من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّاعة: تأمُّلاتٌ في زمنٍ مُستعاد
من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّاعة: تأمُّلاتٌ في زمنٍ مُستعاد محمد خلف الله كان جَدِّي محمود سليمان كركساوي يُصِرُّ على أن نتناولَ معه وجبة العشاء (التي تُعِدُّها خالتي فوزيَّة، صُغرى بناته)
من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّاعة: تأمُّلاتٌ في زمنٍ مُستعاد
محمد خلف الله
كان جَدِّي محمود سليمان كركساوي يُصِرُّ على أن نتناولَ معه وجبة العشاء (التي تُعِدُّها خالتي فوزيَّة، صُغرى بناته)؛ وكان دائماً ما يُردِّدُ على مسامعنا خلال الوجبة القولَ المأثور: "أنتَ تُريد، وأنا أُريد؛ واللهُ يفعلُ ما يُريد". وكنَّا نُريد، عقب حلقة الكابلي التي احتفت بالمكان، أن ننتقل إلى الفنَّان الرَّاحل إبراهيم عوض، لنبتدرَ في ذِكراه العَطِرة حديثاً مطوَّلاً عن الزَّمان، نبدؤه بأغنيته الخالدة: "يا زمن وقِّف شويَّة" (حتَّى يستكملَ ثوَّارٌ قليلو الخبرة مهامَّ الفترة الانتقالية). إلَّا أنَّ الجائحةَ قد استدعت حاجةً مُلِحَّة للتَّنبيه على مخاطرها، فكانتِ المشاركةُ السَّابقة مكرَّسةً لذلك الغرض، مع التَّشديد على المحافظة على الوحدة، ودعم الحكم الانتقالي، مهما كثُرت أخطاؤه أو قلَّت حِيلتُه.
في فترة الإغلاق الكامل ولزومِ النَّاسِ مساكنهم، نُريدُ أن نُعاودَ فكرةً سعينا إلى تحقيقها مُسبقاً ولم نُفلح في إكمالِها، وهي إحداثُ تعميقٍ للأقانيم الثَّلاثة التي استعرضناها أفقيَّاً: العالم، والعقل، واللُّغة؛ ففي البدء، لم يكن هناك مسوِّغٌ للاستعجال، فتركناها على حالها إلى أن ينبثقَ سياقٌ يُعجِّل بطرحها مجدَّداً. وهذا السِّياقُ الذي نحن بصدده الآن هو سياق الجائحة الذي يستدعي النَّفاذَ مباشرةً إلى موضوعِ الزَّمان، الذي يتشظَّى بين ثوانٍ تُقاسُ بحركة عقارب السَّاعة، وبين آجالٍ مسمَّاةٍ للموجودات إلى حين قيام السَّاعة. فهذه الجائحة (أي هذا الوباء الذي يجتاح العالم) لم تستثنِ أحدا؛ فقد طالت في موضع إقامتي ابنَ الملكة الأمير تشارلز، ولي العهد، وأمير ويلز؛ كما طالت رئيسَ الوزراء الحالي، وعمدة لندن السَّابق، بوريس جونسون (الذي أفردنا له في السَّابق عدَّة مشاركاتٍ بشأنِ التراث الإسلامي في الأندلس، المتمثِّل بصورةٍ خاصَّة في قصر الحمراء القائم حتَّى الآن في غرناطة).
ففي هذا الوقت الذي تُكتبُ فيه الوصايا على عجلٍ فوق أغطية محرِّكات السيَّارات، ويحضُرها شهودٌ من وراء أسيجة المنازل، سنوجزُ الكلامَ بشأنِ تعميق الأقانيم الثَّلاثة حتَّى لا تضيع الفكرة الكلِّيَّة، وحتى يسهُلَ الانتقالُ المباشر إلى موضوع الزَّمان. وليس ذلك خشيةً من اقتراب أجلٍ، ولكن لأجلِ قارئٍ افتراضيٍّ يستحقُّ تزويده بالإطار الكلِّي للحُجَّة؛ وسوف يكونُ هناك متَّسعٌ من الوقت، بعد انقشاع الجائحة، لتقديم مزيدٍ من التَّفاصيل، متى ما انبثقَ في الأفقِ سياقٌ يُساعدُ على استجلاء كلِّ نقطةٍ على حِدَة. لهذا، سنُبرزُ بدءاً من الفقرة التَّالية بعضَ النِّقاطِ المهمَّة المتعلِّقة بكلٍّ واحدٍ من الأقانيم المذكورة آنفاً؛ وهي العالم، والعقل، واللُّغة؛ على أن ندلف بعدها مباشرةً إلى موضوع الزَّمان، عِلماً بأنَّ هناك تداخلاً بين الأقانيم، كما أنَّها ستكونُ محكومةً، تماماً مثل محاورها المعمَّقة، بآليَّة الاعتماد (سوبرفينينس)، التي تستلزم استناد النَّاشئ على السَّابق الأكثر عمقاً منه.
