سيف الدين حسن بابكر
حتيتة – الزرافة المشتعلة سيف الدين حسن بابكر أم درمان – أبو روف 13 مارس 2020 ???????????????????????????????????????????? صهد الظهيرة عبَرَ من النافذة الجنوبية واحتل الغرفة على كُبرها وامتد وتمدد للنافذة الشمالية
حتيتة – الزرافة المشتعلة
سيف الدين حسن بابكر
أم درمان – أبو روف
13 مارس 2020م
????????????????????????????????????????????
صهد الظهيرة عبَرَ من النافذة الجنوبية واحتل الغرفة على كُبرها وامتد وتمدد للنافذة الشمالية. أكثر من كتاب حولي وبجواري يتقاسمون معي سريري.. كتاب "درايدن" Dryden أرحته قليلاً على المنضدة الصغيرة التي تُجاور السرير وأبقيت إحدى صفحاته التي عَلقتُ بها مفتوحة:- (ثلاثة شعراء وُلدوا في عصور وبلاد متباعدة، اليونان، إيطاليا، وإنجلترا) فزينوها
تفوق أولهم (هوميروس) في سمو الفكر وتفوق ثانيهم (فرجيليوس) في العظمة. أما ثالثهم (ميلتون) فقد جمع بين سمو الفكر والعظمة.
إن الطبيعة لم تستطع أن تَعدُ أكثر من ذلك، ولكي تصنع شاعراً ثالثاً دمجت بين الاثنين السابقين.
عندما أشعر أن العيون التي كانت مفتوحة على آخرها على القمر ليلة الأمس وطاردت عشرات من الأسطر صباح اليوم متعبة أُريحها قليلاً وأشرع في تأمل لوحات عظماء الإنطباعيين والسرياليين.
الكتاب بين صوابعي.. عشرات اللوحات تنطق بفكر وموضوع ولون.. "الزرافة المشتعلة" لسلفادور دالي تبارح صفحتها تقترب من وجهي وحرارة نيرانها توشك أن تشوي وجهي.. فجأة يقوم طائر ساخر مغامر بالعبور عبر النافذتين بسرعة أفزعتني.. وبذات الوقت تندفع زرافة "دالي" خارجة من الحمام مشتعلة واللهيب عالقاً بجيدها تماماً.
وصراخها يُسمِع كل المدينة حتى الصم من البشر أو الحجر. أندفع إليها أصرخ لصراخها تلتحم بيّ.. النيران تمسك بجلبابي.. تدفعني.. تسقط أرضاً تتمرغ على التراب.. أمزق جلبابي المشتعل.. أحس بالشواء في أطراف جسدي ومصابعي.
حتيتة تستحيل إلى زرافة مشتعلة تشابه تلك التي كانت بين أصابعي منذ لحظات.. اللهب يشع من كل مفاتن جيدها وكأنني لم أرها من قبل.. كل الأشياء تشتبك الصراخ واللهب والقفزات والتمرغ على الأرض والجموع من سكان الحي تحطِّم الباب وتتسور الحيطان مندفعة نحونا.
عين من الأسى في مركز ذلك الإعصار الباكي الحزين.. بل مركز من الصمت!! الأبدية لم تكن ماثلة إنما إنتحار الزمن وموته مخلفاً وراءه حديث بلا معنى ووحدة عميقة عرَّتني حتى من جلدي بل هي عزلة في حقل من اليأس أجهل في وسطه ماذا أريد بل أن كثيراً من البشر لم يجدوا الفرصة ليكتشفوا ما يريدون ويطلبون وكانت "حتيتة" منهم.
خيام القبيلة كانت على أطراف المدينة. الحاجة للمادة تدفعهم لتبادل سلعي.. اللبن يحملنه الحسناوات عند المغيب للمدينة.. "حتيتة" كانت أجملهن.. الحاجة للمادة تقود أحياناً لعبودية الجسد.
الجلابي صاحب المتجر في حالة بحث دائمة عن صاحبات السلعة الكاسدة يدفع بسخاء.. تعود محملة لذويها بكل ما طُلب منها والوعاء فارغ من سلعته.. صويحباتها يحسدنها..
حديثهن في العيب يتناقلنه همساً..!!
أتذكرك الآن "يا حتيتة".. ليت الزمان يتراجع ويتيح سانحة لأصطفيك توأماً لروحي وأمزّق أكذوبة مترسبة في نفسي منذ يوم مولدي.!
حقيقة أنت غائبة ولكن لا ينقطع سياق التخاطب بيننا حتى ولو كان مبنياً على المغايبة لزمن أنت لست فيه إمتد ليشكل سنوات من الحداد أُخادع فيها نفسي بواقع أبعده حيناً وأدانيه أحياناً.
دموعك كانت منهمرة على صدري ذلك اليوم وأنت تسردين ليّ ليلة هروبك من مضارب القبيلة والناس نيام وكأنك خرجتي لتقضي حاجة!! وصولك لمحطة القطار كان متزامناً مع قدومه.! القطار حمل عنك همِّك وحملك شرقاً لحقل جديد من اليأس ذرفت فيه من الدموع ما كتب موات كل الأشياء الكبيرة والصغيرة معاً.
