قراءة في الأنساق الثقافية المضمرة في رواية مهر الصياح لأمير تاج السر

بسم الله الرحمن الرحيم قراءة في الأنساق الثقافية المضمرة في رواية مهر الصياح لأمير تاج السر أ. د. عبد الغفار الحسن محمد /أستاذ الأدب والنقد بجامعة وادي النيل مقدمة: تنطلق هذه الدراسة ذات التوجّه الثّقافي من مساءلة خطاب رواية مهر الصياح للكاتب الروائي أمير تاج السر باعتبارها نصا ثقافيا جماليا، حافلا بالأنساق الثقافية منها الجاهز الذي أسسه الخيال الجمعي عبر العصور، ومنها المصطنع من خيال الروائي وصنعته الفنية

قراءة في الأنساق الثقافية المضمرة في رواية مهر الصياح لأمير تاج السر

بسم الله الرحمن الرحيم

قراءة في الأنساق الثقافية المضمرة في رواية مهر الصياح لأمير تاج السر

أ. د. عبد الغفار الحسن محمد /أستاذ الأدب والنقد بجامعة وادي النيل

 

 

 

 

مقدمة:

        تنطلق هذه الدراسة ذات التوجّه الثّقافي من مساءلة خطاب رواية مهر الصياح للكاتب الروائي أمير تاج السر باعتبارها نصا ثقافيا جماليا، حافلا بالأنساق الثقافية منها الجاهز الذي أسسه الخيال الجمعي عبر العصور، ومنها المصطنع من خيال الروائي وصنعته الفنية.

            وتسعى هذه  الدراسة لقراءة ثقافية نافذة في فضاء النّص الرّوائي، لتركز على مادته المستمدّة من عالم الأنثروبولوجيا والفانتازيا ، والمتوسلة بلغة شعرية ووصفية غاية الجمال، لتمرّر في أمان أنساقا مضمرة(تتسم بالبشاعة والبؤس) مناقضة لظاهر خطابها الجمالي، فتنفلت من الرّقيب الاجتماعي وتمارس تعميتها الثّقافية على متلقيها ومستهلكها بفضل جماليتها، ذلك لأنّ الكاتب عموما يستمدّ مادته الفنّية من خلال التّفاعل الثّقافي في محيطه، فيعيد إنتاج ثقافة مجتمعه ويمتثل لسلطة هذه الثّقافة، ليصل في نهاية الأمر من خلال الجمالي لتوصيف المآسي والمحن والبشاعة بطريقة جمالية رمزية إشارية .
             وعليه تتمثل إشكالية هذه القراءة في رواية "مهر الصياح" في الإجابة عن التساؤل التالي:
 ما  الأنساق الثّقافية التّي ترسّبت في قاع "مهر الصياح" المناقضة لأنساقها الجمالية الظاهرة؟

        ونؤسس هذه الدراسة على فرضية أن رواية مهر الصياح والتي اتكأت على لغة شعرية ووصفية جميلة وصنعة فنية متقنة ،استطاعت أن تمرر في أمان أنساقا ثقافية مضمرة تخفت وراء هذا الجمالي ،كشفت عن مأساة الإنسان ومعاناته وبؤسه وفقره وقهره بصورة مستمرة، غاب فيها تحديد الزمان والمكان ،وإن أوحى لنا عبر متخيله السردي بواقعنا التاريخي والثقافي السوداني الذي يتقاطع مع حاضرنا بكل بؤسه وفشل نخبه السياسية والاجتماعية في الخروج من عباءة الماضي التعيس، لواقع أكثر إنسانية ورحابة وسماحة.
          وتوظف الدراسة منهج النقد الثقافي الذي يحتفي بالكشف عن المستور وراء ما هو جمالي وفني .

 

 

 


        مدخل نظري:

