العوالم السريالية في مجموعة نمو تحت قطرات الدم أو كيــــف يـكــتــب ســـامــي يــوســـف القـــصـــة ؟ بقلم : صابر جمعة بابكر
العوالم السريالية في مجموعة نمو تحت قطرات الدم
أو كيــــف يـكــتــب ســـامــي يــوســـف القـــصـــة ؟
بقلم : صابر جمعة بابكر
سامي يوسف ذلك الفتى الفنان والذي عاش كثيراً برؤاه ووعيه ، ومضى عمره البيولوجي القصير في سنين معدودات 1974 – 1951م – ذهب بعد أن ترك لنا أثراً وكنزاً من الرؤى والتصاوير والأدب الفني الجميل !
لا أظنني مبالغاً إذ صنتفت المبدع الراحل سامي يوسف غابريال بأنه الكاتب الوحيد في السودان الذي يكتب بصمة متفردة وغير مسبوقة من مجايليه وسلفه .
يكتب سامي يوف القصة القصيرة والرواية ويطلق العنان لقلمه والإبحار بكل ما يختزنه ويدركه ! وأعني بها الكتابة التي ـاتي منداحة من تلافيف الذاكرة واللا وعي (الإسقاط) – يوظف سامي المنلوج والاستفادة من الطاقات التعبيرية في رسم اللوحات والعوالم والرؤى السريالية ، نصوصه تبعد كثيراً عن الأنماط المألوفة في كتابة القصة ويتجلى ذلك في قصص نمو تحت قطرات الدم ، وجبل الشاي المزيد بالمنين ، وحلم ، وصفحة أحزان سوداء ، أما قصص الجوع ونقطتان ضائعتان وسط الزحام ومات الجفاف ، وللصفير تفسير آخر ، بنى معمارهم على النمط الأرسطي وقد تكون كتبت في بداية تجربته القصصية وأرجح أن قصص الجنادب ، الاصابع ، الإنعتاق، البحث عن زوريا ، كتبت في المستوى الوسيط لتجربته ونستبين النفس الشاعري وجماليات الكتابة تجسدهما قصتي "بلوز" و "الإيقاع الرمادي" ، أما قصة ملصقات الرجل الأخرق فهي تضمين في بعض انسياب الحكي المتداعي لشهيدة الثورة الفلسطينية "سلوى" آنذاك.
وقصة "كلوشار العذوبة" هيأ مسرحها جبال كرري واستحضار معركة الأنصار مع جيش الاستعمار الإنجليزي الغازي وهي إحالة لمأساة السارد وحبيبته عندما يكتشف السارد الذي يأتي دوماً بضمير المتكلم أنه "عنين" ولا يستطيع مبادلتها الغزيرة الجنسية ، ولما ماتت وفتح التابوت وبدأ ممارسة الجنس معها على اعتبار أن الوضع متساوي والعراك حر متكافئ ، يمكن مضاهاة القصة وإرجاعها وتصنيفها للتيار السيكلوجي في قراءة النص ! كذلك قصة "مقتل" .
أجد نفسي أقترب كثيراً من قراءة الناقد الحصيف دكتور هاشم ميرغني الذي تناول أعمال سامي ومجموعته القصصية اليتيمة ! التي رأت النور دون رواياته التي فقدت في ظروف غامضة بأن المبدع سامي استثمر تيار "الوعي" في مجمل أعماله القصصية وأن المرحوم سامي لم يجد آنذاك قراءة نقدية وافية لأعماله، ويمكن القول لصعوبة الاسلوب الذي إتخذه حيث تنعدم المعايير المألوفة لكتابة النص السردي القصصي في بعض كتاباته وليتسنى لنا استخدام شذرات من مناهج نقدية تتيج قراءة النص وفهمه – ينهمك سامي بتضمين وتجميل سردياته بالأتيان بكل ما هو مدهش وجميل من حقول اللغة ، إذن لا مندوحة لنا إلا الإشتغال على قيوض اللغة التي انبثق منها النص السردي هادينا المنعطف اللغوي الذي الذي بدأه "برتراندرسل وأخرين " حتى فلاسفة اللغة أمثال "نعوم تشومسكي" و "فوكو" و "دريدا" و "دولوز" إلخ ، مؤخراًمع التشبث بدقة بمعاينة النص السردي وما يحويه من اشارات ورموز ! رغم أن القاص تمتلئ عوالمه بكل