محجوب شريف.. تجربة إنسانية تصنع الحياة د.أسامة خليل
محجوب شريف.. تجربة إنسانية تصنع الحياة
د.أسامة خليل
شجون متداخلة ينتاب الراصد لتجربة محجوب شريف الإبداعية التي تجاوزت العادية في التناول والطرح لتقف جنبا إلى جنب مع التجارب الإنسانية الخالدة في مجال الأدب التي كتبت لها الذيوع، ولا غرو في ذلك حينما يشدو برائعته:
الشعب حبيبي وشرياني..أداني بطاقة شخصية.. من غيرو الدنيا وقبالوا.. قدامي جزاير وهمية.. الاسم الكامل: إنسان الشعب الطيب والدي".
وكأنه ينظر إلى الغائية من الشعر في قول عباس محمود العقاد، أن يكون: شاهدا من شواهد نهوض الأمم ومرآة يتصفح فيها الناس صدور نفوسهم في كل عصر وطور.
إنسان نقي الدواخل في تواضع ودود، وتلقائية متناهية، يسهل عليك خلق تواصل اجتماعي وإنساني معه دون حرج أو بروتكولات رسمية، معرفا بنفسه في ديوانه السنبلاية:
لا أنا فلان الفلاني.. ولاني فوق ساس جاهي بأني.. عندي بس حبة أماني..وحزمة ولا اثنين أغاني.
لم تقف تجربة محجوب شريف في محطة الهموم الذاتية لتخاطب تاريخنا الوجداني من عهد قيس وليلى فحسب، وإنما خرج بالشعر إلى دنيا الناس لتصنع الحياة، وتعبر عن مكنونات الشخصية السودانية وتطلعها إلى الحرية والديمقراطية وستر الحال، بعد كل حقبة مريرة من الكمون والانكسار :
يا شعبا تسامى.. يا هذا الهمام.. تفج الدنيا ياما.. وتخرج من زحام.. زي بدر التمام.
وينطلق محجوب في تجربته الوجدانية بمفاهيم واقعية بعيدا عن التحليق في عوالم مثالية، حاكيا عن اختياراته وخياراته في الحياة:
لما عرفتك اخترتك سعيد البال.. وخت شبابي متيقن.. عليك آمال.. لا جيتك قبيلة.. ولا جيتك مال.. ولا مسحور.. ويوم ما كنت في عيني.. أجمل من بنات الحور.. جيتك عاشق.. أتعلم من الأيام.
ويلتفت إلى تفاصيل يعيشها وحكاية يومية لا تختلف عما هو متعارف عليه في بيت سوداني تقليدي؛ فتنساب الجمل الحوارية بسهولة وسلاسة تنضح بالحيوية، وحميمية التواصل الوجداني مع رفيقة دربه أميرة الجزولي:
بيني وبينك الضحكة.. ورحيق الشاي.. وطعم الخبز والستره.. ومساء النور.. وعمق الالفة بين الأرض والإنسان.. بيني وبينك الفكره.. وجمال الذكرى..والنسيان.. وحسن الظن.
ويتحدث عن مشوار حياة وأسرة وتجربة عاطفية مغايرة وتواصل حميم انتجت الكثير فيشدو برائعته "أنا مجنونك"، التي تغني بها محمد وردي:
أحلى فصول العمر حنانك..أجمل حته لقيتها مكانك.. أجمل سكة مشيتها عيونك..معاك معاني حياتي بتبدا..
وأفتح بابا ياما انسد
فالمفردة العامية عند محجوب مترعة بظلال المعاني لتضع المتلقي أمام حالة سودانية كاملة الدسم:
يا والده يا مريم.. يا عامره حنية.. أنا عندي زيك كم.. يا طيبة النية.. بشتاق وما بندم.
ولا ينسى أن يذكرها بالتنشئة المتعارف عليها من قيم ومثل ضاعت في زحمة المتغيرات:
ماني الوليد العاق..لا خنت لا سراق.
ويهدهد ابنتيه مريم ومي على الطريقة السودانية في قصيدة مفعمة بمعاني الأبوة الصادقة:
مريم ومي بنياتي.. وحشتني ولعبتن بي.. سلاما يا حماماتي.. أسكنن في مساماتي.. سلاما يا غماماتي.. البتدني ابتساماتي.
