أضعف الإيماض
أضعف الإيماض.. لمياء شمت أن الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الكسرة والدواء لا تقتل الأعداء لكنها تقتلنا إذا رفعنا صوتنا جهارا تقتلنا وتزهق الصغارا أمل دنقل
أضعف الإيماض..
لمياء شمت
أن الرصاصة التي ندفع فيها
ثمن الكسرة والدواء
لا تقتل الأعداء
لكنها تقتلنا إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا وتزهق الصغارا
أمل دنقل
دوار يومي شاق ظل يغوص بالجموع المنهكة إلى دركات العتمة، هناك حيث يتسجى الجسد المتضخم للمدينة الجهمة، بتمدداتها الورمية الشائهة، وتكتلاتها المعمارية المكتظة المنحازة للقبح، وطرقها الأفعوانية المتقاطعة المتحالفة مع الخطر، وحشودها البشرية المائجة، فإذا هي حيز فوضوي مضطرب، يجسد كم الرصيد الهائل للتجارب العبثية، والإخفاق النهضوي والإفلاس الحضاري للمتشدقين بمشروعهم "الضاري". والتخبطات الفادحة وما خلفته من آثار غائرة على الجسد الاجتماعي المبتلى الموهون. والمحصلة: وطن هش الملامح آيل للقاع، بعد أن تم تدميره كحيز وكفكرة. لذا فإن معاينة الحال لم تكن تلبث أن تتحول إلى تحديق موجع لا يجلب إلا الأسى العميق والحزن الحانق.
حيث لم يقتصر الأمر على أزمات المعيش اليومي المتفاقمة المتفجرة بلا نهاية، والتي تحولت لصخر جبار يطحن بين رحاه من يطحن من شعب مكلوم تائه على حدود الزمان والمكان، يكدح في رهق طويل، وعنت يومي مخضب بالقهر. وجموع تلهث في البحث عما يقيم الأود، يصفعها هجير الانكسار، وتسفعها عواصف العوز، وتتناوب على هامتها العزيزة مطارق الهم والغبن، في حياة يومية ضروس كانت محض سفر في المجهول، وضرب في عراء شاسع ماحل، لا ينجو من غوائله إلا من باع نفس وضميره لجماعة المتأسلمين، ودخل مطأطئاً إلى حرز كنف السلطة المكين.
فلكأن مجمل المشهد حينها يتحول إلى عرض مأساوي مفتوح، يقدم فصولاً غرائبية لا تُجارى ولا تبارى، للجموع المكروبة، وهي تخوض كرها لجج الأسقام والأوضار والرداءات، تنبش جمرها الملتهب بحثاً عن طيف حياة مرجأة لا تأتي. وهي لم تكن تجد في ذلك العنت حتى مجرد فسحة وقت لترثي الحال، أو لتبكي عزيز القيم الذي ظل يتساقط يومياً في لبيك أوحال الفاقة والحاجة.
ترصد سعيها الشاق، من على حرير وسائد النعيم نخبة مترفة، تسبح في نعيم ورفاه باذخ، لكنها لا تنسى في هدهدة تلك الهناءات أن تنفخ قاموسها المتضخم بالمزيد من كلمات الورع والزهد والتقوى، تقذف بها في أسماع الجموع المضنية الغارقة في زخات عرقها الداكن المالح، حيث "ينكسر الهواء على الرؤوس من عبء الدخان" ،ليفرغ أي نزر قد يتبقى من قيمة الآدمي وكرامته ووقاره الإنساني، في بلد منهوب فاقد للملامح، تم تحويله، في غمرة جوقة الشعارات "الكيزانية" الزاعقة، ونفاق وسفاهة السبابات المرفوعة، وضربات إعادة الصياغة الهادمة الماحقة، إلى حيز اضطراري طارد، يتشعب فيه الفساد والبؤس والقبح، ويتمطى فيه الجهل والمرض والإملاق.
وفي مشهدية أخرى كنا نرى الفئة السلطوية المترفة وهي تقوم بأناة من تقلبها الرخي الرطيب، لتحشد كائناتها الوحشية الضارية الضارة، ترسلها لتمارس الإذلال والأذى اليومي، قبل أن تمضي هي لتختار من خزانة الأزياء والأقنعة ما يناسب كل موقف، لتنزلق بيسر في جلد الورع والتقوى، بعد أن تسدل على اكتراشها الفاضح عباءة الزهد والرشد والعفاف، وتحشو أشداقها بعبارات الوعظ، لتنخرط من ثم في تعزيز رفاهها بأعمال النهب المقننة المدسترة، ما ظهر منها وما بطن. مع إحصاء دقيق للمداخيل السلطانية، مما وضع على الرقاب من زكاة وكراء وغلة وضريبة وخراج وجباية، ومغانم أخرى تتقاصر عنها المسميات، قبل أن تتفرغ زمرة الضلال بعد ذلك لممارسة الوصاية وتفتيش النوايا، وفحص الأفكار والعقائد، وحراسة صلات الناس مع خالقهم من الجهة الأخرى.
