رمضان عند متمردي الشعراء

رمضان عند متمردي الشعراء التجاني سعيد محمود رمضان شهر عظيم من شهور السنة ، بل هو أعظمها على الإطلاق ، وقد ورد اسمه في القرآن الكريم مرة واحدة مقروناً بالتبجيل والتفخيم في سورة البقرة في قوله تعالى ( شهر رمضانَ الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه )

رمضان عند متمردي الشعراء

رمضان عند متمردي الشعراء
                    التجاني سعيد محمود

 

 

    رمضان شهر عظيم من شهور السنة ، بل هو أعظمها على الإطلاق ، وقد ورد اسمه في القرآن الكريم مرة واحدة مقروناً بالتبجيل والتفخيم في سورة البقرة في قوله تعالى ( شهر رمضانَ الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) كما ذكر الصوم الذي هو من لوازمه في آيات أخرى معروفة ، وقد تواترت الأحاديث النبوية في بيان فضل شهر رمضان وبركته وبيان ما أعده الله للصائم من المغفرة والثواب ، ولو لم يكن في هذا الشهر فضيلة سوى ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن لكان كافياً في تفضيله على بقية الشهور والأزمان ، وكيف لا يكون كذلك وهي وحدها خير من ألف شهر .
    وقد فرض الله تعالى في هذا الشهر صوم نهاره ، وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وغيرها مما هو مركوز في الغريزة الإنسانية ، ومفطور عليه الإنسان ، ومن هنا جاءت مشقة الصوم لأن فيه مجاهدة للنفس  وكفها عن إشباع هذه الغرائز ، وفي المقابل أعطى الله للصائم ثواباً عظيماً جزاء على هذه المجاهدة .
    والناس متباينون في الصوم ، فمنهم من يحتمله ويجد لذة في ما يجده من عناء ومشقة لمعرفته بفضله وما أعده الله للصائم ، وهؤلاء منهم من يتطوع بالصيام في غير رمضان ـ وربما العمر كله ـ محبة له واستزادة من خيره ، ومن الناس من يحتمل مشقة الصوم بوصفها فريضة من الله لا يمكن الإخلال بها ولكنه لا يزيد على ذلك شيئاً ، ومنهم ـ من غير أصحاب الأعذار ـ من لا يحتمل الصوم لغلبة سلطة الغرائز عليه وعدم قدرته على مقاومتها فلا يصوم أصلاً ، ومنهم من يحتال عليه بإدعاء المرض وغيره مثله في ذلك مثل الأعرابي الذي قيل له أن رمضان قد أتى فقال ( والله لأشتتن شمله بالأسفار ) يعني أنه سيقضيه متفرقاً حسب الطاقة .
    والشعراء كما هو معلوم من حال الأكثرية منهم قديماً وحديثاً أهل هوى واتباع للشهوات ، فهم متمردون في الغالب على الشعائر الدينية من صوم وصلاة ومناسك وغيرها ، ومن أداها منهم فعلى قدر المطلوب من غير نافلة ، فهم يصومون كسائر الناس ، لكن نظرتهم إلى رمضان فيها كثير من التململ والضجر ، فرمضان عندهم هاذم اللذات ، وقاطع المسرات ، ومفرق الأحبة ، وهو عندهم طويل الساعات ، بطيء الحركة ، لا ينتظرون قدومه بفرح ، وإذا جاء تمنوا انتهاءه بفارغ الصبر حتى تعود نفوسهم إلى شهواتها سريعاً ، ولياليهم إلى بهجتها وأنسها التي كانت من قبل ، ولمعرفة الله بالشعراء وأحوالهم قال فيهم ما قال ، ثم ختم أوصافهم بقوله ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) وهذا الاستثناء بشروطه الكثيرة خص الله به الشعراء وحدهم لأنه اكتفي مع غيرهم بقوله ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) فقط !      