       إن كلّ نصّ  جمالي من منظور النّقد الثّقافي يبطن غير ما يظهر، ومردّ  ذلك إلى كاتبه الذي يمارس اللعب بالدوال  والصيغ الشعرية والصور الجمل الوصفية، ليحشو نصّه أنساقا ثقافية تحت قناع الجمالي، فدور القراءة الثّقافية هو إعادة قراءة النّصوص الأدبية في ضوء سياقاتها التاريخية والثّقافية فـ" النّقد الثّقافي في أهم انشغالاته يهتم بالبحث داخل الخطاب عن الأنساق التي تتدخّل في توجيه الأفكار والسّلوك، ويحدّد ما تحويه الآثار الأدبية من حمولات فكرية" ، بحيث تتضمّن النّصوص في بناها أنساقا مضمرة ومخاتلة قادرة على المراوغة والتمنّع والتي تعرّف بـ"أقنعة تختبئ من تحتها الأنساق الثقافية وتتوسّل بها " ، وكذلك فلا يمكن الوصول إلى هذه الأنساق الكامنة في الأعماق، وفهم فعاليتها المضمرة إلاّ بمساءلة الثّقافة التي بلورت النّص الرّوائي وشكّلت سياق الكتابة، فهي " لا يمكن كشفها أو كشف دلالتها النّامية في المنجز الأدبي إلاّ بإنجاز تصوّر كلّي حول البنى الثّقافية لطبيعة المجتمع، وإدراك حقيقة هيمنة تلك الأنساق".

          وتسعى نظرية النقد الثقافي المعاصر إلى الإحاطة قدر الإمكان بالجوانب الأنثروبولوجية، و الإيديولوجية، من خلال دراسة المظاهر الميثولوجية و الفولكلورية التي يشتمل عليها المحكي أو السرد؛ لتمنحه تنوعاً فسيفسائياً متداخلاً من الرموز، في صورة لغة متعددة المستويات تعتمد جملة من الآليات السردية، و العتبات النصية، والنصوص الموازية ذات الثيمات الثقافية السائدة في واقع المجتمع.

           تتآزر هذه العناصر لتشكل الحقل المعرفي للخطاب الروائي، مشكلة معماراً سردياً، سنسعى إلى تعرف أهم بنياته الدلالية الحافلة بالأنساق الثقافية ذات البعد الأنثروبولوجي، و البنى التخييلية بمظهرها الفانتازي والعجائبي الموازي، في رواية مهر الصياح للكاتب الروائي امير تاج السر.
    

العنوان والنسق الثقافي:

           لعل أول ما يفتح فوهة التساؤل هو عنوان الرواية (مهر الصياح) والذي لا يمكن تفسيره بعيدا عن النسق الثقافي المضمر خلف هذا العنوان الفخم من الخارج. فمهر الصياح عنوان مركب من مضاف ومضاف إليه غير واضح الدلالة إلا بالنبش عن معناه من خلف سطور الرواية التي شرحت في مدخلها مفردة الكوراك بأنه الصياح. ولكن ما معنى مهر الصياح؟ هل المهر يصيح؟ أم أنه مهرا مجازيا؟ نعم يتكشف من وراء الجمالي في هذه الرواية  حالة من القسوة والفظاعة ترتكب في حق الطامحين لمناصب سياسية، ومن ذلك ما يلقونه من تعذيب من كتيبة الأمن والتي تسمى بكتيبة الرعاع وكيف أن (آدم نظر) الذي صاح يوما في مجلس الصياح ليكون أبا شيخا كيف تم تحويره إلى مهر يركب عليه الأمير ساعد قائد كتيبة الرعاع، ويجوب به الأحياء الفقيرة؛ ليكون عبرة لمن يعتبر، ولكي لا ترتفع طموحات شخص ما -ولأي سبب من الأسباب- في أي منصب سياسي، فهذا من المحرم على طبقة العوام من الناس، وهذا جزاؤهم وعليهم أن يكونوا رعية طائعين راضين بفقرهم وبؤسهم، وإلا سيتحولون إلى أحصنة أو نوق يركب عليها الأمير ساعد الذي يفرغ غازات بطنه على ظهورهم التي تمتلئ بالدمامل بفعل تلك الغازات التي تأتي من أكل الصقور والطيور الجارحة. لكن كل ذلك لا تعبر عنه الرواية بشكل علني وإنما بلغة جمالية مبهرة وجملة وصفية رائعة، ولكنها تخبئ تحتها مأساة بطل القصة المحور(آدم نظر).
           الأنساق الثقافية غير الجاهزة:
الفضاء الزمكاني المتخيل والنسق الثقافي :

            يتلخص مفهوم  الفضاء الخيالي في كونه" تخطيط ذهني لمجتمع افتراضي نابع من مجتمع واقعي، و هو لا يخاطبنا مباشرة، و لا يظهر إلا مقنعاً أو من وراء حجاب: "و بالتالي فهو شيء هارب من التحديد، لأنه بطبيعته يتجاوز ذاته...، و بهذه الطبيعة الاختفائية ينتصب المتخيل و كأنه مثلث ينظر كل ضلع من أضلاعه إلى: علم الأنثروبولوجيا، وعلم النفس، و الأنطولوجيا(علم الوجود). ولأنه لا يتكلم إلا من وراء حجاب، فإن علينا أن نرصده في السرود و المرويات المتكررة التي يكشف فيها كل مجتمع عن نفسه

 

".