ثم لا تلبث أن تظهر المومياء الدميمة في بؤرة ذاك المشهد العجائبي، وهي منهمكة تنسل من خيوط كفنها ما يكفي لنسج عباءة أخرى، تخرج بها على الناس من جديد، لتسومهم الكروب وتبشرهم بالخراب، وتسلقهم بالإقذاع والتباذؤ وساقط القول. وتجرجرهم إلى درك ماضوية مغلقة، وتقعي لتستل أنفاس المستضعفين ببطء قاس، ومتعة حقود. ثم تمضي تجوب الطرقات، تحاصر من تبقى منهم بالعوائق والعقم واليأس واليباس، لتسرق ما تبقى من فتات حياتهم، كما فعلت مرات ومرات.
حتى لكأنه لم يكن لعزاء أن يلوح هناك لمن ظل يستطلع المدى بأعين سفاها غبار الترقب، وسخام الانتظار الطويل، عسى أن ينفض الفينيق رماده، وينهض ناشراً في الفضاء أجنحته المديدة المهيبة. أما المومياء فقد ظلت بدورها تثب وتغمغم في ظلام الطرقات، تترصد الجهات، وترجو أن يقوم الغول الأحفوري من وهدته العطنة، ينفض ما علق من أشلاء ضحاياه على حسك لحيته الكثيفة، ليؤازرها في إشباع دمويتها فيبقر بنابه الوحشي البطون، ويفتح سنان مخالبه الدامية في الصدور، وينشب نواجذه في أكباد الصغار.
وريثما يرتاح الغول وهو يفترش عظام فرائسه، ويلعق براثنه الملطخة بالدماء، فإن على المومياء أن تنهب الجهات مرة بعد أخرى، تعوي في المدى تطمئن قبيلة المسوخ الوحشية، التي ظلت تعتاش على الإهلاك والأذى، بأن كل شيء على خير ما يرام. فالحياة باهتة خامدة، مسدودة الشرايين. والجسد العظيم قد انفرط كمسبحة، وتفرق ماء النهر الجليل. والنصال المسننة المسممة لا زالت منغرزة حتى العظم في الجسد المسجى، بعد أن تراخت أوصاله، وخار هيكله. والأيدي الماكرة المتمرسة تطبخ الزعاف بهمة وحذق في دسم الصحاف، فيما يمسك البؤس بالأرواح والأعناق.
أما جثث المسروق والمنهوب فقد ظلت تطفو على السطح هنا وهناك، كلما تقاطعت المصالح، وهي لا تجد حتى من يحصيها، ناهيك عمن يبكيها. والقاتل المرذول حينها يضرب غيلة وغدراً، فيما تهرع أبواق الإعلام المهزول راكضة لتسبق القتيل وتتشكى. واللصوص السعداء منهمكون في النهب الآمن، فأهل الدار قد اتفقوا على التناوم، واستراق النظر من تحت ملاءات الحذر. والعشب على الضفاف الحسيرة يذوي من صراع الأفيال تارة، ومن سفه تراكض البغال تارات أُخر.
وهكذا وحالما يبلغ النبأ معاشر الضباع والذئاب، فإنها تهب من أوكارها متساءلة مستنكرة، لما قد تكتفي اذاً بنهش اللحم، وقضم الغضاريف، إن كان متاحاُ لها أن تلوك العظم وتتلذذ بالنخاع؟!.
لكن الدهر وإن عق، لايبخل بلحظة توهج في الزمن الهشيم، فهاهو أوار العشق الراسخ العنيد، يندلع وهجاً في الأرواح الناهضة إلى نداء فجرها، المتماسكة المتلاحمة بيقين إرادتها الصلبة، وخطوها الواثق الجموح، وبنوتها الحفية البارة، تشعل العزائم جمراً لا يترمد، وتشرع الأيدي القادرة لتطلق الحبيبة من أسر أحابيل من تناهبوا شرفها، وباعوها في حلبات المراهنات البخسة، والمقايضات الخاسرة الخائبة. وتمضي الجموع في جيشانها، تنزع عن صدر الحبيبة رغو الزبد الجفاء، تكحل أهدابها بالنور، وتنحت لها كوة أمل وضيء في الأفق المسدود. لكن كائنات الظلام كانت هناك بالمرصاد. يطرقع السلاح الغادر، وينقشع الدخان في اللحظةالرهيبة، فيركض القاتل المذعور، يتوخى الهرب وينطفىء في الطرقات الهادرة كفقاعة، فيما يستلقي العاشق في ألقه وجلوة عرسه، ينطرح على ترابها مطمئناً، مستغرقاً في دفء وعبق الدماء الزكية، ويعبر النهر مشرقاً مستبشراً. والقاتل المأجور يهجس بالموج، ويرتعد من ذكر الغرق.
فحقاً يا لفجاجة الإنشاء في حضرة من اختاروا أن يكتبوا بمداد الدم المبين، فلا يبقى للأقلام إلا أضعف الإيماض، وهي تشيح خجلاً من دموع الأمهات المُحرقة، نشيج الأباء الكتيم، وجع الأشقاء المر، ولوعة الحبيبة الكظيمة. تتصب الأقلام خجلاً وجل ما تفعله أن تزجي كلمات باردات في أوان الفقد الجلل وقرح الفجيعة، وحر حرقة الحشا، والانتظار الممض للإنصاف والقسط وإنفاذ العدالة .