بنات نعش  

بنات نعش   سارة عبد المنعم (كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم وقطرة فقطرة تذوب في المطر وكركر الأطفال في عرائش الكروم ودغدغة صمت العصافير على الشجر

بنات نعش  

بنات نعش  

سارة عبد المنعم
 

(كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم
وقطرة فقطرة تذوب في المطر
وكركر الأطفال في عرائش الكروم
ودغدغة صمت العصافير على الشجر
أنشودةُ المطر
مطر .. مطر .. مطر)
بدر شاكر السياب
،
،
سماوات الفرح لا تعترف بأرض روح جدباء. لا شوق يأخذ سحابات الحنين لرمال قاحلة. فلا برق يعزف لحن اللقاء هناك، فالسعادة مثل المطر، تتمنع على كل من لا يتمناها. وأنا، على عادة طفولتى البعيدة، افترشت الأرض بحديث صمت للسماء. توسلتها كي تمطر. مثل أمي، رددت دعوات التمني، ومثلها همهمت وتوسلت "يا رب تصب"، فشمس النهار حارقة، وحزن مدينتي متزمت، ووجه بلادي قاحل، والحب في شوارعنا لا يمشي، إن لم يبدل الجو مزاجه! 
النسمة التي خرجت عارية من لهب الهواء، لم تكن عربيدة. وعيون الشوق التي راودت السماء، لم تكن يائسة. وعطر 'الدعاش' يدخل رئة الوقت معلنا عن لقاء السحب بالسحب، في عناق محبة لا ينتهي إلا بغناء المطر. وتلبس الشمس خمارها الأبيض الباهر وتنادي قوس قزح، متوشحة بالحياء. ضحكت عليها. سخرت من جبروت نهاراتها الصيفية، فالمطر  ابن نضال يجدد ذاته من الأمس الذي تبخر فيه محترقا. 
(مطر! .. مطر .. مطر!) .. كطفلة، هرولت تحت قبة السماء أغسل جسدي بماء الشوق، وأنادي السماء دعاء وابتهالا وجمالا. رميت تحذيرات أمي. طمأنتها بأن سهام الماء لن تصيب من عبأ رئتيه بالفرح. وأني لن أسقط. ولن ينكسر عظم ساقي. فالأرض ترقص مثلي بنشوتها، ولن تسمح بانزلاقي. و .. غنيت للمطر بذات يقين وعذوبة الأمس، أنه سيصب أكثر إن دعوته لذلك. وألقى ضوء البرق قميصه الثاقب على وجهي. 'شلع' فرحا بلحظات الهطول، ودوي صوت الرعد فأعادني لذكرى فردوسي الهناك. كنت، زمانئذٍ، أهرول وجلة لأندس منه تحت السرير! وحدها أمي لم تكن تضحك على خوفي. وحدها من كانت تربت على جسدي المرتجف، وتهون من أمري، وتخبرني عن قوة البرق أنه مصابيح السماء. وحين يضئ بالومض، تمد الأرض ضفائرها شوقا ولهفة، وتنادي *"يا مطيرة، صبي لينا .. ". وحدها أمي من قالت الصدق. البرق درويش مجذوب يرقص في حلقة ذكر صوفية. يسبح خاشعا خاشيا منجذبا لحالة سريالية. وأني فتاة غبية إن خفت خطفة نوره الساطع الباهر. و .. ابتسمت لخوف البارحة. لعمر تنقضي أعوامه مسرعة، وأحن فيه لخوف طفولي قديم صرت الآن أستصغره! وتقافزت فرحا لفرح السماء، وتركت دمع السحاب يخالط ماء عيني. حاولت، جاهدة، العثور على "بنات نعش". نجماتي الصديقات. لا أعلم أين ذهبن؟! ربما توارين لفترة راحة، فمنذ طفولتي وثلاثتهن يقفن على ظهر السماء دونما ابتعاد. الآن، أدركت حديث أمي. مثلي، كانت معجبة بنجمات نعش. أذكر أن رأس أفكاري الصغير كان ممتلئا بالتساؤل: (كيف أن ثلاثي النجم ذاك لا يتغير؟! أقصد مكانهن). وأنظر لصمت أمي، خشية أن لا أجد لديها تبريرا، فأهز وجهها السارح في نجماتي، وسرعان ما تكترث لخوفي. قالت حينها الكثير، لكني سريعة النسيان، وهى تدرك ذلك، فتولِّى اصبع سبابتها إثارة اكتراثي لما تريد مني تذكره. تضعه على رأسي وتلقى حديثها كتعويذة تطرد عني وساوس اللاكتراث. حفظت حديثها. أن تلك النجمات بوصلة للتائهين في دروب السفر. وأنهن "قويات .."، وقاطعتها بتذمر أبعدت به سبابتها، وانفجرت ضحكاتها من قولي (قويات!! كيف؟! إنهن بنات!! وجدتي تقول إن مثلي لا تسوى شيئا! فكيف صارت النجمات قويات؟!) ظننت أن قولي أغضبها، فقد طال صمتها. أدركت أن حديثها درس يجب حفظه، فقد تركت سبابتها على جبيني من جديد، وحرضتنى لأهزم جدتي وأثبت لها العكس. لأصير بعلو النجمات وقوتهن. وظللت أكثر الأعوام أراقبهن. كنت أبدل مكان سريري بكل ليلة، ظنا مني أن نجماتي، "بنات نعش"، يخدعنني، ويجب أن أكتشف ذلك! أدركت أمي فعلتي. إبتسمت لمحاولاتي البائسة، ولم يكن حديثها مقترنا بسبابتها، لكني لم أنسه، قالت: (إن السماء هي السماء. وحدهم، مَن فوق الأرض يتبدلون. وإن سر تلك النجمات ليس في سكونها أو في حركتها، ولكن في تميزها بالعطاء، ومساعدة من يضل سفره الطريق. وهمست في أذني أن نجماتي الثلاث لا يتعاركن، ولا تترك إحداهن إختيها، لأنها غاضبة منهما! وأن المسافات بينهن تزيد من شوق كل منهن لأختها، طمعا في لحظة تجمعها بقرب الأخريات، فكوني نجمة. سكتت أمي. وبدأت سؤالي للنجمات: (متى سأصبح النجمة الرابعة؟!).

يا إلهي! توقف المطر. وعادت شوارع المدينة تتأفف من طين الماء. ولم يخرج الصبية للعب كعهد طفولتي! ولم يكترث أحدهم لقوس قزح! ولم يكن بيتنا الجديد مكتظا بأهل الحي كما كنا نتقاسم الضحك، والزاد، والخوف، تحت أصوات المطر، وخطاطيف البرق، وهزيم الرعد! 

و .. كنت وحيدة. حملت خطواتي بصمت، وحمدا لله رفعت رأسي للسماء. تلألأت نجماتي الثلاث. ألقيت عليهن التحية، وابتسمن من سؤالي المعتاد (متى سأصبح بينكن نجمة؟!) وليتني سألت أمي (كيف ظلت "بنات نعش" باقيات على ثلاثتهن فقط؟!!).