هنالك مغامرات أبطالها دائماً من الرجال حتى ولو كان القبر هو خاتمتها.! "خالك" كان يتعقبك هكذا أفصحتي ليّ، وما كان هنالك من مفر سوى الخروج ليلاً متخفية لهروب جديد.. الإحساس بالإثم أو قل بالعيب شيءٌ مهين.
- ( أنا بأهلي وقبيلتي وعشيرتي وبإخوتي وأخواتي.. هذا الحضيض الذي أنا فيه يميتني كل يوم. أنا هنا في منزل البغاء هذا أعيش عزلة مميتة.. هؤلاء النسوة لا أشبههن ولا أنتمي لهن )!
قدومك معي لمنزلي بدأ بمكوثك معي لليلة وبضع ساعات، ثم تمدد لأيام وأشهر وأسابيع.. المادة والجنس لم يكونا مبتغاك. إكتشفت معك أنك في بحث دائم عن رجل تركنين إليه وتلجئين إليه، ففي زمان الحرب تركن النساء للرجال.
الواشون أبلغوا والدي بأمري.. وصل لمنزلي وأنا بموقع العمل..! "حتيتة" فتحت له الباب وقادته للجزء المخصص للرجال وأولمته عندما حان موعد الغداء، وملأت له إبريقاً ليتوضأ ورفدته بمصلاة ليؤدي صلاة العصر.
أدرت المزلاج في باب منزلي ودلفت داخلاً، أبي كان هنالك ممداً على سرير جميل منسق بعناية!! اضطربت وتلعثمت.. صافحني بحرارة وأجلسني بجواره وأبان ليّ بأنه وصل بعد منتصف النهار بقليل وأنه لابد أن يغادر بعد قليل ليلحق بآخر العربات المتوجهة لمدينتنا.
( أنا عافي منك ورضيان عليك !)
قالها ليّ والدي بعد أن اصطحبته ليستغل عربة الأوبة لمدينتنا القريبة ولم يزد على ذلك بكلمة واحدة في زمن يصطرع فيه الاختلاف بين المقدس وما هو ضده!
ليلة ما قبل الإنتحار كانت قراءاتي منصبة على الشعر ونظريات الجمال واقفاً عند "أدورنو" في كتابه نظرية الجماليات وأقف عند أهم ما نطق به عندما قال: (الفن وسيلة لمنح صوت لبؤس العالم). "حتيتة" لحظتها كانت ساهية عني مستلقية على سرير ليس بعيدة عني حاملة عود ثقاب بيدها تخط به خطوطاً متقاطعة على الأرض بعد أن أمالت رأسها على جانب من السرير.
عزيز، ألا يمكن أن تسترني وتكتب كتابك عليّ؟ إنني لا أطلب منك شيئاً، فقط أن تبقيني هنا بجوارك. أنت أعلم بالقدر الذي رماني في هذا الطريق.. الرجال أنا لست في حاجة لهم. أبقني هنا عند قدميك، أخدمك كل عمري ما حييت؟
ساد صمتٌ بيننا خلت خلاله أن ضوء المصباح الكهربي يرتعش..! أغلقتُ الكتاب وخلعتُ النظارة ووضعتها على المنضدة التي تفصل بين أسرَّتَنا عن بعضها البعض وصمتُ.
بعد لحظات من صمتي رأيتها تدير وجهها للحائظ وتنخرط في نوبة بكاء حار كان هو الثاني لها منذ أن تقاربنا.
كان الحب دائماً هو مبتغاي، وكان العقل دائماً يتدخل بقوة ويقودني بعيداً عن ما انتويت متعللاً بمقاييس تخطتها ساعة الزمان، ليس مبتغاي أن يكون يومي مثل أمسي أو كالغد بل أتوق دائماً لأعيش اللحظة مفعمة بالحب وليس دون ذلك.
*قمت من مرقدي قبل أن ينتصف الليل وأطفأت كل المصابيح كعمل روتيني دأبت "حتيتة" على القيام به.
دأبت على النوم صباح كل جمعة إلى أن توقظني شمس الضحى! كانت "حتيتة" تتركني دائماً تأدباً أن أسبقها على الولوج للحمام*.
ذلك الصباح سريرها كان خاوياً.. نظرت إلى الحمام فلاحظتُ أن بابه مغلقاً. أعدت النظارة إلى وجهي وشرعت في مواصلة ما كنت أقرأ ليلة الأمس.. الزمن يمتد.. باب الحمام ما زال على حاله
تركتُ ما كنت أقرأ ورحت أطالع في أعمال سريالية "لسلفادور دالي" ولحظة أن ثبَّتُ عيناي على زرافته المشتعلة إنفتح فجأة باب الحمام وزرافة "دالي" مشتعلة.. مشتعلة.. مشتعلة ولهيبها ودخانها يستبقان ويسبقان روحها صعوداً للسماء مبلغانها بموت زرافة "بغي" كانت عند مولدها بالأمس بتولاً عذراء.