  • الفضاء التخيلي للمكان- (سلطنة أنسابة ومدينة جوا جوا ):
           تمحور مصطلح التخييل في الدراسات السردية المتأخرة حول القصص غير الإحالي ،أي حول قصة غير مرجعية "من ناحية أن العالم الذي فيها مقتطع من الواقع. لكنه واقع غير معين. ولذلك فهو عالم ضبابي لا أمارات فيه لأسماء تحدد المكان". أو تحيل على معلم أو شاهد معروف في الواقع المرجعي الذي نعايشه .
          و هذا ما فعله  أمير تاج السر حيث ينطلق من سلطنة ومدينة متخيلة، شيدها في فضائه السردي (سلطنة أنسابة ومدينة جوا جوا) ليسكنها أبطاله أو لتسكنهم. كي يحيل من خلالها على واقع فضّل أن يتراسل معه بوسائط رمزية، علَّه يتلقى، أو يجعلنا نتلقى رداً، أو نستخلص دلالة من تلك البلاد الغرائبية. غير أن ما نحتاجه فعلياً في هذه الدراسة "ليس استعارة نُظُم عالمنا، بل استنباط نُظُم تلك السلطنة وتلك المدينة العجيبة، فما تواضعنا عليه عبر العصور لا ينطبق على عالم آخر رهين بقراءتنا... فضلاً عن أنه عالم متخلق بمكونات غير مكونات عالمنا، ومحكوم بنظم خاصة به". وذلك عبر كل الفضاءات السردية من زمان ومكان وشخصيات وأحداث، غادرت جميعها عالم الواقع والتحقت بالمتخيل.

        تنطلق شخصيات وأحداث رواية مهر الصياح في مدينة جوا جوا عاصمة سلطنة أنسابة وهي مكان متخيل غير موجود في جغرافية السودان ولكن الوقائع والأحداث تدل على أن الرواية تنطبق على واقع تاريخي للسودان وهو غير محدد في الرواية أيضا ،ولكنه  أشار في مدخل الرواية إلى إفادته من كتاب قديم يتحدث عن ممالك سودانية في القرن السابع عشر، غير أن الكاتب يستفيد من هذه الوقائع والحكايات ليعبر من خلال الصياغة المموهة هذه عن أنساق ثقافية مضمرة، عن طبقة الحكام وما تمارسه من قهر وسطوة على مجتمع فقير بائس، تجلى ذلك من خلال براعة الوصف لدى الكاتب وتكراره للعبارات والجمل ذاتها التي تكرس لواقع سياسي معين أو اجتماعي ،من خلال وصف الأمكنة ووصف الطقوس ووصف الأطعمة والأشربة والأمراض والأدوية. من غير أن يحدد لنا مكان هذه السلطنة ولا حدودها الجغرافية ولا زمانها، ولكنه يحدثنا عما يدور فيها من خلال الوصف الجميل الذي يخبئ تحته فظاعات ارتكبت في ذلك المجتمع. ومن خلال الشخصيات التي عبرت عن طبقات ذلك المجتمع وما تتمتع به الطبقة الحاكمة من رفاهية وقصور، على عكس واقع الشعب الذي يقبع في أحيائه الفقيرة في وحل الفقر والمسكنة والجهل والقهر.

 

 

 

الأنساق الثقافية الجاهزة:

  • نسق الحاكم والمحكوم:

