الصوفي المعذَّب

الصوفي المعذَّب عبد اللطيف علي الفكي ١ هذه الذَّرةُ كـــــم تحـــــ ـمِلُ في العَالــــــمِ سِـــــــــرَّا

الصوفي المعذَّب

الصوفي المعذَّب

 

عبد اللطيف علي الفكي

 

 

١

هذه الذَّرةُ كـــــم تحـــــ ـمِلُ في العَالــــــمِ سِـــــــــرَّا
قِفْ لَدَيُها وامْتَـــزِجْ في ذاتــــِـها عُمْقــــــاً وغَـــــوْرا
وَانَطلقْ في جوِّها المَمْـ ــلوءِ إيمانــــــــــاً وبِــــ ـــرَّا
وتنَقَّـــــل بــــين كُبْرَى في الـــــــذَّراريِّ وصُغْــــرا
تَرَى كُــــلَّ الكَوْنِ لا يَفــ  ـــــــ ـتُرُ تسبــــــيحاً وذِكـــرا

1- الفحوى يعني دلالياً المعنى المرتبط بالعناصر التاريخية والاجتماعية والنفسية إلخ لسياق النص الواحد سواء أكان بيتاً في شعر، أو جملة في نص، أو آية في كتاب مقدس؛ وهذا يجعل المعنى احترازاً من جهتين: أ/ جهة أن الترادف أو الدال الصوتي الواحد لأكثر من كلمة لا يحمل فحوىً شبيهاً هما فيه سَيَّان وبواء؛ ب/ ومن جهة أخرى، الحد من التحميل المطلق فيما يريد المؤوِّل لرغبته هو في أن يكون النص وليس للنص. كأن نأخذ الذَّرة هنا في هذا النص أو في القرآن أنه إعجاز يعادل ما توصل له علماء الكيمياء. لذلك نقول هنا ينتمي فحوى ’الذَّرة‘ –  في سياق هذا الجزء من القصيدة – إلى المفهوم اللغوي في تاريخ اللغة العربية. وهو الذي يعني آخر جزء لا يتجزأ في الأشياء المادية؛ بالمعنى اليدوي البحت، فيما نتناوله في حياتنا اليومية؛ دون التعرض إلى الذرة كعنصر كيمائي جوهري فيها، وكعنصر يدل على مكوِّنات كيمائية. فورود كلمة ’الذَّرة‘ هنا عند الشاعر، وورودها في الآية  (وما تكون في شأنٍ وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عملٍ إلاَّ كُنَّا عليكم شهودا إذ تُفيضُون فيه وما يَعْزُبُ عن ربِّكَ من مِثقالِ ذَرَّةٍ في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتابٍ مبين) (٦١ يونس). كل شيء متناهي الصغر لآخر حد هو "ذَر"، والذَّر هو صغار النمل، وواحدها ذرَّة. يشير تفسير الطبري في عبارة "مثقال ذرَّة" أي ’من زِنَة نملة صغيرة‘. ويترجم إيه جي آربري – مترجم القرءان – عبارة الآية "مثقال ذرة" بـِas the weight of an ant . أما الشيخ عبد الله يوسف علي – في ترجمته الأولى الصادرة في لندن عام ١٩١٠ – فيترجمها as the weight of an atom؛ فهل يعني أنه في فحوى الذرَّة بالمفهوم العلمي الكيميائي الحديث؟ بالطبع لم تفت عليه إغراءات تلك المقارنة في إسقاطها، فهو يرى في هامش يشرحه أن ختام الآية "كتاب مبين" يشير إلى معرفة الله التي تقوم على تسجيل كل صغيرة وكبيرة خارج الزمن؛ أي خارج عامل الزمن الذي يهِب المعرفة الإنسانية مرهونة به. لذلك في ترجمته أن أورد كلمة atom فهو يذهب بها إلى المعنى الإغريقي القديم واللاتيني – كما تفيدنا موسوعة معجم وبستر المطوَّلة للغة الإنجليزية –  حيث العبارة كانت تعني كل ما هو غير قابل للانقسام لتناهٍ في صغر انقسامه.
