حوار الثقافات

حوار الثقافات د. نعمات كرم الله حامد من الموضوعات الرئيسة التي تناولتها ثلاثية (طواحين النمل) للكاتب علي أحمد الرفاعي هو حوار الثقافات بين الشرق والغرب من خلال شخصية (حسون ود النعمان) الذي نشأ وترعرع في قوز قرافي حيث يصفه الراوي "

حوار الثقافات

حوار الثقافات

د. نعمات كرم الله حامد

 

 

 


من الموضوعات الرئيسة التي تناولتها ثلاثية (طواحين النمل) للكاتب علي أحمد الرفاعي هو حوار الثقافات بين الشرق والغرب من خلال شخصية (حسون ود النعمان) الذي نشأ وترعرع في قوز قرافي  حيث يصفه الراوي " لقـد ولـد حـسو ن كمـا تولد الفكـرة القـادرة علـى الـصمود وعلـى التغییـر، وفـي شرایینه زمن لا ینتمي إلـى الـشرق ولا إلـى الغـرب ، (...).  وحین أُدخل المدرسـة الأَولیـة بالقریـة بهـَر أَساتذته بذكائه القاطع ؛ فنقلوه إلى  الصف  الثاني وهو الذي لم یقض بالـصف الأَول شـهرًا ، ومنـذ ذاك الحـین لـم یحلـم أَحـد مـن زملائـه بالتقـُّدم علیـه ؛ فقـد كان أَول صفه مع فارق كبیر في الـدرجات بینـه والتـالي لـه. لقـد كـان رغـم صـَغر سـِّنه یمیـل إلـى العْزَلـة ـــ ولـیس الانطـواء ـــ وكثـرة التأَمـل ؛ ولا عجـب أَن یقـول عنـه بعـد ذلـك أُستاذ اللغة العربیة بالمرحلة الوسطى: ( حسون ضمیر بارز منفـصل) . غیـر أَنَّ هــذا الــضمیر ســرعان مــا صــار ضــمیراً متــصلا فــي مرحلــة دراســته الثانویة ، التي كانت أَول عهـده بالمدینـة . وحـین كـان زمـلاؤه یـضحكون مـن لهجته القرویة ؛ كان یرد علیهم بحزم  بأَنَّ انتماءه للقریة لا یعیبه ، مْثلمـا أَنَّ وجـوده بالمدینـة لا یزیـده شـرفًاً، وتمـضي الـسنوات ویلتحـق حـسون بجامعـة وطنيــه بنتیجــة مــشرفة ؛ فقــد كــان ترتیبــه الأَول بــین كــل الطلبــة المتنافــسْین لدخول الجامعة ." (الطاحونة: ص26).
هكذا يعكس لنا الراوي العليم نشأة حسون وتفوقه واهتمامه بالعلم والتحصيل والمعرفة واعتزازه بأصله.  وأنه مشبعٌ بالإنسانية التي لا تحدها حدود ولا خرائط.
ثمّ يزيدنا علماً بأنّ هذا النبوغ والتركيز المعرفي قد حثّه عليه والده حاج النعمان فنقرأ على لسان  المأمون، وهو أحد شخوص الرواية ومن أصدقاء حسون المقربين، "...السبب الرئيسي كان عمي النعمان، الذي سجن في مروي بسبب دفنه أحد الخواجات في طين جدول ساقة حامد، فأقسم بعد خروجه من السجن إن ولد له ولد أن يدعه يصل أعلى مراتب العلم، حتى يتحدث لغة الخواجات ويحاربهم ويبعدهم عن وطنه." (قبيلة من وراء خط الأفق: ص46).
وعند وصوله الجامعة " ولما كانت مـادة الكیمیـاء تـستخف بكـل تطلعاتـه الأُخـرى؛ فقـد وجـد مقعـده بالجامعـة علـى رأس المتقـدمین لدراسـة الكیمیـاء، ولكـن فـي عقله وفي روحه كانت ترقد كیمیاء أُخرى، وهذه ربوةٌ أُخرى.
بْیـَد أَنَّ ذلـك لـم یحرمــه متعــة التعُّمــق فــي كافــة المعــارف؛ إذ شــارك فــي عدیــد مــن النــدوات العْلِمَّیة والأَدبیة؛ مما حدا بأَحد أَساتذة الجامعة أَن یـصفَه وصـفًا غریبـا حـین عقّب على إحدى الندوات التي قدمها : (حسون له قلب شاعر وعقل نبـي.) (الطاحونة: ص26/27).