ما يضج من وجود في الخارج وانعكاسه في خياله الفني ! ينتج لنا سرديات غارقة في التأؤيل وبانعكاس الذات من الداخل للخارج وإسقاط الخارج للداخل ليتسنى لنا فهم مقاصد الكاتب الذي يرمي إليه بأن وجوده يحدد وعيه من الكون والأشياء ، لابد أولاً فهم واستيعاب المحيط الثقافي والإجتماعي السياسي والتاريخي الذي يشكل وعي الكاتب إذ ظلت فترات الستينات والسبعينات متوهجة عالمياً وإقليمياً ومحلياً على نطاق الأدب ! إذ انطلقت ثورة الشباب في أوربا 1968م بروادها مدرسة فرانكفورت على رأسهم الفيلسوف هربرتماركوز صاحب مؤلف الإنسان ذو البعد الواحد ، وظهور النزعات الوجودية التي تتمظهر في الشكل وفلسفة الحرية ! بأقطابها الفلاسفة : سيمون دي بوفوار ، جان بول سارتر ، وكامو وميرلو بونتي ...إلخ ، وتقهقر التيار التقدمي في السودان بعد ثورة مايو – إلا أن ما نلحظه في كتابات سامي أنه ابتدع نصوصاً متسقة مع قراءاته للشاعر الفرنسي "آرثر رامبو" و "كازانترإكي" والشاعر السوري "الماغوط" وأنشأ جماعة النبض 71 – التي مارست إبداعها الكتابي في مجلتي الإذاعة والتلفزيون والمسرح ومجلة الشباب في أوائل السبعينات ولكي يسودن نصوصه حتى تتوافق مع البيئة التي تنطلق منها رؤاه رغم أنه يصنف ذاته كإنسان عالمي مهموم بالقضايا الفلسفية والوجودية والإنسانية نجده يغوص قليلاً في الذاتية السودانية حيث تتدفق من ثنايا النصوص بعض التعابير الدارجية والحكم والأمثال وإيلاج الاساطير والأحاجي الشعبية كود النمير وملوال وثقافة القبط الدينية التي نهل منها مارجرجس والكنائس والتوابيت ، أو حلقات الذكر والزار ، وعازف الكيتا والنوبة والمدن كأم درمان و سنار مثلاً وبعض آثار الفراعنة الكوشيون وحقبهم المتتالية .....خطوط هيروغلوفية وسريانية على الجدران ......زهور عباد الشمس وعبادتها للشمس سر الطاقة الخلاقة ......نمت على الأتربة القديمة حجر رشيد ، جثة عجوبةالخربت سوبا ، الكاتب الجالس سنار القديمة ، ودولة الفونج ، سبأ ، نبته ، وتأتي بعض الإشارات للتكوين الفريد في الهوية السودانية وشم أخضر مشعشع بشامات من الحمر وسالي من المحس والمحلق والحساناب والشكرية والهدندوة ، العركيين ، البرنو ، الزغاوة ، المسبعات ، الهوسا ، الايبو ، المساليت ، الفرتيت ، شات الإمام ، شات الصفا .
الوجودية الصوفية واليقين القدمي في قصة صفحة أحزان سوداء :
أهداها القاص للاستاذة نعيمة شديد في محاولاتها المضنية للإنفتاح نحو الأرحب والأجمل كما يقول ونلاحظ أن الإهداء الأول في قصة نمو تحت قطرات الدم أهداها القاص للرسام المبدع أحمد محمد شبرين والثانية للمبدعة السودانية القبطية الاستاذة نعيمة شديد – وهاتين القصتين تكشفان التطور المذهل في كتابة القصة الحداثية عند سامي إذ نلاحظ أن العملين يحتويان عللى شفرات تشكيلية جعلها القاص مقاربات كنه إبداع المبدعين شبرين ونعيمة !
تبدأ القصة بهبوط السارد ذو الأنا المتضخمة على فراغ إنما الذات الواعية المدركة ذات الروح الطفلة الغضة وعبر المنلوج الدائم في سرديات الكاتب ، يهبط لقرية وادعة سرعان ما يقحمنا السارد من خلال اللغة التي ابتدعها في الولوج لغابات من الرؤى والتصاوير السريالية لعوالم واقعية مرئية في آن !
