روح المدينة

روح المدينة لمياء شمت أدب الرحلات الذي كتب عن السودان، تحديدا في قالب المذكرات، تميز باختلافات ملحوظة في الرؤى، وتناقض ظاهر في الملاحظات التي تعكس بدورها تباين زوايا الرؤية، ودرجة الإضاءة النفسية التي قد تتأرجح بين الكامد والساطع.

روح المدينة

روح المدينة

لمياء شمت               

 

 

 

أدب الرحلات الذي كتب عن السودان، تحديدا في قالب المذكرات، تميز باختلافات ملحوظة في الرؤى، وتناقض ظاهر في الملاحظات التي تعكس بدورها تباين زوايا الرؤية، ودرجة الإضاءة النفسية التي قد تتأرجح بين الكامد والساطع.
فدكتور محمد حسين هيكل، على سبيل المثال، في مؤلفه (عشرة أيام في السودان) قد أصابته عمارة مدينة الخرطوم بالإحباط الصادم، فقط لمجرد أن المباني بدت خفيضة قليلة الارتفاع، فاستثاره ذلك الأمر وجعله يزعق بغطرسة "ما هذه المباني المحيطة بنا، والتي لا ترتفع أكثر من طابق واحد؟!!".
وفي رقعة زمنية أخرى يكتب غسان كنفاني عن ذات العمارة بحفاوة بالغة، تكاد تسيل خضرتها الصوفية، فيقول: "الأبنية المنخفضة كأنها نتوءات مربعة صغيرة في أرض مسكونة بالبراءة". بل أنه يمضي ليحتج على الأبنية الشاهقة المتعالية التي تناقض طبيعة تلك البيئة: "هي محض اعتناق أهوج لظواهر جمالية غير مناسبة". ويحس كنفاني أنه قد وجد ضالته التعبيرية عندما يخبره صديقه السوداني بأنها هندسة تفتقر للمروءة، لأنها تلغي الخصوصيات وتتطفل على الجار بل وقد تستعديه، وأن في السودان المترامي مليون ميل مربع نستطيع أن نستمتع بها أفقياً، قبل أن نتعجل رفعها عمودياً. فيستسيغ كنفاني هذا الرأي ويعتنقه بكثير امتنان ومحبة.
ونعود كرة أخرى للدكتور هيكل، لنجده يمر بالنيل مراراً وتكراراً دون أن يرى منه بالكاد سوى الرمال الهائلة على شاطئيه، والبيوت المتكأكئة قبالته. حتى أنه لا يقول عن لوحة المقرن البديعة سوى "في المقرن حيث يقترن النيل الأبيض بالأزرق تجري السفن التي تقل الركاب بين الخرطوم وأمدرمان". على العكس تماما من انطباع غسان كنفاني الذي يأسره النيل ويغويه ويستنطق قلمه، فيكتب عنه بقالب أسلوبي جزل بارع الخيال قائلاً " أطل على النيل وهو يتمسح كنمر قوي أليف على خشب الجذوع الضخمة للأشجار المحيطة به".
وهكذا فإذا عدنا للإنطباعات المنطفئة التي رسبت في ذاكرة د. هيكل عن روح المدينة التي زارها، فأننا لا نكاد نجد سوى وصفاً مستفيضاً للضرم الحياتي القاسي، والصعوبات المعيشية المؤسية، ورهق دركات حياة الكفاف.حتى أنه يعلن بأسى أن الصور التي كانت مرتسمة في خياله عن الخرطوم قد إزدادت ذبولاً وبؤسا، حتى كادت أن تصل مبلغ الاستبشاع عنده.

 

 


فإذا قرأنا ما كتبه كنفاني وجدنا فيه الاستملاح والمحبة ودقة الحس والملاحظة المتأملة. حتى أنه يرى شخصية المدينة حاضرة بمهابة في شعث تفاصيلها الصغيرة، فيقول(أنت ترى الخرطوم ممتدة على صدر خصب وشاسع فتملؤك بشيء يشبه وقووفك على فوهة نبع سخي، أن صدر الخرطوم يدق بحيوية مدهشة).
أما السوق فقد كان حظه كبيراً في تلك النصوص، فهيكل لم ير فيه سوى الوجوه المتعبة، التي علتها آثار الشقوة، وهي تفترش بضائع وصناعات وطنية بسيطة وضئيلة العائد. وحتى عندما يمر بصناعة العاج فأنه لا يملك سوى أن يتنهد قائلا: (ًزخارف ظريفة مموهة بالذهب، لكن هذه الصناعة ماتزال متأخرة كثيراً هنا).
ويزور كنفاني ذات السوق لتجري في كلماته روح مختلفة، فيكتب: (أحدق الى رجل يقشر العاج بأزميله الحاد، فيتطاير الرذاذ الناصع ويستقر على وجههه، فيجعله يبدو وكأنه محاط بوهج لا يصدق).
وكذلك كان الحال بالنسبة للمهندس فان بوتر، أستاذ العمارة ومؤسس قسمها بجامعة الخرطوم وزوجته عالمة الآثار مارغريت عندما زارا السوق، بمعية حسن العتباني.فكتبا عنه مؤلفهما المشترك (كل شيء ممكن)، بلغة واصفة دقيقة وأنيقة، مليحة العبارة، تصف مشاهدتهما لصناعة العناقريب، ولمتاجر الخرز الكهرماني الملون. حتى أنهما لا يترددا في وصف تلك الزيارة للسوق بأنها كانت "جولة ذات طابع ملوكي".
وبعدها يرحل هيكل إلى دياره مخلفاً وراءه عاصفة غبراء من السخط، حيث تصدى له الأستاذ عبد الرحمن أحمد، عبر صحيفة (الحضارة). وكذلك كتب حسن نجيلة لاحقاً أن هيكل لم يقدّر حداثة عهد المدينة التي زارها. أما كنفاني فيغادر ممتناً وهو يردد: (لازلت أحتفظ في راحة يدي بطعم تلك المصافحة الحارة).
ونطل على مارغريت وبوتر وهما يوثقان زيارتهما للسوق بشراء حُق سوداني، "إناء طِيب تقليدي"، يقول عنه بوتر (لا زلت أبحث عما أصف به هذا الفن الجميل فلا تسعفني الكلمات).

 

 

 


ويعود بنا كل ما ذكرنا لما ابتدرنا به المقال عن الهوة النسبية بين تلك الانطباعات والمشاهدات المتضاربة، والتي غالباً ما تشف عن الكيفية النفسية والحالة الشعورية التي جعلت بعض الزوار يركز على الملامح المادية البحتة، لتصبح جل المشاهدت برانية صرفة. بينما يرى زائر آخر قسمات دلالتها على الباطني والمعنوي أوسع وألصق. وهذا في حد ذاته كاف ليجعل بعض من تلك النصوص انطباعات تأملية جوانية. بينما توسم الأخرى بمشاهدات تصويرية محضة، واستقراءات للواقع باستقبالات فتوغرافية آلية.