هل القصائد مضادات حيوية؟

هل القصائد مضادات حيوية؟ سونيا الفرجاني... تونس   أحاول أن أستعيد القصائد الأولى التي آنتهيت بها إلى ممالك شعر.فلا أتذكّر اللغة التي كتبتُ بها ولاحجم قلبي ورأسي وقتها ولاوزني ولاحتى مقاس خصري.

هل القصائد مضادات حيوية؟

هل القصائد مضادات حيوية؟

سونيا الفرجاني... تونس 

1/  أحاول أن أستعيد القصائد الأولى التي آنتهيت بها إلى ممالك شعر.فلا أتذكّر اللغة التي كتبتُ بها ولاحجم قلبي ورأسي وقتها ولاوزني ولاحتى مقاس خصري.
ربّما كنت أشكّ في الكتابة كما أشكّ في مفاتيح بيتنا الكثيرة،لعلّها كانت غير ضرورية وبكلّ تلك الكمّيّة لفتح أو غلق أقفال صنعها الحدّاد بحماقة رجل أمين.
للأبواب حرّياتها التي لم تنلها أبدا،كما للغة حركة حرّة لم تجعلني أبدا أنال فصاحتي.
القصيدة كالباب،تصدر أزيزا وتسبّب تيارات هواء ،تعزلك أو تخرجك وتضيع مفاتيحها غالبا خارج البيت سهوا.نضطرّ مرات لخلع باب تيبّس فيه مفتاح ، كما يُخلَعُ ضرس عقل مسوّس ويُنام بعده بمسكّن آلام.
هل القصيدة مسكّن آلام أم هي فعلها الأول؟
هل القصيدة حواسّ مهيّأة للتضاعف والإنقسام أم هي مضادات حيوية لاتنتهي صلاحيتها؟
أنا لا أحبّ مفاتيح البيت "المشكّكة" في كتل متعددة الأحجام,ولا أحب الكلمات التي تورّط فيها أهلي ليتسلقّوها تمائم يعبرون بها حياتهم أو يُعبِّرون بها عنها.
أنا مثلا لا أقول لأمي أشعر بالجوع ،أسألها هل لابد من تحريك أسناني البيضاء لأسُدَّ صوت هذا الجوف الغامض داخلي؟
يعود أبي من العمل ،لا أخبره أني أشتاق إليه ولكن أحدّثه عن لون داكن أصاب رأس الديك بعد الفجر،حين هربت الدجاجة ببيضتها لقنّ الجيران
في بيتنا نصدر أصواتا كثيرة أشدّ تعددا من حواسنا ،تخرج من أقفال الأبواب ومن تحتها أيضا.
تغلّف أمي أصص الحديقة بأصداف جمعها أبي ذات يوم صيف من شاطئ فضفاض.
تتسلّق منيا المشاغبة شباك جارتنا "سليمة" لتقشّر بأظافرها الطويلة أعلى السقف وترسم على الرقعة الصغير من الجير القديم ...زرافة.

أنا "شاعرة" لاتثق بنصّها،وهناك شعراء من تونس لايثقون أيضا بنصي ،يقلقون منه أو يقلقون عليه،لست أعلم.
لم أنشر خلال عشرين عاما من الكتابة إلا ديوانين من الشعر"الحَطَبِ".
صارت الان أربعة دواوين،وأخاف أن أقف هنا.
حطابة أنا،
أزعق السّرول العملاق حتى يعوجّ ظهري ويسقط شَعري ليقسّم لي المعنى قطعا أرتّبها كآجر يقيني من اللّفح.
لم تكتمل أنوثتي رغم الأربعين،لم يترك الشعر لي قوة النموّ ولا فطرة التورّد.
مازلت أكابد المسافة بين المزمار والجزار،وبين اللغة والغلّة.
يصاب صدري بوعكة تنفس حين أشعر بتعذّر الكتابة أو تقصّفها،
مازلت أغسل أسناني بآنتظام لتظل ناصعة وقوية قادرة على قضم الحروف وطحنها.
أحيانا أقضي ليلة كاملة أشهق تحت الوسادة لأن أمل الحياة عند الولادة في دول العالم الثالث لن يخوّل لي قراءة كل الكتب التي كتبت في الشعر وحوله ولن تسعفني الأمومة بقراءة روايات القرن العشرين كلها.

الكتب التي قرأتها قبل عشرين عاما ،قرأتها بحمق ولابد أن أعيد قراءتها بجلدي الحاليّ الذي صار مهددا بالتجاعيد خلال عشرة أعوام أو أقل.
أفكّر أن أضع بعد تجاعيد السّتين إن بلغتها،أبياتا من الشعر الخام،أو قصائد لم يعرفها الناس كثيرا ،ربما تسبّب لي انتفاخا في مساماتي ومسمياتي فتشدّ بشرتي وأظل" الشاعرة التي نسيت أن تكبر".
هذا الشعر أكبر من الأرض وأنا أخفّ من جناح يعسوب.
ماذا أفعل كي لا ينكسر كعب حذائي كل يوم.
تدقّ دنيا حبّات عبّاد شمس في مهراس نحاس ،لتصنع منها عجينة تشكّلها قمرا صغيرا في كراس محفوظاتها.
محمد الصغر لايرمي كرة، ولكن يدحرج رأس دمية ثم يقذفه في السماء عاليا جدا هديّة لأطفال مركبة الفضاء.
أجلس أمام البيت.
أمحو رقمه أو عدده ، وأمحو آسم أبي على علامة الرخام المغروسة في الحائط.
تتضاعف رغبتي في فتح يدي ...فأرى حروفا تتطاير
وعصافير تأتي لتنقرها
3/

لم أولد لأكون آبنة صالحة أو زوجة نشيطة أو مواطنة تساهم في رفع نسب الولادة بوطن صغير.
لم ألدْ لأكرّر خطأ القبيلة وأتوارث عنها علامات عيش غير ملائمة للطقس.
لكني فعلت كل هذا ،
وكتبت أبعد من كل هذا.
الشعر إقامتي الوحيدة الملائمة لخصائصي،
لا أحتاج تسمية أو صفة أو كناية ،
أكتب كي لا أكبت مايحدث داخلي ،ألجأ للغة لأتغلّف بالطّاقة المهدورة التي لا أراها،
لا أنقّح شيئا مما أخطّ...ألقّح نفسي بالشعر وأشرب جرعات متفاوتة لأنقذ وجودي من مشكلة الروح والجسد .
أتعدّد وأتمدّد وأتكوّن وأتلوّن وأركض، مرّة مع السلحفاة، وأخرى مع الأرنب.
الأسد أضعف من الغراب،
والحلازين أكثر سعادة من مالك الحزين،
الصّياد ،مولع بفكّ الشباك وجمعها ،
حاكم بلاد الرّوم يشتري نبيذا من بلاد البوم ،
جارية المأمون حبلى، وخادمتها ستلد في الربيع القادم.
قصعة الثّريد، تكفي ليأكل منها سكان إفريقيا،
ومعامل الجليز، لم تصنع بعد بلاطا لبيت قصيدتي.
في هذا الصباح،
أقبّل وجه إنانّا ،وأقبّل وجه بوذا ،ثم أخرج لأطوف بالبيت.
بيت قصيدتي بعيد....
لكني، سأصل على ظهر سرطان البحر
سونيا الفرجاني   تونس