خيانة

خيانة أسماء رمرام.. قسنطينة اقتنى هشام بعض الفواكه من " سوق العصر " بعد عودتهِ من عمله ، ثم أسرع يحث الخطى نحو بيتِ

خيانة

خيانة

أسماء رمرام.. قسنطينة

 


اقتنى هشام بعض الفواكه من " سوق العصر " بعد عودتهِ من عمله ، ثم أسرع يحث الخطى نحو بيتِ
جاره كمال  ، متلهفا لرؤية ولده " أيهم " ، الذي يقضي يومه مع زوجةِ جاره ، منذ وفاةِ زوجته اختناقا
بالغاز .
طرق الباب ، فإذا بالطفل يعانقه وعيناه تفيضان ، والعرق يتصبب منه ، كما لو أن مكروها ما أصابه .
لم يسأل هشام عن سبب بكاء طفلهِ ، فهو يدرك أن طفلا بعمر أيهم ، شقي ، كثير الحركة ، مندفع ، في
مرحلةِ الاكتشاف ، ولا بد أنه طلب من زوجةِ الجار شيئا فأبت تنفيذ طلبه ، هكذا خمّن ، ثم شكرهم على
عنايتهم بهِ ، ودخل بيتهُ حاملا إيّاه بين يديهِ ، وعلامات السرور بادية على محيّاه ..
تذكر أبياتا من الشعر قرأها في صباه ، يقول فيها الشاعر :
" وأطيب ساعِ الحياةِ لديّا .....عشية أخلو إلى ولديّا "
تنهد ، ثم استلقى على سريره لحظاتٍ فقط ، وراح يلاعبه.
تناول أيهم ثمرة برتقال ، بنهم ، ثم انصرف إلى دورة المياه ، يتبول وهو يئن ، ما فاجأ أباه الذي لم يتعود
على رؤيته يئن أثناء التبول ..
كان أول ما خطر ببالهِ ، خصوصا أن الطفل تردد على دورة المياه ثلاث مراتٍ في ساعةٍ واحدة ، أنه قد
 أسرف في تناول الحلوياتِ والمشروباتِ،وخشي عليهِ من الإصابة بمرض السكري، ذلك أنه داء ابتلي
 به الملايين في العالم ، ولم يسلم منه الكبار ولا الصغار، فالأكل الذي نستهلكه غير صحي، والإفراط  في
تناول السكريات يرفع احتمالات الوقوع في شراكه .
غير أن أنين الطفل وبكاءه المستمر ، شوش عليه تفكيره ، فأسرع إلى بيتِ جاره ، يسأله :
" أخي كمال ، هل يتناول ولدي عادة كثيرا من الحلوى والعصائر  ؟؟ "
تسمّر كمال في مكانهِ كما لو أن صاعقة نزلت عليهِ ، ثم ردّ بارتباك :
" ربما ، سأسأل زوجتي "
" حسنا "
وعاد بعد هنيهة ، مجيبا بالنفي القاطع ، متحججا بأن زوجته مثقفة ، وتحرمه من السكرياتِ عمداً ، إلا ما
كان منها بكمية قليلةٍ  ، خشية على أسنانه من التسوس .
 رجع هشام إلى منزلهِ ، فأدرك ابنه يلعب كما لو أنه ليس نفس الشخص الذي كان يصرخ منذ دقائق .
تنفس الصعداء ، وحمد الله كثيرا وخمن أنه حادث عارض فحسب .

