ليف تولستوي مات و"السند المزيف" بين يديه !! بقلم : سيف الدين حسن بابكر

ليف تولستوي  مات و

ليف تولستوي

مات و"السند المزيف" بين يديه !!

بقلم : سيف الدين حسن بابكر

 

            عندما بلغ الثمانين من عمره كانت سمعته الأدبية تسبقه إلى جميع بقاع العالم كأعظم روائي أنجبته روسيا في القرن التاسع عشر الميلادي (1828م).

            كتابات تولستوي اتسمت منذ شبابه بمقته للعنف.. (أنا أكره العنف وأدعو للسلام. مع العنف يصبح الشباب في حالة مروعة !! ولكن مع السلام تزدهر ورود الخريف في قلوب كبار السن وتغدو كالربيع في القلوب!! حاربوا دعاة الحرب حتى يغدو العالم كله شباباً ولو بلغ أهله الثمانين مثلي هكذا).

            يُعد تولستوي من أشهر من اعتنقوا فكرة المقاومة السلبية، وتأثر به غاندي مُنظراً للمقاومة السلبية والعصيان المدني.

            إن اسم ليف نيقو لايفيتش تولستوي، يثير المتاعب والمشاعر سواء بسواء. إذ كان يجمع الصفة وضدها. فهو روائي عظيم ومذهل وبذات الوقت مفكر فوضوي. كذلك تجده يجمع بين المسيحي الصالح والمنشق الغاضب. وجمع في جعبته بين النبيل الثري والفقير المدقع. ذلك الفارس الذي كان يجمع بين العاصفة وسكينتها.

            بدأ تولستوي حياته كنبيل من النبلاء الروس وعبر عن ذلك قائلاً:- (عبَّرتُ عن أفكاري بالكتابة الروائية.. ماذا يريد المرء من حياته أكثر من ذلك... سعدت بأبنائي!! وسعدت بهذه المزرعة الكبيرة  وبالشهرة، وبالثراء، والصحة، وبالسلامة البدنية والعقلية.

            ولكنني أحس بأن حياتي قد توقفت فجأة.. والحقيقة أن الرجل العاقل لا يجب أن يرغب في شيء! إن الحياة نفسها وهم.

            الحياة وهم كبير!! وها أنا ذا المحسود على الثراء، وعلى السعادة والشهرة، بت أشعر بأنه لم يعد من حقي أن أعيش أكثر مما عشت).

            في عمر إثنان وثمانون عاماً، مصحوبة بصحة معتلة اعتلي ليو تولستوي القطار بصحبة صديقه دكتور "ماكوفتسكي" إلى المجهول فاراً من زوجته صوفيا بعد أن ترك لها رسالة مع ابنته ساشا: (لقد غدا وضعي في هذا البيت غير محتمل يا صوفي. لم يعد في قدرتي ممارسة الحياة اليومية.. حتى انقطع رجائي في مزيد من الصبر يقيني شر اليأس من عالم تشهيته كثيراً.

            ما أنشده هو عالم من السكون والوحدة، لا يفسده ضجيج المال، ووحشية الرغبة في التملك!. أريد أن أقضي أيامي الباقية ليّ من العمر في سلام).

            وهرب الروائي الكبير.. إبن الثانية والثمانين، الإنسان الفنان.. لقد فرّ من حياة رغدة ورقابة مدمرة من زوجته صوفيا، وكان بينه وبين الموت أيام معدودة ففر إلى المجهول مسجلاً أعجب مغامرة طائشة في تاريخ الأدب العالمي. لكننا يجب ألا نعجب حين نقرأ ما كتبه في كراسة مذكراته وهو في حالة الفرار تلك: ( ما أجمل الشعور بالأمان والإطمئنان! ماذا يريد المرء من دنياه أجمل من هذا؟ القوت الضروري! والأمان! ما أسعدني)!

            لم يسجل تاريخ الأدب العالمي هروباً غير محسوب العواقب لصاحبه بمثلما قام بذلك تولستوي أعظم من كتب الرواية الطويلة بل عبقريها الأول، الذي عاش اثنين وثمانين سنة في ظل شهرة عالمية عريضة لم يحظ بها أحد في تاريخ الأدب العالمي سوى قلة قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة.

            لقد حصل تولستوي عن جدارة بلقب "أبو الشعب" الذي منحه له الزُراع والعُمال وكل المستضعفين، متغافلين ومتجاهلين قيصر روسيا في ذلك الزمان نيقولا الثاني!