         استطاع الكاتب  أن يقيم معالم هذه المدينة من خلال وصف مجلس الكوراك الفخم حول قصر المسك، والذي يجتمع حوله الشعب من كافة أنحاء المملكة ليصيحوا بحاجاتهم ، هذا المجلس للسلطان رغد الرشيد والمحاط بحاشيته الخاصة من مستشارين داخل القصر وبحرس خاص من كتيبة الظهوريين ،وتنقل الصياحات عبر سلسلة الكوراك السباعية المكونة من سبعة أشخاص من الخاصة المقربين ، وهذا المجلس عادة ما يكون قرار السلطان فيه نهائيا وغير قابل للتعديل فعلى الصائح أن يقبل بالرد مهما كان، وليس من حيلة أخرى لاستئناف الحكم أو مراجعته، وعادة ما تكون القضايا المطروحة في مجلس الكوراك قضايا هامشية أو اجتماعية بسيطة(طلب سفر في بعثة الحج، طلب امرأة تأديب زوجها، طلبات حلحلوك المجنون، طلب غرة صلاة...)، ولكن من غير المسموح به الصياح في القضايا السياسية التي تفتح بصيرة الشعب على حقوقه ومكتسباته وطموحاته أيضا. وهنا يبرز خلف الوصف الجمالي عدة أنساق ثقافية جاهزة أهمها نسق الحاكم والمحكوم وما يتفرع منه من أنساق ثانوية، مثل أنساق الأفكار والمعتقدات، وأنساق الرموز التعبيرية. ويتمظهر نسق الحاكم والمحكوم في عدة أنساق منها النسق الإبهاري والنسق الاستعلائي والنسق التطويعي ونسق الطبقية (الطبقة الحاكمة والطبقات المحكومة). ولعل هذا النوع من الأنساق ما يطلق عليه الأنساق الثقافية الجاهزة باعتبار أن الكاتب وصف ما هو موجود في الممارسة السياسية في مجتمع الرواية التاريخي، والذي يمكن إسقاطه على واقعنا المعاصر بدرجة ما.

  • تمظهرات نسق الحاكم والمحكوم:

أولا/ النسق الإبهاري:

           ويتجلى هذا النسق من خلال الوصف للطبقة الحاكمة بصورة واضحة في هذه الرواية حيث ركز الكاتب على وصف:

أ/ مظاهر الفخامة: في وصف مجلس الكوراك ومن حوله الظهوريين بأزيائهم المزركشة، ووصف القصور وما بها من ترف، ووصف موكب السلطان ومهره (المهراجا) الذي أهدي إليه من بلاد الهند، حتى وصف ملابسه وحذائه الفخم من جلد الثعبان أو النمر. ووصف مجلس السلطان الفخم بمستشاريه وبسلسلة الكوراك السباعية .

ب/ الألقاب السياسية والدينية: يتمتع أعضاء مجلس الكوراك بألقاب سياسية ودينية أيضا من ذلك لقب الأب الشيخ ولقب الأمير ولقب الظهوري ولقب الجدة والسلطانة.

ج/الخطب البليغة: والتي يمثلها مجلس الكوراك وكيف يحرص الصائح على أن يكون صياحه مؤثرا وبليغا وقد يكون بلغة رقيقة منكسرة لا تقبل غير إثارة المتفرجين وقد يتعاطف السلطان أو لا فهو لا تهمه هذه اللغة ولكن ما يهمه الحفاظ على هيبته ومكانته. وقد تكون الخطبة فيها موقعة على أوزان الشعر تعبر عن مديح للسلطان أو استجداء له.

ثانيا/ النسق الاستعلائي: ويندرج تحته:

أ/ نسق تنزيه الذات: فالسلطان لا يخطئ والخطأ من شأن العامة، رغم ضعفه أمام زوجته مسك، ورغم حياته السرية التي يعرفها الجميع، ولكنها تظل سرية لأن السلطان لا يخطئ، ولا يستجيب لعواطفه المنحرفة. أحكامه في مجلس الكوراك نهائية؛ لأن رأي السلطان لا يمكن أن يكون خطأ؛ وليس قابلا للمراجعة أو الاحتجاج عليه بصورة من الصور.

ب/ نسق تحقير الآخر: تجلى هذا النسق في عدة صور منها: تحقيره للشيخ عباد صاحب الألقاب الدينية عندما صاحت امرأة سيئة السمعة وقالت إنه تحرش بها، فبدلا من أن يصدقه بعد أن استجوبه، قام بالرد على الصياح بجلد الشيخ ثلاثين جلدة وتجريده من ألقابه الدينية.

      أما التحقير بسبب بذاءة اللسان، فهذا عقوبته ليس مجرد التحقير ولكن هدم الإنسان وإهدار كرامته، وهذا ما حدث لآدم نظر بطل الرواية عندما صاح في مجلس الكوراك وكان شابا يافعا مراهقا: أريد أن أكون أبا شيخا أريد أن أكون أبا شيخا أرروك...أرروك. فكان الطلب في نظر السلطان تجاوزا للمسموح به من طلبات، ويدخل في بذاءة اللسان لأنه يمس سلطته هو، فقد عاقبه بأن يكون مهرا للصياح في كتيبة الرعاع ثم محورا ومخنثا ...