أثناء العشاء ، تذوق أيهم بعض الدجاج المقلي ، ثم نهض مسرعاً ، ليلاعب دمية على شكل دُبٍّ كبير ،
كان قد تعوّد على أن ينامَ معها ، وأن لا ينام إلا إذا احتضنها ..
نهره أبوه ، قائلا :
" منذ متى تقوم عن المائدة دون أن تغسل يديك يا بابا ؟؟ "
واصطحبه إلى الحمّام ، ثم غسل يديه وأسنانه ، وأعاده إلى الغرفة حيث ألعابه ، بينما قام هو بغسل
الأواني وتنظيف المطبخ ، وترحّم على زوجته الفقيدة ، ولسان حاله يقول :
" لو أنكِ هنا يا فاطمة ..آخ "..
وما هي إلا لحظاتٌ ، حتى أنهى تنظيف المطبخ ، وحمل ابنه بين يديه ، ومعه " الدب" ، واستلقى على
 سريرهِ ، يقرأ قصة للطفل وهو يداعب شعره ..
همّ هشام بالنومِ ، فإذا بهِ يرى أمرا يقضّ مضجعه :
كان الطفل يحتضن الدمية ، ويداعب ذكَره ، وهو يتمتم بكلام بذيء ..
" ماذا تفعل يا بابا ؟ "
" أفعل كما نفعل أنا وبابا كمال كل يوم "
كان لاعتراف الطفلٍ وقعُ الرصاص على قلب هشام ، وإذا بعبراتهِ تنسكب ، وإذا بعروقه تنتفض ، كما لو
أن دمه يغلي ، وشرايينه تتخبط ، وأسرع يحث الخطى نحو منزل كمال ، بثياب نومه ، وهو يقول :
" سأقاضيك يا كمال ، يا خائن الأمانة ، سوف أدخلك السجن لا محالة ، ستبكي كالنساء على فعلتك أيها
الوقح  " ..

...
...
كان كمال في تلك الأثناء بين أحضان زوجتهِ ، غير أن شروده كان واضحا جدا ، فسألته في إلحاح :
" هل ثمة خطب ما ؟ "
أجاب بالنفي ، فكررت سؤالها :
" أنت لست بخير أبدا ، هل ثمة خطب يا كمال ؟؟ "
" لا شيء إطلاقا ، أشعر بمغص وهذا كل شيء "
" حسنا ، سأحضّر لك كأسا من الزعتر "
وقامت إلى المطبخ تبحث عن الزعتر ، بينما طرق الباب طرقا عنيفا ..
كان كمال متمغصاً، فحديث جاره عن حال ابنهِ لم يطمئنه  ،أسرع إلى دورة المياه ،  ومكث
هناك زمنا ، بينما هي تحدث جارها الذي لم تفهم سبب غضبهِ ، وتطلب منه الصبر قليلا ..
أحرجها موقف زوجها الذي لزم المرحاض ، فدعت هشام إلى دخول الصالون ، ولم تنتبه إلى أنه دخل
الحمّام بحثا  عن زوجها بينما هي تجهز صينية لاستقباله .


و بينما كمال يغسل يديهِ ، إذا بهشام  ينقض عليهِ كوحش ضارٍ  فيبرحه ضربا ، قبل أن  ينفجر باكيا وهو
يقول :
" وعلاش يا كمال علاش ؟؟ هذي راهي أمانة عندك .هل تعاشر طفلا عمره أربع سنوات لتشبع رغباتك
يا حقير ؟؟  ألا تستحي من الله وأنت تفعل فعلتك ؟؟ لقد اعترف الطفل بأنك تفعلها معه كل يوم ، بينما
زوجتك تأخذ قيلولتها ..هل تظن أن قطعة حلوى ستجعل الطفل يصمت طويلا ؟؟ لقد آذاه فعلك الوحشي ،
فصار يتبول بألم ، لقد فضحك الله يا هذا ..سأقاضيك ..سأجعلك عبرة لمن يعتبر .."
 للحظة ما شعر كمال برجولته تتقزم ، وجبالِ كبريائه الشاهقة  تنهارُ كما لو أن ريحا عاصفا بددتها،
فصيّرتها هباءً منثوراً ، وخافِقهِ يتردد صدى نبضاتهِ كما يتردد دويّ الرصاصِ في كهفٍ مهجورْ ،
وماكان له أن يستر توتّر ملامح وجهه بنقاب ٍ يواري سوءة َ خجلهِ ، وما وجد سبيلا أمام هذا الموقف
المخزي سوى أن يقرّ بفعلته ، قائلا :
" إنه الشيطان يا أخي "
ردت زوجته ودموعها تملأ وجنتيها :
" بل أنت هو الشيطان يا كمال ..قبحك الله ..لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم "
وسقطت مغشيا عليها من هول المفاجأة ..

 


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
" سوق العصر " : سوق قديم من أسواق مدينة قسنطينة .