خارج المتاهة / محمد عتيق *لجان المقاومة* *والحركات السودانية المسلحة*
خارج المتاهة / محمد عتيق
*لجان المقاومة*
*والحركات السودانية المسلحة*
____________________________
كان القرن الماضي بحق هو عصر حركات التحرر وانفجار الثورات الوطنية في وجه الاستعمار ، وكان أيضاً عصر خروج بعض الجيوش عن مهامها الأساسية وتغوُّلها على المناشط السياسية والمدنية ؛ عصر الانقلابات العسكرية ، المستبد العادل ، والقائد المُلْهَم ...إلخ..
وكجزءٍ من هذا العالم وتياراته المتصارعة والفاعلة شهد السودان كل تلك الظواهر من انقلابات عسكرية وحركات معارضةٍ مسلحة ، *(فهل يمكننا وصف ذلك الصدى السوداني بنفس تلك الأوصاف ؟)* .. وظلت حركة التنظير لتلك الظواهر والتغَنّّي بها تسير جنباً إلى جنب معها .. ومع التراجع الواضح لذلك العصر أمام عصرٍ جديدٍ هو عصر الديمقراطية والنشاط المدني كان لا بد لحركة التنظير والتفسير أن تواكب ذلك التحَوُّل والانتقال وتُلقي بعض الأضواء على الحركات المسلحة التي تُصٍرٌّ على أن تكون كسابقاتها *(شكلاً وتفشل موضوعاً)* ..
في هذا السياق سينظر التاريخ بتقدير بالغ للدور الرائد الذي قام به الشهيد جون قرنق في تطوير حركة الجنوبيين السودانيين المسلحة في عدة اتجاهات أبرزها أنه جعل منها - وعلى نقيض الاتجاهات السابقة التي كانت اما منكفئةً على الجنوب أو مُطَاٍلبةً / ساعيةً لإنفصاله عن الشمال - على النقيض من ذلك جاءت حركةً سودانيةً تسعى للوحدة على أسسٍ جديدةٍ قوامها مساواة الجميع أمام القانون والفرص ، ومناطقهم في فرص التنمية مع التمييز الإيجابي فيها ، انطلاقاً من "السودانوية" التي تجمعهم وتوحدهم ، ومن أن القضية في السودان (شمالاً وجنوباً ، شرقاً وغرباً) هي قضية واحدة تتلخص في التخلف والفقر والتمييز والأمية بدرجات تتفاوت هنا وهناك لأسباب موضوعية .. وعندما جاء إلى سُدة الرئاسة نائباً أول بعد اتفاقية نيفاشا كانت الأقدار بالمرصاد قبل أن يرى الناس مدى قناعاته بالفكر الديمقراطي ومدى تفاعله مع تياراته المدنية وارتباطها بأشواق ألناس في التحرر والبناء والتقدم ، ذلك باستشهاده ولم يمضِ شهرٌ على ذلك المجيء إلى سدة السلطة ، فقد كان النظام الاسلاموي منحنياً أمام العاصفة وانطلق بعد استشهاد قرنق في تنفيذ مخططه لفصل الجنوب والعمل على ذلك علناً وقد تحرر من عبء الرجل وتأثيره الواسع على البلاد ، ومعه تحرر العالم الذي عمل على التخلص منه (من قرنق) ومن حرصه على الانطلاق في المواقف والسياسات الداخلية فقط من مصالح السودان العليا وفي مواقفه وسياساته الخارجية من إحترام مشاعر ومصالح جيرانه ومحيطه ..
وإذا كانت الساحة قد امتلأت بالحركات المسلحة بعد "الحركة الشعبية لتحرير السودان" إلّا أنها راحت تحاكيها في "الشكليات" وبنود التفاوض دون أي إهتمام لأسباب نشوئها والقضايا التي تُمَثِّلها ؛ اهتمامات فكرية نظرية ترتبط بالأداء والمواقف العملية .. مثلاً : (حركة تحرير السودان) ، نشأت اولاً مُوَحًّدَةً بين قائديها عبد الواحد محمد نور رئيساً و أركو مناوي اميناً عاماً ، وما لبثت أن انقسمت إلى كتلتين كُلٍّ يرأسها أحد القائدين (جناح عبد الواحد وجناح أركو مناوي) ولاحقاً تناسلتا إلى عدة أجنحة.. وحركة العدل والمساواة التي أتى ميلادها كرد فعل على الانقسام في جبهة النظام الاسلاموي الذي اشتهر ب "المفاصلة" إلى : مؤتمر وطني حاكم و مؤتمر شعبي معارض والذي - كما يُقال - كان خلف ميلاد حركة العدل والمساواة بدليل أن أهم قياداتها وكوادرها كانوا مسؤولين في الجبهة الاسلاموية الحاكمة ؛ من كان وزيراً أو مسؤولاً أمنياً أو ( دَبَّابَاً ) وعند الانقسام راحوا مع المؤتمر الشعبي "جناح زعيم الحركة د.حسن الترابي" ، ذلك قبل أن تنقسم هي الأخرى إلى حركات عدلٍ ومساواة متعددة ..