سحالي تركض سالكة دروبها ، زنانير تهوم في الهواء المرتعش ، أطواقاً صوتية ، كأنها نشوى بأنغام فاجنر ، رائحة حقول البطاطس والشمام تنفذ كالنشادر للأنف ، صبايا يافعات ، معراج الفراشات السوداء ، صبية في غضارة الينبوع يمرحون بالبلي ، أو لحظة الطرح والهيام والصبوات – وكنت ممتلئاً باليقين كوعل الغابة بأني سأعثر عليه بعد آلاف السنوات التي إجتزتهاوأختزنتها مشاويراً من الصمت والصحو اللاواعي ، تلك الساحرة ، عروس النيل ......تلك المتوهجة باسرارالبذار والعشبة السحرية ، قبلة الاله السكري التي تفترش العشب الريان تحت شجرة الصمغ المكتنز ، زهرة اللوتس العربيدة ....هذه جرح الرب وقلب المحارة الشيقة ، إلى أن يقول ....الجلد المتقشر كبطن سلحفاة نهرية يتحول من إقليم الورد الى إقليم الرماد بعنفوان العناصر بتحكمها واسرها القدري .... زيتي اسمر ....داكن ....معتم ، وكان ذلك الإله المجنون المرتدي من حفافي العنبر باقة ، الساكن طيات السحاب البهيج هو الآخر يتلون ، ثم خسوف كلي ، يقيم الصور يكربنها ويعيد طباعتها حسب مزاجه الوحشي الفتاك !
لله درك أيها الصوفي المعذب بالجمال ... !!
أو ليست الحياة بسرها ينبوع مخضب بالفناء والخيال والإكتمال !!!
الوعي الإيروسي ودلالة اللون في قصة حلم :
لا ينفصل الوعي البته عن خلاصة تجربة المبدع سامي عن فهمه للجنس والموت ومعنى الحياة ...ففي لقطات تأتي كإسقاطات متداخلة عبر حيوات وصبوات انسانوية وكونية يعيد تشكيلها ويخلق عالمه الغني الخصيب ، كما يتبدى ذلك في قصص نمو تحت قطرات الدم وجبل الشاي المزيد بالمنين وصفحة أحزان سوداء ..... في قصة حلم يستحضر الكون في تدفقه الخلاب .....الزنانير والفراشات في مقابل القبح والردى الذي يترسمه اسوداً قان ، يقتلع السدود والحواجز في نهاية الأمر فإذا الكون بلحمته وسداه يصير نسيجاً مزداناً بسواد رقيق شفاف لا يناله البصر الكسيح ، تحركت تلك الأنثى الصمغ المنصهر الذائب ينسكب برودة سوداء على تقاطيع وجهها الفينيقي وهي تعرى ... تنسج ثيابها المعراه كدودة القز ، تستوقفنا هنا دقة الوصف وبراعته ...تفتح فخذيها الشمعيتين كأفخاذ عذارى هارلم (إشارة للون الاسود) تحمل هوادجها الاصيلة كفتيات تاهيتي اللائي رسمهن "جوجان" في تشكيلاته الآخاذة كزيتونه ابتدعت لمعنى العطاء (أيضاً نلاحظ اللون الاسود) .
انتصبت كجاموس الخلا ، كما الماموث وتقدمت في أوج فتوتها وذروة عنفوانها نحو ذلك الشيخ المتهالك دلالة اللون واحتشاد النص باللقطات السينمائية وإحالته لترميزات علم السيكلوجي بإيماءات خافتة ، فتاتي الواقفة كقوس النصر تحمل سكيناً يقطر منها علقاً اسوداً ، نظرات المركيز دي صاد المشبعة بالإنتقام والحقد المذهل ، عش متعفن لكوبرا سوداء الأنياب ، شرافة محبرة بمداد اسود – نظرة ميدوزا ، والأخيرة إسقاط آخر لعنف وعنفوان الجسد ، "وميدوزا هي في الاساطير اليونانية شريرة تحيل البشر من الذكور أحجاراً" .
اعتصرني بطن الرحم الدافئ وضاجعت الشئ الذي بحثت عنه عبر سراديب الذهول اللا مجدي والعدم في مقابل العالم الآخر : الحمائم البيضاء ...مواكب الجراد ، السنونو الذي وعكته مسافات الرحيل بحثاً عن الرحيق المشمس ، وكما يقول علماء الألوان ، أن اللون الأسود هو أجمل الألوان ، نرى سارد سامي يوسف يصيح كالمعمدان في المسكونة ، صارخ في البرية : أحمليني يا عربات الحزن الأسود الملوكية ... يا اسود يا جميل ...يا حلو ....يا فتان ...يا رائع ....يا خلاب ... يا مذهل ....احملني معك ....أحملني معك !
هوامش :-
نمو تحت قطرات الدم مجموعة قصصية – سامي يوسف – الطبعة الأولى 1976م – وزارة الثقافة والإعلام .
بنية الخطاب السردي في القصة القصيرة – دكتور هاشم ميرغني – مطابع السودان للعملة المحدودة – ط1 – 2008م .