قصة قصيرة

قصة قصيرة غنم إبليس نفيسة زين العابدين لا أرى شيئا ولا أستوعب ما يدور حولي، حتى الاصوات الكثيرة المختلطة التي تصل الى مسامعي، لا أستطيع أن افهم ماذا تقول. أشعر برعشة تسري في جسدي

قصة قصيرة

قصة قصيرة

غنم إبليس
نفيسة زين العابدين

 

 


لا أرى شيئا ولا أستوعب ما يدور حولي، حتى الاصوات الكثيرة المختلطة التي تصل الى مسامعي، لا أستطيع أن افهم ماذا تقول. أشعر برعشة تسري في جسدي، وبترقب ورهبة تجعلانني انتفض في وهن، وبيد تفتح إحدى عيني عنوة، ثم نورا يسلط عليها، ثم عيني الاخرى. وذاك النور يجعلني أُهذى وأتساءل وأنا أشعر بارتعاش وبرودة في أطرافي وفي جوفي. هل أنا ميتة؟ أين أنا؟ أُحاول التفكير، إلا أن صوتا قريبا من أذني يهمس: (يبدو أنها تستعيد وعيها)..  أُخاطبه في أعماقي: هل أنا غائبة عن وعي؟ كلا انا فقط متعبة. ثم أشعر بالعطش، وأنتفض كمن نسى شيئا مهما ثم تذكره.. صرخت: (أريد ماءا). أشعر بجفاف رهيب في حلقي. جسدي يهتز فوق الفراش المتدثر بملاءة بالية. أشعر بها من ملمسها المهترئ، ومن تلك الثقوب الواسعة التي تتوه داخلها أصابعي كلما احتميت بها، ولكني رغم إلمامي القليل بما حولي، لم أسمع صوت صرختي وكأنما أخرى غيرى تصرخ في مكان بعيد. لما لا يسمعني أحد ما؟ أصرخ بوهن: (أريد ماءا)، ثم أعود الى نفسي وأفكر: (كلا لست ميتة. أنا فقط أشعر بالعطش، لست في الجنة، لأني لا أرى ملائكة، ولست في النار، ولست أيضا تحت التراب. أين أنا إذاً؟ أفتح عينيّ في بطء، ولكن شيء كالرمال يملأ ما بين جفنيّ ويصل إلى حلقي، وأشعر بطعمه على لساني، وفوق أسناني وداخل أنفى، أغلق عينيّ ثم افتحهما، ويطالعني وجه بشوش تكسوه لحية بلون رمادي، يبادرني مبتسما: (حمدا لله على السلامة).
أحرك شفتيّ: (أريد ماءا). يلتفت الرجل إلى شخص ما وينادى طالبا كوب ماء، أهزأ منه في أعماقي: (من قال كوبا من الماء سيكفيني عليك ان تأخذني إلى النيل وتلقيني فيه، حتى إن الموت غرقا يختلف عن الموت عطشا. يسندني صاحب اللحية الرمادية، ويساعدني كي أتمكن من شرب الماء، فأبتلعها بصوت منفر يجعله يشفق عليّ فيطلب كوبا آخر، وآخر، وآخر، حتى ترتجف يده فوق يدي، ثم أشعر بشفتيّ تحرقانني، وتؤلمانني، وبشئ ما بين طعم الدم ورائحة الصدأ في فمي، وبخدر يتسلل الى جسدي ويجبرني على الاسترخاء والغوص مرة أخرى في عالم اللاوعي. لكنني أود أن أسأل الرجل سؤال، أفتح عينيي في صعوبة وأحرك شفتيّ دونما صوت، فيفهمني ويربت على يدي: (أنا دكتور موسى، وأنتِ في مستشفى أل....) ثم لا أسمع شيئا. أنتفض في أحلامي عندما يصل إلى أذني صوت طفل يبكي، ثم يبتعد الصوت رويدا، رويدا، وينبت للطفل جناحان يطير بهما نحو السماء وهو يضحك، ثم تصفعني عاصفة من الرمال وتحرق عيني فلا أرى الطفل، بل نسرا عملاقا يمسك بي ويحلق عاليا، وأصرخ، ثم لا أتوقف عن الصراخ، فاشعر بوخزة حادة في ذراعي، ينتابني بعدها ذلك الخدر الذي يتسربنى ويفصلني عن المكان وعن أحلامي. أستيقظ، وبصعوبة أحاول استجماع قواي العقلية كلها، واتذكر اين انا، وانظر الى المكان.. سقف كئيب وأسرة متفرقة، وبعض البشر الذين لا اعرفهم، ثم من جديد ينتابني الاحساس بالعطش حتى أشعر