ذاكـــــرة الحــــلــم

ذاكـــــرة الحــــلــم لمياء شمت                                                                           استفاق الشاعر الرومانسي كولريدج ذات ليلة مضطرباً مبهور الأنفاس، وبيد مرتعشة استطاع بالكاد أن يمسك بالريشة وانكب جاثياً يكتب ويكتب بلا توقف، وكأنه يحتلب ذاكرة أحلامه، ويجهد ليقبض على أطراف رؤيته المنامية قبل أن تنسرب في عتمة النسيان

ذاكـــــرة الحــــلــم

ذاكـــــرة الحــــلــم
لمياء شمت
               
                                                         

 

 

 


استفاق الشاعر الرومانسي كولريدج ذات ليلة مضطرباً مبهور الأنفاس، وبيد مرتعشة استطاع بالكاد أن يمسك بالريشة وانكب جاثياً يكتب ويكتب بلا توقف، وكأنه يحتلب ذاكرة أحلامه، ويجهد ليقبض على أطراف رؤيته المنامية قبل أن تنسرب في عتمة النسيان. وقد استطاع كولريدج في تلك الليلة العجيبة ان يدون ما يقارب الخمسين بيتاً شعرياً في أكمل تمامها البنيوي والصوتي والدلالي، تماما كما تجسدت في حلمه. وقد ظل الشاعر بعدها يحكي بدهشة بكر كيف أن تلك الرؤية قد شقت طريقها عبر أضغاث لاوعيه لتطفو على سطح إدراكه.وهكذا فقد دون كولريدج بذلك الميلاد المدهش لقصيدة (قوبلاي خان) الفذة.

 

 

 

فهل من تفسير يملك أن يخترق حجب  الماوراء ليخبرنا كيف يمكن أن تُزف قصيدة في أوج أبهتها الإبداعية عبر رؤية منامية، وكيف في الأصل تكونت تلك القصيدة وانتظمت وتنضدت ثم احتشدت هناك في غيهب اللاوعي، في طبقة غائرة اتاحت تلاقح الفكري والفلسفي والروحي، مع الوجداني والانفعالي في تركيبة كثيفة متوهجة.
 

 

 


وفي مكان آخر، وفي أمسية شتوية بيضاء هبت ذات الإفاضات الكونية على منخفض المخرج الروسي الارتجالي بارادجانوف، وهو من أهم مبدعي سينما الكولاج الروسية المعروفة بتوليفاتها الفوضوية، المستغرقة في التشذر والإبهام. وغاية الأمر أن بارادجانوف قد كان منشغلاً حتى شحمة أذنيه، ومستغرقاً حد الارهاق في إعداد فيلم عن الرسام والفنان الروسي الشامل فروبل. وقد ظل بارادجانوف يهجس في قرارة ذاته بأن سيناريو الفيلم أبتر وينقصه شئ ما ليكتمل وتتصل حلقاته. وبلغ به الإعياء ليلتها حده، مما جعله يرخي قبعته ويذهب في نوم هش قلق. وإذا بحلقة السيناريو المفقودة تأتي محمولة على صهوة رؤية منامية ساطعة. وكحال كولريدج فقد ظل بارادجانوف يحكي بإسهاب عن ذلك العروج الروحي الإبداعي الملغز.

 

 

 

 

ويبدو أن تلك الطاقة العربيدة قد وجدت طريقها أيضا إلى كوة وعي الروائي المصري يوسف إدريس، فإذا به ينتفض من نومه واجفاً متعرقاً ليدون قصة (لعبة البيت) تامة غير منقوصة كما حلت في منامه. وقد أكدت زوجته رجاء الرفاعي على تلك الحادثة الإستثنائية، وروت تفاصيلها في لقاء خاص أجرته معها جميلة التوني بصحيفة الرأي العام المصرية بتاريخ 19 سبتمبر 2000.
 
ولعل كل ما رصدناه هنا لا يزيد عن بضع أمثلة متفرقة من هنا وهناك سمح لها أصحابها بأن تجاوز السر إلى العلن، فيما يظل الكثير من تفاصيل هذه الظاهرة  مطموراً في درك التوجس والخوف والتردد، حيث يمتنع البعض عن ذكر حوادث مشابهة حفاظاً على سرية تلك المعارج الشفيفة وما ينطوي فيها من صلات روحية شفرية. أو ربما تجنباً لمزالق التكذيب وكيل التهم الجزاف. وهكذا فقد ظل الأمر مستغلقاً عصياً على الشرح، لا تسكت فتات التفسيرات المبذولة فيه جوع السؤال اللحوح: ما الذي حدث حقاً في تلك الليالي الفريدة!