            " إنني لم أفعل ما فعلت إلا بسبب إصرارها على التجسس عليَّ، وعلى رغبتها العنيدة في السيطرة على حياتي، وتحريكي في كل أموري الحياتية والفكرية حسب نظرتها الخاصة". جاء هذا في رسالة من تولستوي إلى ابنته ساشا وهو في رحلته المشئومة بعيداً عن صوفيا. وحقيقة فإن حب صوفيا له اتسم بحب التملك لا حب التضحية، وعبَّر عن ذلك قائلاً في رسائله الأخيرة لبناته:- (أقنعوها بحق السماء بأنني أدرك الآن بوضوح أن الحب الذي تدعي أنها تحمله لي، كذبة كبيرة، وخبث خادع، لم أعد قادراً على التسامح فيه لأن هدفه هو خنق حريتي وقهر إرادتي وإرغامي على التنازل عن أفكار أؤمن بها، بقوة إيماني بالخالق العظيم. إنها لا تفهم إن هذا الأسلوب في معاملتي سيؤدي في النهاية إلى الموت. كأنما هي تهدف إلى قتلي. حسناً، إعتقد أنها ستنجح في الوصول إلى هذا الهدف قريباً، فقد أكّد لي دكتور "ماكوفيتسكي" أنني إذا كنت قد نجوت من النوبة القلبية الثانية، فلن أنجو من الثالثة التي تسعى أمكم جاهدة إلى أن أُصاب بها في أسرع وقت تتخيله).

            برودة الجو داخل عربات القطار والإجهاد من مشقة الرحلة، كل تلك المثبطات تكالبت لتعبث بصحة تولستوي مما أجبر الطبيب على إجباره لمغادرة القطار في محطة مجهولة اسمها (استابوفو) صارت من بعد ذلك من أشهر المحطات في تاريخ روسيا بعد الأحداث المؤلمة التي حاقت بأبي الشعب ليف نيقو لايفيتش تولستوي.

            قام ناظر المحطة بدور بطولي وهو يستضيف تولستوي ومرافقيه في منزله وأكرم وفادتهم إلا أن الحالة الحرجة التي كان عليها تولستوي عجلت برحيله وأذيع الخبر في كل العالم: إن الكاتب الروسي الأشهر مات في محطة مجهولة على الخريطة الروسية اسمها "أستابوفو"!

            كانت آخر الكلمات التي تفوه بها تولستوي قبل موته:- (حين يحوم الموت حول رأسي، فلا أريد أن يقتحم لقائي مع ربي أحد من رجال الدين.. أريد أن أقترب من خالقي في فيض من نور المحبة، وليس مع ثرثرة كهنوتية).

            مات تولستوي وبجواره "السند المزيف" كآخر عمل أدبي له ولم ينشر إلا بعد وفاته وعلى الرغم من صغر حجم تلك الرواية إلا أنها أثارت العديد من الأسئلة الأدبية والفنية والفكرية. فتوقيت كتابتها يشير إلى أنها وصية تولستوي الأخيرة التي تسببت في خلافاته الجوهرية مع أسرته خاصة زوجته.

            أبانت لنا رواية "السند المزيف" التأثيرات المتزايدة التي يمكن لفعل واحد أن يحدثها، وكيف يمكن مجابهة هذه التأثيرات وعكس إتجاهها من خلال أفعال أخرى. إذ أن كلمات قاسية من فم أب قاسي لولده أدت لموجة سلبية بدأت بالتزوير، مروراً بالغش والكذب والحنث باليمين والسرقة والإضطهاد، وتبلغ ذروتها بالانتقام والإعدام والقتل.

            يوضح تولستوي من خلال الرواية المنسوجة ببراعة فائقة، أن الأفعال الشريرة لا تؤدي بالضرورة إلى شر أكبر، ويعرض لنا فكرتين قويتين: الأولى أن الشر يمكن أن يتوقف، ويمكن كسر الموجة بموجات خير أقوى.

الثانية أن الشر ليس أكثر قوانا الداخلية تأثيراً في المعركة، إذ يكفي طيب النوايا لتتمرد على الشر.

            يراهن تولستوي في تلك الرواية الصغيرة على الجمع بين المباشرة والعبقرية. تنازل هنا تولستوي عن استعراض قدراته الوصفية من سرد واستطراد ليصب اهتمامه على قوة الفكرة وعمق التحليل والتأمل. فنجد عشرات الشخصيات والقصص التي تتشابك بشكل مذهل لتخرج لنا عالماً متصلاً مرتبطاً دون أن يفقد المؤلف خيطاً منه، تاركاً القارئ المتلقي وسط دهشة إكتشاف جديد لأحد أهم أعمدة الأدب العالمي المولود عام 1828م والمتوفي بالعام 1910م بروسيا.

 

 

الخرطوم، 30 مارس، 20