أوَّلاً: العالم
بنية ثلاثيَّة تراتبيَّة للواقع:
قوًى تتحرَّكُ في مجالاتٍ، تُنظِّمها قوانين فيزيائيَّة.
ذرَّاتٌ وجزيئات في جدولٍ للعناصر، تُفسِّره ميكانيكا الكم.
موجوداتٌ حيَّة (تشملُ فيروساتٍ تنشط بالالتصاق بها)، تُصنعُ لها بروتيناتٌ عبر موجِّهاتٍ مكتوبة بأحرف كيمائيَّة محدودة.
ثانياً: العقل
بنية ثلاثيَّة تراتبيَّة للفكر
أساسٌ ماديٌّ قديم، يقوم بتنظيم وظائف الجسم الأساسيَّة من الغرفة السُّفلى للدُّماغ.
جهازٌ لإنتاج المشاعر المُعَزِّزة للبقاء (القتال أو الفرار)، يُدارُ من الغرفة الوسطى للدُّماغ.
قشرةٌ عليا قادرة على إنتاج الوعي والتركيب اللُّغوي، الذي ينشأ في الفصِّ الأيسر للدُّماغ.
ثالثاً: اللُّغة
بنية ثلاثيَّة تراتبيَّة للكلام
إنتاجٌ صوتي، محكوم بقوانين فونولوجيَّة.
تركيبٌ نحوي، محكوم بضوابط منطقيَّة.
توجُّه دلالي، يستلزم أسلوبَ أداءٍ بعينه ضمن عددٍ محدود من الخيارات.
بمعنًى آخر، فإنَّ ورود هذا الأسلوب الأدائي ضمن سياقٍ (نهائي)، هو الذي يتحكَّم ( بصورةٍ قاطعة) في تأدية المعنى. وهذا الوجه المكتمل للُّغة، عبر البنيات الثُّلاثيَّة الثَّلاث، هو الذي هيأ في نهاية الأمر لإنتاج المعرفة (الأرضيَّة)، وتلقِّي العلم (السَّماوي)، وتطوُّر العلوم الطَّبيعية، وانبثاق العلوم الاجتماعيَّة، التي تفتحُ المجالَ لإنتاجِ عددٍ من الأبنية الاجتماعية للواقع، والتي تشمل المال، والأعراف، والمناسبات الاجتماعية، والقوانين، والمنشآت، والأدوات؛ وكلَّ ما يتَّفقُ النَّاسُ عليه، من غير أن يكونَ قائماً بطبعه؛ هذا إضافةً إلى الأدائيَّات، التي تُدشِّن أوضاعاً جديدة أو تضع الأحكام أو تُرسِّم المراسيم؛ ففي سلطنة الفونج، على سبيل المثال: "عندما ينطقُ السُّلطان، فهو ينطقُ الحقيقة"، حسب ما جاء في "عصر البطولة في سنَّار"، من تأليف جاي إسبولدينغ، وترجمة أحمد المعتصم الشِّيخ؛ "وإذا تكلَّم السُّلطان بطريقةٍ رسميَّة من فوق كرسيِّ العرش، فإنَّ كلماتِه تكتسبُ قوَّة القانون". وبهذا الاقتباس، نختمُ هذه الحلقة التَّمهيديَّة، آملين أن تنشأ قوانينُ نرتضيها، صادرةً من هيئاتٍ تشريعيَّة منتخبة، بعد أن تركنا وراءنا عهداً تتحكَّمُ فيه الإشارة، والتَّلويح بعصا، والتَّآمر بليل.