شكلت تجربة محجوب شريف إضافة حقيقية في مضامين الكلمة المغناة، لمطربين كبار في قامة الموسيقار محمد عثمان وردي والأستاذ محمد الأمين، فقد كان محجوب يؤكد رسالة الشاعر تجاه الوطن تسجيلا لأيام السودان الخالدة في التاريخ كانتفاضة أبريل رجب ضد الاستبداد وحكم الفرد:
شعبا صمم فردا فردا.. هب وهدم حكم الفرد... وجاه عديل.. إعصار إعصار.. خطوة بخطوة.. وإيد على إيد.. وسلم سلم ما بنسلم.. شعب معلم.. قال إصرار .
وتتأكد فرضية الانتماء الخالص إلى الوطن كقيمة أخلاقية وإنسانية متحدثا عن شعب معلم: يا شعبا وهاب الفطن.. للظلم يوما ما ركع مهما جرى.. تبا لعهد السنسرة.. والنهب ثم السمسرة.
محجوب شريف يحاول أن يستشرف بالشعب السوداني عهدا جديدا للواقع المعيش، سودان أخضر يسع إنسانه بأرضه وموارده وثرواته على الرغم من "تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد".
فالوطن معاني تضج بالعشق السرمدي، يتضح ملامحه في عاداتنا وتقاليدنا الممارسة لتصنع الحياة، ومرآة عاكسة لكل ما يعتمل في النفس من أحلام وأشجان وقيم وآمال:
وطنا الباسمك كتبنا ورطنا.. أحبك.. مكانك صميم الفؤاد.. وباسمك أغني.. تغني السواقي.. خيوط الطواقي..وسلام التلاقي.. ودموع الفراق.. أحبك ملاذ وناسك عزاز.. أحبك حقيقة وأحبك مجاز.. أحبك بتضحك وأحبك عبوس.. بعزة جبالك ترك الشموس.. وما بين ظلالك أفتش وأكوس..أفتش طفولتي وملامح صباي.. بناتك عيونن صفاحن سماي.. وهيبة رجالك بتسند قفاي.
ويأتي الصدق مع الوطن مبدأ لا يقبل القسمة في اختيارات محجوب ومعارفه، وما يتصل بمعايير الوفاء تجاه الآخرين:
أصدق كلامك حقيقة وبخاف.. أخاف الطريق اللي ما بودي ليك.. وأعاف الصديق الما بهم بيك.. معاك انتظاري ولو بالكفاف.. وعنك بعيد أبيت الرحيل.. وبيك اعتزاز الصباح الجميل.
وكأنما ينظر إلى مآل وطن يتسوق به أبنائه في بورصة السياسة العالمية انتقالا بين عواصمها العديدة.
ومن ثم يعطي الحبيبة قيمة أخرى ترتبط بالوطن باحثا عنها في كل مظهر ومخبر:
حدثت عنك نجمة جارة.. وزرعت اسمك حاره حاره.. في مناديل العذارى في مشاوير الحيارى.. في لحى الأشجار كتبتو.. نحتو في صم الحجاره.. وبحت للشمس البتقدل في مدارها.
ويظل يشكو كشأن المبدعين من تقلبات الزمان وابتلاءات المسار في دروب العشق والحياة:
إنت منك لا بداية عرفت لسه ولا نهاية.. مره أسرح.. ومرة أفرح.. ومرة تغلبني القراية..ولمن أكتبلك وداعا.. قلبي ينزف في الدواية.. يا صبية الريح ورايا.. خلي من حضنك ضرايا.
فالحديث عن محجوب شريف يأتي في سياق ارتباط شعب بحالة إبداعية في العقل الجمعي للسودانيين تعبيرا عن همومه اليومية، وهو حديث متجاوز للأطر الأيدلوجيا التي يمكن أن تؤطر شاعر في قامة محجوب شريف حول وجهة نظر بعينها أو التزام سياسي بعينه. وإنما جاء الارتباط الوجداني نتيجة لمواقف وأحلام تجسدت في محجوب لوطن حدادي مدادي.. وطن خير ديمقراطي.
ودوما يشد أزر بني وطنه ثقة وتفاؤلا بمستقبل يشرق عبر تناسل الأجيال:
أرفع صوتك هيبه وجبره..خلي نشيدك عالي النبرة.. خلي جراح أولادك تبرا.. كبروا.. مكان الضحكه العبره.. إلا يقينهم فيك اتماسك.. يا الإصرارك .. سطرا.. سطرا.. ملأ كراسك.
ولايسعنا في وداع شاعر الشعب إلا أن نردد مع الأم السودانية الأصيلة أميرة الجزولي على لسان محجوب في لحظة مودة:كنت عايزاك للطويلة وللأماني المستحيله.. قلبي كم حباك وياما..خلي يرحل بالسلامه.. مع السلامه.. مع السلامه.. مع السلامه.