ثالثا/ النسق التطويعي:

    وهو نسق إخضاع الرعية وجعلها تابعة للنظام وخائفة ومقموعة، فكان كل من تجاوز حدوده في نظر السلطان يسلم إلى كتيبة الرعاع وهي المسؤولة عن الأمن، وهناك يتم تطويعه، بل هدمه وتحويره إلى خصيّ وضد، وبأن يكون مهرا يركب عليه الأمير مساعد قائد كتيبة الرعاع في جولاته في حي الرديم البائس، وله مطلق الحرية في أن يعاقب أي شخص، أو يأخذ أي شيء يريده، مما يعبر عن حالة القمع والتخويف التي يعيشها الناس من غير أن يكون لهم حق الاعتراض أو الرفض.

رابعا/ نسق الطبقية:

       وهو ما يكشف عن حالة من الطبقية في تصنيف المجتمع، فهناك الطبقة الحاكمة السلطان والملكات والجدات ومجلس المستشارين يمثلون الطبقة المرفهة والمتغطرسة والتي نشأت في أثواب العز وسلوك الغطرسة، ورفاهية القصور وجودة الطعام اللين الطيب من دجاج وسمن وعسل ولحوم خراف وصيد.

        أما الطبقة المحكومة فيمثلها: حي الرديم في العاصمة جوا جوا بفقره وبؤسه، وطعامه الفقير من عصيدة الحمّيض البائسة أو عصيدة الدخن. وقد كرر الكاتب ذكر هذه المسميات بطريقة قصدية الهدف منها إبراز حالة الفقر، يضاف إليها حالة الجهل، في مجتمع يعيش على الخرافة والعرافين والسحرة والأحلام المنامية في بناء مستقبله.

        وهناك طبقات دون مستوى الطبقة الحاكمة وأرفع من مستوى الطبقة المحكومة وهي طبقة الظهوريين وهي الكتيبة المسؤولة من حماية السلطان والقصر، والتي يتميز أفرادها بقوة العضلات واللبس الفخم الزركش والذي يدل على البهاء لمجلس السلطان، والأكل الجيد الذي يختلف عن أكل الرعاع.

           وثمة طبقة هي دون الطبقة المحكومة وهي طبقة الرعاع، وهي تتكون من المغضوب عليهم ويتعرض فيها المعتقلون لشتى أنواع العذاب والتحوير الذي يبدأ بالتحوير إلى مهر أو ناقة، وقد يصل مرحلة الخصي والتحوير إلى ضد وقد يموت في رحلة التعذيب هذه من غير أن يعرف أهله أنه توفي كما حثث لشبرق، وقد ينفى كما حدث لنجام.

           وطبقة الخدم والجواري: وهذه الطبقة عادة ما تكلف بخدمة الملكات المرفهات والجدات وتحت خدمة السلطان نفسه في حياته الخاصة داخل قصره ومخدع نومه، وعادة ما تتكون هذا الطبقة من المحورين الذين أبدع الكاتب في وصفهم بصفات تميزهم من ناحية شكلية وهرمونية، فهم مخصيون مخنثون شعرهم مضفر وعيونهم كحيلة ويتكسرون في مشيتهم ويتأنقون في كلامهم .يقومون بأدوار معينة في قصر الملكة مسك النساء مثل مساعدتها على الاستحمام بماء الورد ،وتدليك جسدها وغير ذلك من سقي الورد وغيره.

          هناك طبقة الأجانب الذين عادة ما تتكون من التجار من صعيد مصر أو من تمبكتو أو الأجانب الأوربيين الذين عادة ما تكون لهم مهام تبشيرية وخيرية لا تزعج السلطان كثيرا، وكان عادة ما يستضيف رساميهم لرسم لوحات تصور الملكة مسك النساء المحبوبة. ولم يحس بخطورة هؤلاء الأوربيين إلا عندما جاءته بعثة كاثوليكية تتهمه بانتهاك حقوق الإنسان، وتحمل إحدى لوحات الرسام جيوفاني التي أطلق عليها اسم (لوحة الضياع) التي تظهر فيها الملكة والمحورين آدم نظر وشبرق. باعتبار أن التحوير يمثل انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان. وما كان منه إلا أن أنكر وحاول أن يخفي المظاهر السالبة لانتهاك حقوق الانسان من قبل كتيبة الرعاع، ولكنه لم يكن صادقا في توجهه وإنما من أجل الخروج من الموقف المؤقت الذي وضعته فيه البعثة الكالثوليكية وما يخشاه من عقوبات وتوقيف منح كانت تأتي للبلاد الفقيرة. ولعل هذا النسق يكشف عن طبيعة موروثة في حكامنا السودانيين منذ القدم، وهي قهر شعوبهم وإنكار ذلك أمام المجتمع الدولي.

