدان والغموض، وكلاهما تتوخيان التحرر الكامل من قيود المادة والعروج إلى عالم الروحانيات عن طريق اكتشاف المجهول واللامرئي بالنسبة للصوفي والإلهام والومضات الإشراقية بالنسبة للشاعر، وهذا ما يؤكد أن الخطاب الصوفي يشكل أحد الروافد الأساسية للشعر العربي المعاصر الذي ما فتئ ينفتح على حقائق جديدة وأسئلة وجودية جوهرية.  

مراجع:
بنعمارة. م. (2001). الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر. الدار البيضاء: شركة النشر والتوزيع المدارس.
جودة نصر. ع. (1978). الرمز الشعري عند الصوفية.  (د. ن.)
عبد الصبور. ص. (1983). حياتي في الشعر. بيروت: دار إقرأ.
منصور، م. إ. (د. ت.). الشعر والتصوف: الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر (1995-1945). القاهرة: دار الأمين للنشر والتوزيع.