2- لذلك فحوى "ذرة" عند الشاعر مستلهمة من الآية القرآنية، ولكن لا ترادفها في الفحوى؛ وكلتا ذرة الشاعر وذرة الآية لا علاقة لهما بالذرَّة الكيمائية على الإطلاق؛ طالما "ذرة" الشاعر قد تكون صغيرة الحجم أو كبيرته؛ وذرة الآية نجدها كذلك صغيرة وكبيرة، إضافةً لكونها قد تكون في الأرض كما قد تكون في السماء. وهي مفاهيم تجري عند الشيء في حدود الحجم المتناهي الصغر أو ما كبُرَ في صِغَرِهِ، وفي حدود ما لا يقبل القسمة. فالذَّرة الكيمائية – في ثقافتها العامة – أصغر شيء في المادة عند تجزئتها؛ فهي أصغر مكوِّن في المادة تُبرِز خصائص كيمائية. وذلك في كونها أصغر لا يحدث تردد في هذا الصِّغر.
3- إلى أي شيء ترجع عبارة "سِرَّا" في جملة البيت الأول ’الذرَّة كم تحملُ في العالمِ سِرَّا"؟ وسنأخذ "كم" هنا بمعنى كم الخبرية ونتجوَّز الجملة كالآتي: أ- كم سِرٍّ تحمله الذرَّةُ في العالم. فهنا الإخبار عن كثرة الأسرار التي ترفدها الذرَّةُ في العالم، وليس العدد كما لو أنها كم الاستفهامية.  
تلك الكثرة حتى الآن، في هذا الجزء، تشمل العالم والعمق والغور والجو والامتلاء والتنقل والكون. إنه شُمُول "الذرَّة"، في عالم الذرَّة في عمق الذرَّة وغور الذرَّة وجوِّ الذرة وامتلاء الذرَّة وتنقُّل الذرَّة وكَوْن الذرة. فقوله في البيت الثاني أمراً "قف وامتزجْ" يجعلنا أن نقول إن تلك الكثرة – التي عددناها أعلاه – هي السِّر. الامتزاج في تلك الكثرة في العالم والعمق والغَوْر والجو والامتلاء والتنقُّل والكون يُنجَزُ فعلياً أدائياً. يتحقق السِّرُّ تحقيقياً في الإنجاز والأداء، وليس وصفاً لحاله، على هذا:
أ‌- في البيت الثالث – أعلاه – كلمة ’البِرّ‘ في عبارات مثل "حج مبرور، وأبرَّ الله حجَّك؛ وبرَّتْ يمينه، وأبرَّها صاحبها: أمضاها على الصدق. ولو أقسم على الله لأبَرَّه" (معجم أساس البلاغة: ب ر ر). وهي العبارة التي تعكس تماماً الإنجاز الفعلي الأدائي إنجاز صدق. لأي شيء؟ للأمر:
ب‌- "قف وامتزج".
ت‌- مَنْ المأمور؟ هو ’أنتَ‘.
ث‌- مَنْ الآمِر؟ إنها "الذرَّة".
4- أولى خُطُواتِ البِرِّ هي في كلمة البيت الثالث "إيمان". فالذرَّة حين أصدرت صوت الأمر "قِفْ وامتزج وتنقَّلْ وانطلقْ"، تحوَّل "إيمان" إلى حال يرتبط بأفعال الأمر الأربعة؛ وهذا الحال هو "ترى كُلَّ الكون" في حالة "تسبيح وذِكْر". هذا هو بَرِّي الذي أنجزته إنجازاً فعلياً صادقاً في حالة تلك الرؤية لذلك الايمان.
إنه أمْرُ صوتِ الذرَّة؛ منها لأنتَ. ’أنتَ‘ هنا ضميرٌ كُلُّهُ آذان صاغية، إنه الذات، الذات الصوفية في رؤيتها تلك.
كيف جاء الصوت الآمر؟ هل جاء مجلجلاً غاضباً ينهر، أم جاء يستسمحه هادئاً نضراً؟