  • نسق الأفكار والمعتقدات:

       مجتمع الرواية مجتمع مسلم، ولكن مع ذلك فهو مجتمع طقوسي وسحري فانتازي مليء بعالم الغرائب والعجائب. كثيرا ما تصدر فيه قرار ات الحرب والسلم والقرارات الأمنية على رؤية منامية أو كلام ساحر جاء من تمبكتو المجاورة أو ضاربة رمل تنبأت بحوث شيء. فكثير من أحداث الرواية بنيت على هذا النوع من الوقائع السحرية أو العجائبية. ولعل المكانة التي وجدها بطل الرواية (آدم نظر)عند السلطان كانت بعد واقعة ذلك الحلم الذي رأي فيه السلطان ابن عمه(الرأس)الذي نفاه منذ زمن بعيد إلى الجبال البعيدة بسبب طموحاته السياسية، رآه يطعنه من الخلف ورأى فيه دمدوم (آدم نظر )من الأمام. وكان لتفسير آدم نظر لهذا الحلم بطريقة أعجبت السلطان؛ قد جعلت منه محط إعجاب السلطان وتقديره وترفيع مكانته من خادم إلى كتيبة الظهوريين، ثم عندما تحققت الخيانة على يد الأب الشيخ ومحاولة مساعدة (الرأس) على الاستيلاء على العرش واكتشاف ذلك وإنهاؤه بموت (الرأس) الذي أصبح يوما ما معلقا من عنقه في حجرته واختفاء الأب الشيخ؛ ليصعد آدم نظر إلى تحقيق حلمه في أن يكون أبا شيخا في نهاية الرواية.

 

  • نسق الرموز التعبيرية:

            لعلك وأنت تقرأ هذه الرواية تحس بنوع من التكرار لجمل وعبارات ورموز تعبيرية محددة، يهدف الكاتب من خلال ذلك التكثيف والتكرار لجعل القارئ يصل إلى الدلالة المخبوءة وراء هذا التكثيف للعبارات والجمل الوصفية وتكرارها. استطاع من خلال هذا التكرار أن يجعل عالم الرواية ماثلا شاخصا أمامنا بكل تناقضاته وفقره وبؤسه وسحره ورعاعه ومخصييه، فلن نستطيع أن ننسى الشخصيات التي كرر وصفها بالصفات ذاتها من أمثال آدم نظر بطل الرواية ابن صانع الطبول والمفتوق الذي منع من السفر في بعثة الحج التي كانت تمثل حلمه الذي لم يتحقق حتى مات، وفتى الحور بلهاثه وقصديره وعطره... والرزينة برقتها وبألقابها: المهرجان الطاهرة والرائعة. ولن ننسى نجام ذلك المخصي من قبيلة البيقو التي لا شأن لها، ومدى تخنثه ورفع ثوبه فوق مستوى السرة، وجودة طبخه لحساء الصقور الجارحة للأمير ساعد. كما لن ننسى شخصية المجنون (حلحلوك) وصياحاته المميزة والتي تتسم بالغرابة وعدم الواقعية وتكرار وصفه في كل جمعة صياح وكأنه علامة بارزة مميزة لجمهور جمعة الصياح.

خاتمة:

         نخلص مما سبق إلى صحة الفرضية التي انطلقنا منها والقائلة بأن رواية مهر الصياح لأمير تاج السر، والتي اتكأت على لغة شعرية ووصفية جميلة وصنعة فنية متقنة ،استطاعت أن تمرر في أمان أنساقا ثقافية مضمرة تخفت وراء هذا الجمالي ،كشفت عن مأساة الإنسان ومعاناته وبؤسه وفقره وقهره بصورة مستمرة، غاب فيها تحديد الزمان والمكان ،وإن أوحى لنا عبر متخيله السردي بواقعنا التاريخي والثقافي السوداني الذي يتقاطع مع حاضرنا بكل بؤسه وفشل نخبه السياسية والاجتماعية في الخروج من عباءة الماضي التعيس، لواقع أكثر إنسانية ورحابة وسماحة.