إنني سأموت، فاصرخ في إعياء: (اريد ماءا).. فتأتي سيدة عجوز تحمل في يدها قنينة قد لفت بطبقة من الخيش، سمعتني، فشرعت تملأ الكوب وتسقيني، ثم تشفق عليّ وهي تراني أشرب في عجالى كما قطة ظمآنة. أمد يدي لها بالكوب أطلب المزيد، والمزيد، والمزيد، حتى فرغ كل الماء الذي لديها. أشفقت عليها عندما أرادت القيام لتأتيني بالمزيد منه واشرت لها بيدي أن اجلسي فقد اكتفيت. وأنا في دواخلي لم اكتف رغم انتفاخ معدتي، لكن شيئا في عقلي يقول إنني لا زلت عطشى، وأن حلقى جاف جاف. أمسكت المرأة بالملاءة البالية التي تستر جسدي وأحكمت تغطيتي بها، ثم ربتت على يدي قائلة بحنان: (لقد كُتب لك عمر آخر ....)
جلست العجوز على حافة الفراش وأخذت تجفف بطرف ثوبها صدري المبلل بالماء وتقول فى أسى: (الحمد لله على سلامتك). أحاول التذ كر .. عمر آخر؟ ثم أستوعب بعض وعي والتفت وأنا أتمتم متسائلة: "أين البقية؟ " ثم أنخرط في بكاء لا تدمع له عيني ولا أسمع لي صوتا ولا تندى عن صدري المليء بالرمال صرخة تزيح بعض هذا الثقل الذي أحسه.
مرة اخرى أحاول التذكر.. وأعتصر ذاكرتي فتعود بي الى بدايات رحلة الموت. تلك الناقلة بنوافذها الزجاجية القاتمة، والشيخ وزوجة ابنه وحفيده الرضيع، والسائق، وأنا. الناقلة الصغيرة تغادر المدينة على ذلك الطريق الأسفلتي الذي يشق الصحراء كحية سوداء، وضحكات الطفل، ومداعبات جده له، وخوف أمه عليه من لفح رياح السموم، وترنيمات موسيقي ريفية قديمة تنبعث من جهاز التسجيل في العربة، وخروج السائق عن الطريق، ومن ثمّ ضياع الطريق. إذ لا طريق.. صحراء وجبال صخرية لها ظلال طويلة، رمال وشجيرات شوك متناثرات، والشمس على مشارف الرحيل.
يقطع وجع الذكرى والتذكر صوت لا ملامح له: (مواعيد الدواء).  أستسلم لوخزة الأبرة وأنا لا زلت مغمضة العينين، أنهنه دون دموع.
 عندما فرغ الوقود من العربة، فرغ الماء أيضا. ولا زالت الصحراء كما هي، لا تنتهى ولا تنكمش، رغم أن السائق حاول العودة الا أنه كلما كان يقترب من الطريق الأسفلتي، كان يبتعد بنا عن الحياة، وانتهى ما معنا من طعام ولم يبق غير ما نحمل من زاد الاعمال الصالحات. لن نلتقي بأحبائنا، بل بالرفيق الاعلى، هكذا قال الشيخ قبل ان يطلب منا جميعا التيمم، لأنه سيصلى بنا صلاتنا الأخيرة بعد أن أعيانا المشي بحثا عن شيء ما يربطنا بالحياة. عندما سجدت لله كانت كل حواسي معه، دعوته راجية منه أن يتقبلني عنده القبول الحسن، وأن يسكنني فسيح جناته. وبعد أن أتممت الصلاة رفعت كفيّ الى السماء، أقرأ الفاتحة على روحي التي سترفرف إلى الأعلى، إذا لم يكن اليوم فهو غدا دون شك، ثم ارتميت على الرمال الساخنة وأنا أحدث نفسي بأن هذا إذا هو حر الهجير. آنذاك قفزت إلى ذهني صورة فتاة صغيرة حافية القدمين، تهرول حينا، وحينا تجرى، وآخرا ترفع قدما وتنزل اخرى، ثم تجلس أرضا، تحمى قدميها بفستانها الطويل آخذة بعضه من تحتها، صانعة منه عازلا بين الهجير وقدميها العاريتين، ثم ما تلبث أن تقف وتعدو مرة أخرى، ثم حين يتعبها الحريق فى الأرض تعيد الكرة، تجلس وتلف قدميها المحترقتين داخل قماش فستانها الطويل. ليتنى أستطيع أن أعدو مثلها، لكن ليس فى جسدي قوة تجعلني أقف فكيف بأن أعدو. خلعت حذائي وضممت ركبتيّ اليّ حتى لامستا وجهي، وجعلت من ملابسي ساترا ما بين الرمال وقدمي. ما زلت قادرة على التخيل والتفكير، فانا لا أريد أن أفكر فى الموت لأنه آت آت. هل سيغفر الله لى يا تري؟ لو يعطيني فقط فرصة أخري للحياة لأستعد جيدا لرحلة الموت. فحينما عزمت على هذه الرحلة لم أتخيل أن تكون آخر الرحلات في حياتي. أردت أن أتلو بعض آيات القرآن، ولكنى نسيت كل شيء، لم أعد أذكر شيئا. تلفتُ.. أين هو ملك الموت؟   وتمنيت لو يتأخر عنى.
 لا أستطيع أن أفتح عيني، ولا أن أحس بجسدي، حتى حرارة الرمال ما عدت اشعر بها، ولم اعد قادرة على التنفس، أشعر أنى أختنق وأغادر الدنيا من صحراء هى والعدم واحد.  لكن يبدو إنني عدت من جديد، وكأنما اٌعيد شحني ببعض الطاقة، ولست أدرى كيف، ولا أين مصدرها، لكن ربما هي الرغبة في الحياة. من بعيد رأيتٌ نهرا يجرى، وضعت يدى فوق عينيّ اتأكد، ثم بوهن قلت: (هناك ماء..)  تمتم الشيخ: (إنه سراب يا ابنتي، إنه وهم).  أردت أن أتبعه، رغم أنى لم أتبع الأوهام يوما في حياتي ، ولكنني الآن مستعدة أن أموت دونها. أردت اللحاق بغنم ابليس، هكذا يسمون السراب في مدينتي، لكن أعادتني كلمات الام وهي تعلن وفاة صغيرها، دونما أى تعبير باللوعة على وجهها. بل ربما كانت مرتاحة لذهابه الى الجنة ليرتوي من أنهارها ويفسح لها مكانا الى جواره هناك. جلست على الرمال الساخنة، وأشعة الشمس تكوى رأسي، والشيخ يغمض عيني حفيده وهو يتلو آيات من القران الكريم، ثم يواريه الثرى، ويستلقي على الرمال الملتهبة واضعا عمامته تحت راسه، محتضنا قبر حفيده، مغمضا عينيه في استسلام، ومسبحته البيضاء تلتف بمعصمه النحيل بعروقه البارزة. السائق أيضا استلقي متوسدا التراب.
 نظرت الى الوجوه الكالحة التي بدت دون ملامح.  ورفعت عيني الى السماء فأخافتني أعداد النسور المحلقة فوقنا، وشممت رائحة الموت في ملابسي. عدت أنظر الى وجه الشيخ مرة أخرى، فرأيته هادئا وكأنه لا يشعر بسخونة الرمال تحته، ولا بلهيب الشمس فوقه، وقد سقطت يده على قبر الصغير تحتضنه، فزحفت اليه فى وهن، وقد عرفت انه غادرنا أيضا. أخذت مسبحته وعلقتها على صدري، وبحثت عن لساني وعن صوتي وعن دموعي، فلم أجد غير يدى تهز السائق توقظه كي نوارى الشيخ الثرى هو الآخر. كنت أحفر بإصرار رغم التعب، والعطش، وحرارة الشمس والرمال. ويزيد إصراري كلما وقع فوقى ظل أحد النسور المحلقة فوقنا، لم نحفر عميقا، ولم نستطع أداء صلاة الجنازة. ثم بعد ذلك لم أعد أشعر بشيء ولا بأحد، من مات، ومن يعيش. لا أستطيع أن أفتح عينيي، ولا أن اشعر بجسدي، ولكنى أرى خيالات فى أعماقي، واٌناس كثر يتحدثون الىّ، لم أعد قادرة على التنفس، أشعر أنى أحتضر، وكأنما اٌغلقت شاشة العرض التي فى خيالي وبدا كل شيء أبيض وضبابي، وأن ملك الموت جالس الى جواري.
صحوت على صوتي وأنا أهذى، ثم طالعني وجه الطبيب الملتحي وهو يستعد ليغرس ابرة فى ذراعي مرددا: (ستكونين بخير..) وقبل أن يأسرني ذلك الخدر الذي يسرى في عروقي عقب كل حقنة كهذه، تحسست عنقي الذي تطوقه مسبحة الشيخ، وفى داخلي كنت ابحث عن معنى أن يعتقني الله من الموت ويردني الى الحياة مرة أخرى.