    وقد تناول كثير من الشعراء الصالحين شهر رمضان بالوصف فمدحوه وبينوا فضله وبكوا عند فراقه واشتاقوا لعودته ، وجميع ذلك مذكور في دواوينهم ، وفي المقابل ورد في تاريخ الأدب بعض النصوص الشعرية من شعراء عرفوا بالمجون أو الزندقة وقد تناولت أشعارهم شهر رمضان بالانتقاص والأوصاف غير اللائقة به ، والتي تكشف عن نفسية الشاعر الشهوانية التي لا تستطيع الصبر على الجوع والعطش والملذات المحرمة التي أولها الخمر وآخرها الجنس ، وسأورد في هذا المقال بعضاً من هذه الأشعار للتدليل على ما ذكرناه ، وأنا استغفر الله العظيم مما قاله هؤلاء الشعراء ، فأنا لا أوافق عليه ولا أرتضيه ، ورجائي من القارئ عند قراءته لهذه الأشعار أن يتذكر القاعدة المعروفة التي تقول ( ناقل الكفر ليس بكافر ) .
     ومما يلاحظ أن جميع من أساءوا إلى رمضان ماتوا على أسوا حال وأولهم ابن الرومي القائل في أول قصيدة له :
رمضانُ يزعمُهُ الغواةُ مباركٌ          صـدقُوا وجدّك إنه لَطويلُ
شهرٌ لعمرُك لا يقـلُّ قليلهُ          وكذا المبارك ليس منه قليل
تتطاولُ الأيام فيه بجهـدِها           فكأنَّ عهدَ الأمسِ منه محيل
لو أنـه للقاطعين مسافـةً            لحسبتَ أن الشبر فيها مِيل
    فقد ذكر المؤرخون أن ابن الرومي أصيب بعد هذه الأبيات بالوسوسة والهوس ، وانتهت حياته مقتولاً بالسم وقد أشرف على الجنون ، وللشعراء الملتزمين ردود كثيرة على أبيات ابن الرومي هذه منثورة في دواوينهم وفي كتب الأدب .
    وممن أساء إلى رمضان أيضاً الشاعر عمارة اليمني في قوله :
لو لم يكن رمضان شهر كرامة      يقضى له بخصائص الإكـرام
لأنفت مـن تاريخـه وسلبته     ذكر الفضيلة من شهور العام
ووسمتـه بملامـتي وجعـلته     هـدفاً لكـل مـذمة وملام
ولقلت إن الصوم ليس بواجب    فيه وأن الفطر غـير حـرام
إني ليحزنني طلـوع  هـلاله        وطلائع رهن الصدى والهام
وأحـب شعباناً لأني لا أرى         منه إلى شـوال غير ظـلام
    وقد قتل عمارة اليمني ـ لعنه الله ـ وصلب بأمر من صلاح الأدين الأيوبي رحمه الله في أمور أخرى غير هذا الشعر .
    ومنهم أيضاً عبد الله بن المعتز القائل :
طَوَّلَ في أَيلولَ شَهرُ  الصِيامِ      وَما قَضَينا فيهِ حَـقَّ  المُـدامِ
وَاللَهِ لا أَرضى عَلى الدَهرِ أَو     يَسرِقَ شَهرَ الصَومِ في كُلِّ عامِ
    فالشاعر هنا لا يرضى من الدهر إلا أن يحذف منه شهر رمضان ، وقد قتل ابن المعتز أيضاً إثر انقلاب فاشل على الخلافة دام يوماً واحداً فقط .
    وأما بقية الشعراء فلم يصلوا إلى هذا الحد الذي وصله ابن الرومي وعمارة اليمني وابن المعتز ، وإنما كانت معانيهم تدور حول طول شهر رمضان وانتظار انتهائه ، والفرح بشهر شوال والاحتفاء به .
    فمن المعاني المقبولة في طول شهر رمضان قول الشاعر :
أنبئت أن فتاة كنت أخطبها     عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
أسنانها مائة أو زدن واحدة        كأنـه حين يبدو وجهها غول
    وقد روي أن الإمام ابن سيرين التابعي المشهور كان ينشد البيت الأول كثيراً استظرافاً للصورة الفنية فيه ويضحك حتى يسيل لعابه .
    ومن قول الشعراء في طول شهر رمضان قول أبي دلامة :
جاء شَهر الصومِ يَمشي       مِشـيَةً مـا أشتَهِيهـا
قائداً لي لَيـلَةَ القَـدر         كـــأنّي  أبتَغِيهـا
تَنطَحُ القِبـلَةَ شَـهراً         جَبهَتي لا تَأتلِيهـــا
        ومن ذلك قول الحارثي وقد ذكره المبرد :
شهرُ الصيام وإن  عظَّمت حرمتـهُ         شهرٌ طويلُ بطيء السير والحـركهْ
يمشي الهوينا إذا مـا رامَ فــرقتنا         كأنـهُ بطــةٌ تنجرّ في  شـبكه
لا يستقرّ فأمـا حينَ يطلبنـــا           فلا سُليكٌ يُدانيهِ ولا سُلـــكه
كـأنهُ طالبٌ ثأراً على فــرس            أجَدَّ في إثرِ مطلوب على رمـكهْ
يا صدق من قالَ أيامٌ مبــاركةٌ         إن كان يكنى عن اسم الطولِ بالبركهْ
