مدينة من رماد.. (بين جيمس جويس وعلي المك) معاوية محمد الحسن
مدينة من رماد..
(بين جيمس جويس وعلي المك)
معاوية محمد الحسن
_(1)_
عرف عن جيمس جويس شدة شغفه بمدينته التي احب وهي دبلن ولم يعش فيها كثيرا حيث كان دائم الترحال بين زيورخ وباريس وغيرهما من المدن، لكنه لم يكتب الا عن دبلن مهبط وحيه والهامه حتي قال النقاد ان جويس لم يغادر دبلن الا لكي يكتب عن دبلن، وقد ذاع في الناس والي يومنا هذا كتابه البديع Dubliners ناس من دبلن او اهل دبلن ان شئت ولا اراها تترجم الي (دبلنيون ) فالنسبة الي كلمة دبلن هنا ثقيلة وبهذه المناسبة هل كان كاتبنا الكبير ابراهيم اسحق واقعا تحت تاثير جويس حين كتب (ناس من كافا) ..الله أعلم، ولكن ربة الالهام جائلة تحوم فوق رؤوس العباقرة والافكار علي قارعة الطريق .
حاول جويس العظيم في مجموعته القصصية الموسومة باهل دبلن، تصوير نماذج انسانية من المجتمع الايرلندي ابان الحقبة التي تلت الحقبة الفيكتورية وشق عليه أنذاك ان يري معاناة المدينة واهلها يكابدون رهق الحداثة والتحولات العظيمة فكان يصور الحال كما لو ان المدينة قد الم بها الشلل وذلك في قصتة sisters الشقيقات حيث عرض شخصية الراهب فليين الذي يلقي مصرعه في بيته وحيدا وكأن الشلل الذي اقعد جسده هو بعض من شلل الحياة الاجتماعية والثقافية الذي حل بالمجتمع الايرلندي انذاك وكان السكتة الدماغية التي مات بها فلين هي التي المت بدبلن. ويعزو جويس الماساة الي تقاليد الكنيسة الكاثوليكية والي امر اخر يتعلق باحتلال الامبراطورية العجوز لبلده ايرلندا وقد افاض النقاد واطنبوا حول مقاصد جويس فاسقطوا الرمز علي الواقع وقالوا ان جويس حانق علي المستعمرين وعلي جملة اشياء اخري وانه يبكي ويندب مصير بلده الحبيب وقالوا وقالوا، ومازال صاحب (يوليسيس) مسيطرا علي الاذهان حتي شغل الناس وهو ينام ملء جفونه وهكذا هي قيمة الفن العظيم.
تنهض في دواخلي وانا اقرا جويس صورة علي المك وامدرمانه، ما ابدع كليهما، جويس وعلي المك، بيد ان عليا لم يبرح امدرمان كي يكتب عنها مثلما فعل جويس مع دبلن ولم يتفجع علي حالها فعل جويس مع مدينته ولكننا نراه متدلها ..فقط متدلها في حبها .يجعلها نموذجا في التخييل ويكرس وجودها كفردوس مفقود ولم يكن يطيق فراقها حتي اذا ذهب في رحلة بالسيارة عابرا الجسر نحو الخرطوم .
تلك اذن حالة رومانسية تتعلق بالمكان اعيت من يجاريها، جنون مرتبط باشياء كثيرة كانت امدرمان هي واسطة العقد وهي من يجمع هذه الاشياء بعضها الي بعض .ليس صحيحا دائما اننا نقع في محبة المكان الجغرافي او العالم الهندسي هكذا لمجرد اننا وجدنا فيه او انه شهد صرخة ميلادنا فالمكان ليس جغرافيا فحسب ولكنه ايضا ناس وبشر وام درمان التي نهضت في ذهن المك وترعرت ليست الا فضاءا جماليا ساحرا ..وقل يا عزيزي بصريح اللفظ انه قد عشقها حين نظر اليها بعين الفنان لاسواها وهل ثمة فرق؟
نعم ..فالمكان الجمالي وان كان يستند في بناءه الي تصوؤات المكان الهندسي الا انه مفارق له بعض الشيء في الرؤية والخيال ويستند في بناءه علي العالم النفسي لشخصية عاشق المكان حيث يستلزم الامر ان يكون المكان الجغرافي قد اسهم في صياغة عالم الشخصية الداخلي بدرجة ما عبر سلسلة من التفاعلات الوجدانية ولو ان الامر غير ذلك لما احب علي المك امدرمان الي هذا الحد.
انا لااحب امدرمان ،ربما احببتها قليلا وقد حاولت ان اقع في حبها وفشلت فقلت في نفسي ربما ان هذا الامر يقدح في وطنيتي فقام في خلدي ان من جذروا امدرمان في الثقافة الوطنية ارادوا فعلا ان يرسخوا لها كحالة ترتبط بالانتماء الحميم للوطن ولعل هذا الامر قد جاء في اطار حركة المقاومة التي شنها المهدويون الانصار صد المستعمر التركي حين جعلوا امدرمان هي مدينة الثورة ازاء الخرطوم التي لم تكن الاصنيعة المستعمر وحده .