٢

 

وانْتَشِ الزهرَ والزهــــ ــرةُ كـَــمْ تحمِلُ عِطـْــــــرا
نُـدِّيَتْ واستوثقت في الأَ رضِ أعراقــــــاً وجِـــــذرا
وتعَرَّتْ عن طـــــريــرٍ خَضِلٍ يَـفْــــــــتأ نـَــضـْــرا
سَلْ هزارَ الحقلِ مَنْ أنبـ ـتهُ ورداً وزهـــــــــــــــــرا
وَسَلِ الوردةَ مــن   أو دَعها طــــيباً ونشــــــــــــرا
تنْظُرِ الـــــــرُّوحَ وتسـ ـــمع بين أعمــاقك أمـــــــرا

5- لا يزال فعل الأمر هنا وهو "انتَشِ" صادراً من الآمر "الذرَّة". والنشوى عند – كما في عنوان النص وليس على إطلاق العبارة – "الصوفي" تتصل بمصدر أن تتلمَّسَ وحدك إتقان الأخلاق. صفة ذلك، أنَّ الذات التي استقبلت صوت "الذرَّة" وحققت إنجازاً وفعلاً وأداءً تحقيقاً صادَقَ ما "بَرَّت" به، هي الذات التي تحققت رؤيتها في كثرة تفاصيل الذرَّة؛ وبهذا التحقيق أمرت الذرَّةُ الضمير ’أنتَ‘ في "اِنتشِ" وامتزجْ بالنشوة القصوى بعطر الزهرة. وفي هذه النشوة ليس هناك سوى النَّدَى والطرير الغض الخضل، والنضر المستمر الذي لا ينضب ولا يذبُل، ليس هناك سوى الزهر والورد والطيب الفوَّاح. هذه نشوة "الصوفي".
6- تتوالى أوامر الذرة للضمير أنت كالآتي: "قف، امتزجْ، انطلق" وهنا "اِنتَشِ". فما كان إلا أن حدث ’الانتشاء‘ تلبيةً لتلك الأوامر فحدوث الانتشاء ما هو إلاَّ حالة؛ هذه الحالة هي حالة الابتهاج. وهي الحالة التي أدركت فيها الذات روح الجمال في "اِنتَشِ". كنا قد سألنا سؤالاً في الجزء الأول نكرره هنا: كيف جاء الصوت الآمر؟ هل جاء مجلجلاً غاضباً ينهر، أم جاء يستسمحه هادئاً نضراً؟ بالطبع تشهد حالة الابتهاج صوت الأمر قد جاء ’نضراً‘.
7- قد يتبادر – للوهلة الأولى – أنَّ ثَمَّـة تضارب بين الأمر وبين أن يجئَ الأمرُ نضراً كما تقول نتيجة ٦ أعلاه. لأن المتعارف، في أغلب، الأحوال أن الأمر يفترض ويتداخل مع الغِلظة. لكن إذا نظرنا في إصدار الأوامر، نرى أنها تتبع نوعين كبيرين من القوانين. قوانين مؤسسية متعارف عليها، وقوانين تنظيمية لتنظيم السلوك. التسلل في كرة القدم من القوانين المؤسسة في تلك الرياضة، مما يجعل الحَكَم أن يصدر أمراً؛ أما قوانين الإتكيت etiquette فهي من القوانين المنظِّمة للسلوك؛ إذا تحدثت مع شخص، فانظُرْ لوجهه؛ ولا تنظُرْ لشخص أنت لا تتحدث معه. اقطع الخبز بالسكين لا بيدك. . إلخ. تتبع قوانين الذرَّة لذات ضمير المخاطب أنت لقوانين تنظيم السلوك. لقد وصل حد الأمر "اِنتَشِ" حدَّاً بعيد الغَوْر، لم يقف في حدود الانتشاء أو النشوة؛ بل وصل حَدَّ الاستوثاق وإدراك الجذور والأعراق، لاحظ البيت "واستوثقتُ في الأرض أعراقاً وجذرا" بالرُّغم أن البيت يبدأ بأن الزهرة قد "ندِيَتْ". فالذات المندهشة قد تقف هنا عند الندى، وتتملاَّه؛ لكن ذات الضمير المخاطب أنت قد وصل إلى أبعد حيث الاستوثاق والجذور والأعراق. الفعل "تعرَّت" في البيت الثالث يشير إلى أن كل شيء لا لُبْسَ فيه. كل شيء في هذه النشوى بلا حجاب، ودون زيف. مما يجعلني أعرف كُل ما كُشِفَ لي في هذا الانتشاء. فأنا "هزار" أعرف كل أسرار هذا "الحقل" زهرةً زهرة ووردةً وردة؛ طيوبها وضَوْعَ طيوبها. إنها أصبحت من عموم ذات ضمير المخاطب أنت إلى خصوص الذات المستوثقة.
حالة "اِنْتشِ" هي حالة إدراك روح جمال هذا "الحقل"، وهي الحالة التي وصفناها سلفاً أعلاه بحالة الابتهاج. الآن هي الحالة التي تجاوزت حالة الابتهاج. إنها حالة الذات المستوثقة التي  في امتدادها تستطيع أن "تنظر الروح وتسمع بين أعماقك أمرا" كما في البيت الأخير.  وهذا البيت ناظرٌ في آية الإسراء ٨٥ "قُلِ الرَّوْحُ مِنْ أَمْرِ ربي". وبحسب القرآن أن مصيبة الموت مصيبة واقعة على النفس ولا تقع على الروح. وبهذا الحسبان تشير جملة البيت "تنظر الروح" أي تنظر ما لا يموت، وما لا يتعرض للموتان. فهل عبارة "أمرا" في البيت هي نفسها ما ورد في الآية "مِنْ أَمْرِ رَبِّي"؟ الآية تُشير إلى أن الروح هي التي يأمر بها الرَّب كوني فتكُنْ اذهبي فتذهبْ. وبهذا المعنى يصبح البيت في جملته التي هي "تسمع أمرا" أي تلبِّي ما تأمر به أعماقـُك.