 

 


 كل ذلك وحسون یواظب على الحضور إلى قریتـه فـي كـل عطلـة مهمـا كانـت قصیرة، "ولكنَّ أَمراً جسیما كان ینتظـره . فمـا أَن أَنهـى سـنته الدراسـیة الثانیـة حتى أَذهل الأَساتذة الأَجانب الذین قـدموا لوضـع درجـات الامتحـان؛ فقـد أَحـرز حـسون درجـات لـم یحرْزهـا طالـب قبلـه، لا فـي جامعـاتهم ولا فـي جامعـات مستعمراتهم؛ فكتبوا توصیة عاجلة بأَن یكمل دراسته الجامعیة في لندن علـى حساب الحكومة الإنجلیزیة، وتوصیتهم قرار ".هكذا سافر حسون بعینیه الواسعتَین، وصدره العریض، وعظامـه الكبیـرة لا يُتخطى.
"سـافر إلـى لنـدن بـسبب حبـه للحقیقـة . لقـد أَحـب حـسون الحقیقـة وتحـسس طریقه إلیها حتـى أَوجـع قـرون استـشعاره، َ وحـین وجـدها سـقط علیهـا سـقوط الورق على البر . َّلقد ملأَت الحقیقة التي كان حبها سببا فـي تفُّوقـه عقله فأَرهقت قلَبه." (الطاحونة: ص27/28).
وهكذا تفوّق على الأوروبيين في العلم والمعرفة، ليس فقط في مجال الكيمياء بل أيضاً الفيزياء وغيرها من المجالات المعرفية، وعمل أستاذاً بالجامعات الأوروبية وزاع صيته. وحين ساله المأمون، في إحدى عطلاته، عن سر تفوقه على زملائه من الإنجليز، أجابه "حين أجلس لأي امتحان مع الخواجات، تواتيني حماسة أهلي في الشمال مجتمعين." (قبيلة من وراء خط الأفق: ص45).
نلاحظ من اجابة حسون ود النعمان ثقته بنفسه وبأهله وبهويته وقبل كل ذلك بالله سبحانه وتعالى خالق الناس من نفسٍ واحدة. إنّ إستخدام مفردة (الخواجات) في مقابل مفردة (أهلي) تدلل على عمق الذاكرة الجمعية التي يتصرف من خلالها. كما يعكس تماماً أنّه نهل من علمهم ومعرفتهم ولكن روحه ووجدانه لم يتأثرا بهم فروحه مشبعة بتراث بلده ووجدانه ينبض بحب الأرض الذي ورثه عن أبيه، كما أورد السارد "  لقد شرب مـن وجـدان أُوروبـا، لكـنَّ أُوروبـا لـم تجـر قـطُّ فـي وجدانـه." (الطاحونة: ص20). وعندما بلغ هذه المكانة العلمية، قرر أن يلعب دوره كعالم ومفكر للتعبير عن موقفه من الحضارة الغربية، وذلك عبر مخاطبة الأوروبيين بنفس منطق علمهم بطرح الأسئلة الكبيرة وفتح أبواب الحوار. دعونا نقرأ ما حكاه الراوي في هذا الصدد " ... أَحـسّ بأَنـه قـد أَصـبح  جـزءا مـن القلق الذي یعتِري المخلوقات الراقیة. َولأَنه باحث عن الحقیقة؛ لـم یغـب عـن باله لحظة أَنـه مـن أَهـل القـارة العاشـرة . ِإزاء هـذه الكیمیـاء الداخلیـة العجیبـة التي ذكرنا؛ كان من الطبیعي أَن یكون لحـسون موقـف مـن الحـضارة الغربیـة ممثلة في الأُوروبیین، وذلك حین وقف في حدائق (الهایدبارك) وأَلقى خطبتَه التي خاطب فیها الأُوروبیین، والتي جاء فیهـا ضـمن ما جاء:  
(أَجدادي وأَجدادكم كانوا كالدیك والحْدأَة .. الدیك یخاف الحدأَة لأَنهـا أَقنعته بالخوف منها منذ أَن كان كتكوتًا). َ.. لقــد أَوصــاني أَصــدقائي قبــل أَن أَتــي إلــیكم، أَن أَزرع الــشمس الأَفریِقیــة الصاخبة بین طیات وسائد لیلكم البارد. َ لقـد طلـب منـي أَصـدقائي قبـل سـفري إلیكم أَن أَسأَلكم أَسئلة محددة: لماذا أَیهـا الأُوروبیـون ترِغموننـا علـى دراسـة كــل مــا یتعلــق بلینــین وهتلــر وجــان دارك وجــورج الثــامن، وأَنــتم لا تكــادون تعرفـــون شـــیئا عـــن بعـــانخي وعمـــارة دنُقـــس والمهـــِدي وعبدالفـــضْیل المـــاظ وعبدالقادر ود حبوبة؟ من سمع منكم واحدا من هذه الأَسماء فلیرفع إصـبعه؟ (لم یرفع إصَبعه احد.) ُّلماذا أَیها الأُوروبیون تـصدرون إلینـا میـاه بـوِالیعكم ونصِّدر إلیكم العقول والرجال؟ لمـاذا ــ منذ ولدنا ـكتبتم أَسماءنا في ذیل قائمـة الانتظـار؟ وهـا نحـن منتظـرون، قـد مَّلنا الانتظار وما مللناه، ولا تعودنـاه. َ لمـاذا یحـضن دجاجنـا بیـضاً فاسـداً لا یفِقس؟ بل لمـاذا یـصُّر دجاجنـا علـى أَن یحـضن هـذا البـیض؟ أَلأَنـه غِبـي؟ أَم لأنه مْأمور؟ أَم لأَنـه یخـشى أَن یحـضن بیـضاً غیـر فاسـد؛ فـیفِقس عـن دیكـة مْثل دیكـة أَجـدادنا، التـي أَقنعـت الحـدأَة كـل دیـك منهـا بـالخوف منهـا منـذ أَن كـان كتكوًتـا ؟ أَتـَرى دجاجنـا مـا زال مـصابا بعْقـَدة مـن دیكـة أَجـدادنا؟ أُم تـراه یمقُت الدیكة عامة؟ أَیها الأُوروبیون: (...) أَنتم لَیٌل ونحن الـصباح.. أَیهـا الأُوروبُّیـون: قلیـٌل مـن التواضـع وقلیـٌل مـن الحیـاء، وتعـالوا إلینـا فـي القارة العاشرة التي ازدهرت قبل أَن یعـرف الأُوروبیـون أَرقـام الحـساب.. تعـالوا إلینــا كمــا جْئنــا إلــیكم، لا كمــا جــاء الینــا أَجــدادكم وآبــاؤكم .. تعالوا نعلمكــم الضحك والفقر والاستحمام." (الطاحونة: ص28/29).
هذا الخطاب ذو الطابع الإنساني يأتي من الجيل الجديد، جيل هو الثالث في ترتيبه بعد جيل الأجداد والآباء، جيل من الواضح أنّه يمقت الإستعمار ولديه أدواته للتعاطي مع الآخر، كما ورد في خطبة حسون ود النعمان.
ثمّ غادر حسون لندن غير آسفٍ واستقر به المقام بأحدى الدول الأفريقية كأستاذ بجامعاتها. وخلال ذلك لم تنقطع صلته بالقوز، بل عاد اليها وتزوج من قاريقا، وفي نفس ليلة الزواج اكتشف أنها أخته التي جرفها السيل الذي ضرب منطقة مروي إبان عمل والده بها. فما كان منه إلا أن قتلها وانتحر شانقاً نفسه. وتفاجأ كل الأهل ولنقرأ حكاية السيل: "السیل یشمئُّز من غرفة النعمان فیضربها ضربة مترفعة؛ یهرع على إثرها النعمان ویحمل ابنهحسوناً ویأمر ست الجْیل أَن تحمل آمنة. لكنَّ مباغتة السیل كانت أَقوى من تحُّمل ست  الجْیل؛ فأَوقفت عقلها للحظات حملت فیها الوسادة وتركت آمنة . َ أَسرع الأَعرابي اللبیب ولف آمنة في  مزعة قماش وجَدها إلى جوارها ووضعها على یدیه ، وبرْفق ضمّ الطفلة إلى صدره، وبرشاقة متناهیة جرى في الظلام صوب بیته. ومن خلفه صوت السیل وهو یخور كالثور.." (الطاحونة:ص51)."
لقد حاول الأديب علي الرفاعي أن يعرض موضوع العلاقة بين الشرق والغرب برؤية مختلفة أساسها نزعة إنسانيّة تحترم ثقافة الآخر وحضارته؛ وتأخذ في الإعتبار أنّ أصل الإنسان واحد، وتُنمي الخطاب الفكريّ الإنساني العادل الذي يُكرس ويُعلي دور المثقف الذي هو "ضمير الإنسانيّة النقديّ"، الّذي يشتغل كصوت جهوريّ جريء يناضل ضدّ الإقصاء والتهميش، وينتصر للقضايا العادلة كما يؤكد إدوارد سعيد في كتابه الموسوم الإستشراق  "وحدها العقول الّتي تبقى بمنأًى عن التجربة البشريّة لفتنة الحرب، والتطهير العرقيّ، والهجرة القسريّة، والتمزّقات التعيسة، وحدها قادرة على صياغة نظريّات إنسانيّة خلّاقة".