    وسليك بن السلكة المذكور في هذا الشعر هو أحد الشعراء الصعاليك الجاهليين ،  وكان يسابق الريح في عدوه .
    ومن ذلك أيضاً قول الشاعر :
أرى الصومَ يضني الجسمَ وهو مُكلِّفي        ثلاثينَ يومـاً فيـه نعـْنى  ونجهَـدُ
لك الأمـرُ فاصنعْ مـا تشاء فـإنني          أكـافيكَ بعد العيد والعود أحمـدُ
    وذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار أن أعرابيّاً أدرك شهر رمضان فلم يصم فلامته امرأته في الصوم فزجرها وقال :
أتأمرني بالصّوم لا درّ درّها     وفي القبر صومٌ يا أميم طويل
    والأمر الثاني الذي يقلق الشعراء في رمضان هو انقطاعهم عن الخمر ، فهم يريدون انقضاء رمضان سريعاً لعودتهم إليه وإلى الغناء والمجون ، وقد وردت في ذلك أشعار كثيرة  منها قول أحمد شوقي المشهور :
رَمَضانُ وَلّى هاتِها  يا ساقي          مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشـتاقِ
ما كانَ أَكثَرَهُ عَـلى  أُلافِها        وَأَقَلَّهُ في طـاعَةِ الخَــلاق
اللَهُ غَفّارُ الذُنـوبِ جَميعِها       إِن كانَ ثَمَّ مِنَ الذُنوبِ بَواقي
بِالأَمسِ قَد كُنّا سَجينَي طاعَةٍ       وَاليَومَ مَنَّ العيـدُ بِالإِطلاقِ
    وقال الشاعر العباسي علي بن جبلة في أبيات يذكر فيها الخمر :
قَد أَتانا شَوّالُ فَاِقتَبَلَ العـَيش        وَأَعدى قَسراً عَـلى رَمَضانِ
نِعمَ عَونُ الفَتى عَلى نُوَبِ الدَهر     سَـماعُ القِيانِ وَالعِيَــدانِ
وَكُؤوسٌ تَجري بِماءِ كـرومٍ         وَمَطِيُّ الكُؤوسِ أَيدي القِيانِ
وقال صفي الدين الحلي وقد أفحش القول :
دَقَّ شَوّالُ في قَفا رَمَضـانِ      وَأَتى الفِطرُ مُؤذِناً بِالتَهـاني
فَجَعَلنا داعي الصَبوحِ لَدَينا      بَدَلاً مِن سُحـورِهِ وَالأَذانِ
وَعَزَلنا الإِدامَ فيهِ  وَلـُذنا       بِقَنانٍ  مَصفوفَـةٍ وَقِـيانِ
وَنَحَرنا فيهِ نُحورَ زِقـاقٍ        وَضَرَبنا بِهِ رِقـابَ  دِنـانِ
وَاِستَرَحنا مِنَ التَراويحِ وَاِعتَضنا    بِخَفقِ الجُنـوكِ وَالعيـدانِ
فَالمـَزاميرُ في دُجـاهُ زُمورٌ       وَالمَثاني مَثـالِثٌ وَمَثـاني
كُلَّ يَومٍ أَروحُ فيهِ وَأَغدو         َبينَ حورِ الجِنانِ وَالوِلدانِ
مَنظَرُ الصَومِ مَع تَوَخّيهِ عِندي    مَنظَرُ الشَيبِ في عُيونِ الغَواني
وقال أبو نواس وهو رائد هذه الصنعة والمقدم فيها :
اِستَعِذ مـِن رَمَضانِ بِسُلافاتِ الدِنانِ
وَاِطوِ شَوّالاً عَلى القَصف وَتَغريدِ القِيانِ
وَليَكُن في كُلِّ يَومٍ  لَكَ فيهِ سَكرَتانِ
مـَنَّ شَــوّالٌ عَلَينا وَحَقيقٌ بِاِمتِنانِ
جاءَ بِالقَصفِ وَبِالعَزفِ وَتَخليعِ العِنانِ
أَوفَقُ الأَشهُـرِ لي أَبعَدُها مِن رَمَضانِ
    وقال أيضاً :
وَإِنّـي بِشَهرِ الصَومِ إِذ بانَ شامِتٌ         وَإِنَّكَ يا شَوّالُ لي لَصَديقُ
فَقَد عاوَدَت نَفسي الصَبابَةَ وَالهَوى         وَحانَ صَبوحٌ باكِرٌ وَغَبوقُ
    ومعنى بان انتهى وانقضى ، والصبوح والغبوق الخمر في أوقات معينة .
(
    وبعد عزيزي القارئ ، فهذا غيض من فيض ، ولولا ضيق المقام لأطلنا النفس في هذا الموضوع ، وأختم مقالي بهذه الطرفة السودانية ، فقد قالوا أن جماعة من أهل الشراب اجتمعوا قبل يوم من رمضان للتزود بما يكفيهم ( خم الرماد ) وأحضروا كثيراً من الخمر واللحم وبدأوا يشريون ويأكلون ويغنون ، فما انتبهوا إلا والمصلين يقولون في المصلى : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله .. فقد كان اليوم الأول من أيام عيد الفطر .