كانت قضية الجنوب قضية تخلُّفٍ وغيابٍ للتنمية مثلها مثل قضايا المناطق الأخرى في البلاد ولكنها بدرجةٍ أعلى واعمق ، وامتازت عن غيرها بالتمايز الثقافي والحضاري بين الجنوب وانحاء البلاد الأخرى ، وقد عبَّرَ عنها الراحلين الكبيرين جون قرنق ومحمدعلي جادين أحسن تعبير .. ولكن الحركات اللاحقة في دارفور وغيرها ذهبت في محاكاتها للحركة الشعبية مذاهب لا تَدُلُّ إلَّا على خمولها الذهني والنظري .. بدأت التفاوض مع النظام الساقط بذات الأجندة والأبواب التي فاوضته بها الحركة الشعبية وبتركيزٍ خاصٍّ على : اقتسام الثروة والسلطة ، والنظام فاسدٌ مُفسِدٌ وماكر ، أخذ يصطاد - في كل جولة تفاوض - بعض أطراف تلك الحركات (مثل السيسي و أبو قردة وغيرهم) ، ثم بعض الحركات (ولو لفترات قصيرة) مثل جناح أركو مناوي في حركة تحرير السودان ، وهكذا ..
والحركة السياسية - الموصوفة بالضعف - لم يكن أمامها سوى الاحتفاء بتلك الفصائل(الحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال والانقسامات المختلفة اللاحقة بعد انفصال الجنوب - حركة تحرير السودان قيادتي عبد الواحد ومناوي - حركة العدل والمساواة) ، احتفاءً وصل حد التدليل .. ومع ذلك استندت حركة الأجيال الجديدة على تلك القوى السياسية الشمالية اضافةً إلى استنادها على نفسها وابداعاتها النضالية في تفجير ثورة ديسمبر الجبارة واتصال الصعود بها ..
وكان رد الفعل على الثورة هو تآمر النظام الساقط وأربابه من الاسلامويين والانتهازيين عليها بأن لجأوا لحيلة *(انحياز الجيش للشعب)* ؛ الجيش جيشهم كذلك الأمن والشرطة وأجهزة العدالة ومليشيات الجنجويد ، كلها تتبعهم بعد سياسات التمكين التي انتظمت البلاد لثلاثين عاماً .. وبعد أن *"حدث ما حدث"* بدأت قيادات تلك الحركات زياراتها المكوكية في المنطقة ، ثم الحضور إلى الخرطوم تباعاً ، كما بدأ موسم حجها إلى صفوف أعداء الأمس في الجيش والجنجويد والدخول معهم في مفاوضات/مساومات انتجت "سلام جوبا" الذي أتى بهم إلى *السلطة والمال* بحماية قواتهم/مليشياتهم المسلحة : الفحيح نفس الفحيح ، العُقد هي ذات العُقد ، والتكرار الممجوج : ( الخرطوم دي اصلاً ما عندها سيد ، العمارات دي رح تسكنوا فيها /أو تسكن فيها الكدايس ، تقبل تعرِّس لي أختك؟ ...إلخ..إلخ) .. وإطلاق الأيدي المتسخة لنهب الناس والبلد "مسؤولين وجنود" متوهِّمين أنهم إنما يستردون حقوقاً سلبها منهم الجلابة ، أبناء الشمال ، أبناء الشريط النيلي .... كل المآسي ؛ الحقيقية والمُتَخَيَّلَة ، هي من فعل الشمال وأبناء النيل ... فليس من الغريب أن ترتفع أصوات تنادي بدولة الشرق أو الغرب ، ولا بقوات الوسط ومليشياته ، كلها أفعال بائسة وردود فعل مساويةٌ لها في البؤس والجهل ، وستبقى كذلك إلى أن تكتسحها ثورة الوعي والزهو التي تقودها "لجان المقاومة" (نعمة الله على السودان) ..
13.11.2022