ولكن كيف احب علي هذه المدينة ذات الرماد المتناثر كل هذا الحب الفريد ثم لفظ انفاسه الاخيرة بعيدا عنها؟
_. (2)_
وكأنما لاشيء كان يغري بالعيش في عصر الحداثة الباكر حينما نشر جويس مجموعته المسماة ( اهل دبلن) حيث كانت الحرب العالمية الاولي قد اندلعت فحصدت الارواح وكانت الاوبئة مثل الكوليرا ماتزال تفتك بالبشر وقوي الاستعمار تكشر عن انيابها و تجتاح بلدان افريقيا واسيا
،واشاعت القصص حين نشرت في تلك الظروف لدي جمهرة النقاد الكلاسيكين ارتباكا عظيما ساعة تاملوا اساليب بناءها فلاحظوا ان جويس المجنون يقوض التقاليد الادبية العتيقة فيلجأ للرمز ويحطم البنية السردية الكلاسيكية بلامبالاة ،فنجده مثلا في نص( الشقيقات) وهو اول نصوص المجموعة يختار هذا العنوان للنص مستمدا اياه من شخصيات الاخوات الثلاث للقديس(جيمس فلين) مع كونهن لا يلعبن دورا محوريا في القصة وكان الفن السردي انذاك قد بدا يتجه نحو الاحتفاء بالحبكة وبناء الحدث اكثر من رسم وصناعة الشخصية وتلك هي احدي ماثر جويس العظيم.
بدت دبلن في نصوص المجموعة منهكة ،تعاني شللا الزمها اليه حسب رؤية جويس الاحتلال البريطاني الذي لم تتخلص منه الا في العام١٩٢٥ وقد وقف جويس يصرخ من خلال نصه المشار اليه بصوت مبحوح فقال النقاد انه استخدم شخصية القديس فلين كرمز لمدينته التي كانت تعاني وطاة الكنيسة الكاثوليكية.
والبطل الرئيس في قصة جويس (الشقيقات) صبي لم يمنحه الكاتب اسما وهو يبدو منذ بداية النص علي علاقة وطيدة بالقديس فلين الذي يتلقي علي يديه الدرس في الكنيسة وفي ذات يوم يري الصبي في منامه رؤيا غريبة عن القديس وفي صبيحة اليوم التالي يجلس الي طاولة الطعام فيسمع صديقا للعائلة يتحدث الي عمه ناقلا اليه خبر وفاة القديس فيسرع الصبي نحو منزل فيلين ويقرا اعلانا علي الباب يقول ان القديس قد رحل عن العالم متاثرا بالسكتة القلبية ثم نراه يغرق في الذهول ولا يظهر انه يتفجع علي رحيله فليس هناك ماينبيء عن حزنه حين اختلف بعد ذلك مع عمته الي منزل القديس مرة اخري حيث ترقد الجنازة و لكن طافت بخاطره الرؤيا المنامية التي راها عن معلمه واندهش حين سمع احدي شقيقات فلين تقول ان الرجل قد اصابته لعنة الرب لانه كان قد انتهك حرمة قربان مقدس او نحو ذلك فاصابه الشلل ثم السكتة الدماغية فمات.!
لم يكن جويس عاطفيا محضا مثل مواطنه الشاعر الكبير( ييتس )وهو احد رواد الحداثة في علاقته بدبلن بل كان يقدم رؤية ناقدة اكثر واقعية
كان جويس رغم حبه لدبلن لايريد ان يذم المدينة ولا ان يمدحها ولكنه اراد ان يقدم حولها صورة اكثر واقعية وكان يقول ان مهمة الفنان ان يعرص الواقع وانه اراد حقا ان ياخذ مدينته من يدها الي حيث توضع مراة كبيرة فيجعلها تنظر الي نفسها في المراة عارية وهي بلا مساحيق وبلا رتوش زائفة.
ومثلما كان( وليام بتلر ييتس )حالما وعاطقيا وهو يمد بصره نحو ايرلندا كذلك كان علي المك حين يستدعي امدرمان في نصوصه وهذه هي نقطة الاختلاف الجوهرية بينه وبين جويس حول علاقة كل منهما بمدينته فجويس كان واقعيا بينما علي المك كان رومانسيا ،ينظر الي امدرمانه و كانها قديسة مبراة من النقائص ،ولعلنا احيانا نلمس شيئا من تبرمه بضيق العيش وبرهق الحياة في امدرمان ولكن الكاتب الكبير كان لايقسو علي مدينته بل كان يغفر ويصفح فعين الرضا عن كل عيب كليلة .
ويقول لزائر مدينته التي هي من تراب انني اقدم لك مفتاح مدينتي وهو من طين كانه يقول هذه هي بلادي التي احب وهي هكذا فان شئت فتقبلها علي علاتها وان شئت فغادرها!
ونري عليا في نص مدينة من تراب يوقعنا في غواية المكان ويقدم رؤيا شاعرية وتلعب اللغة والكلمات دورا سحريا تجعل القاريء يصاب بالدوار ويعتريه الخدر اللذيذ ، فعلي المك كشان مدينته بارع في الغواية وهو لايكتب الا نص اغراء كبير حين يسهب وهو في غمرة سكرته بامدرمان في وصف بيوت الطين وسوق الجلود وحي العصاصير والحيطان المطلية يروث البهائم وتلك الازقة الضيقة ، انه يقدم رؤيا صوفية يستعذب فيها الدراويش مشقة جهاد النفس فيلفظون لذيذ العيش ويستمتعون فقط بالسمو الروحي وهذه الرؤيا الساحرة تجعل القارئ يقمع اي شعور من شانه ان يقود لكراهية امدرمان .هكذا يكون الفن العظيم حين يحرك العواطف ويثير الخيال فيسلم القاريءامره للكاتب وتلك طاقة سحرية لم يؤتها الا الافذاذ من امثال علي المك.
ولعلنا ا لانبالغ اذا قلنا ان علي المك قد صنع من امدرمان اسطورة لانه فقط قد اراد لها ان تكون اسطورة، وانه ركل تحت قدميه كل مدينة اخري سواها وقد رحل المك في بواكير سنوات الحكم الغاشم وترك مدينته وراءه تسقط مثل شجرة عجوز في نيران المحرقة ولم يكد يتبق منها الا نثار رماد تذروه الرياح .!
يا لمدرمان!