المخرج الشاعر الطيب مهدي في حوار الكتابة ورحلة السينما
المخرج الشاعر الطيب مهدي في حوار الكتابة ورحلة السينما (*) أوضاع المشاهدة السينمائية مختلة في عالمنا العربي والأفريقي بسبب الفيلم الأمريكي (*) فيلم (حميد ) يستجلي العلاقة المشتبكة بسيرته بين الحياة والنصوص (*) سامي يوسف مات مجازا من شدة الإبداع جلست إليه بمنزله (بحي الأمراء ) بهوامش ذكريات لا تزال تحلق بأجنحتها حين كنا طلابا في مدرسة محمد حسين الثانوية العليا ، الطيب مهدي الطاهر المخرج وكاتب السيناريو
المخرج الشاعر الطيب مهدي في حوار الكتابة ورحلة السينما
(*) أوضاع المشاهدة السينمائية مختلة في عالمنا العربي والأفريقي بسبب الفيلم الأمريكي
(*) فيلم (حميد ) يستجلي العلاقة المشتبكة بسيرته بين الحياة والنصوص
(*) سامي يوسف مات مجازا من شدة الإبداع
جلست إليه بمنزله (بحي الأمراء ) بهوامش ذكريات لا تزال تحلق بأجنحتها حين كنا طلابا في مدرسة محمد حسين الثانوية العليا ، الطيب مهدي الطاهر المخرج وكاتب السيناريو والشاعر ،والنطفة السيرة التي تلاقحت فيها مدن وتاريخ ( الجزيرة أبا والابيض وأمدرمان ) وأمشاج علاقة مصاهرة ما بين الخليفة عبد الله التعايشي والد جده الطاهر وحبوبته إبنه المهدي ، ليكون أول أفلامه (الضريح ) الحائز علي جائزة مهرجان السينما التسجيلية والقصيرة بمصر وجائزة الباز الذهبي بمهرجان قليبية بتونس ، ويليه فيلمه (المحطة ) الحائز أيضا علي مجموعة جوائز إقليمية ودولية بالمانيا ودمشق وبوركينافاسو وتونس وإيطاليا ، ثم أربعة أفلام عن حرب دارفور أنجز منها إثنين ( عيال المطمورة ) و (عيال أم قطية ) ثم فيلم ( حميد ) والذي عرض مؤخرا بمسرح الفنون الشعبية بأمدرمان وبمركز دال ، وإنداحت قضايا السينما السودانية ورحلة الكتابة
حوار : محمد نجيب محمد علي
(*) تجربة الطيب مهدي في الكتابة _ البدايات _ القصيدة ، وكيف كانت الخطوات للسينما ؟
(_) ربما في البدء كانت الكلمة ...كنت أجرب كتابة القصيدة ، كان ذلك في أوائل السعينات ..تعرفت علي أصدقاء أعزاء في مدرسة محمد حسين الثانوية .. سامي يوسف ومحمد نجيب وآخرين ..جمعنا الشعر والقصة والفنون ... كنا في ريعاننا الأول نبحث ولا نكف عن البحث .. نكتشف الكلمات الأولي والحكايات الأولي ..كانت كل الفنون في مرمي إكتشافنا .. كانت سنوات التكوين .. تراوحنا في معارض الفنون الجميلة وكان المسرح الجامعي قد كشف لنا دروب المسرح العالمي ودور السنما تحف مشاهديها بأفلام العالم ، وكانت الستينات قد أخرجت للعالم تمردات الشباب في نواحي الكون ، وكانت ميادين الفكر والإبداع تغص بالحيوية وتعج بالتحديث في كل مناحي الحياة ، ربما في ذلك المصهر تختار أو تختارك وسيلة التعبير .
ربما تغلبت الصورة الفيلمية فيما بعد كوسيط لمعرفة العالم ، ربما ذاب الشعر في تلافيف الصورة
(*) القاص الروائي سامي يوسف وعلاقات الكتابة ؟
(_) كان سامي متمردا علي مواضعات الحياة ونثرها الرديء ، كان يحلم أحلام التواقين ألي أن يصبح الحلم صنو الواقع ، وما أصعبه من حلم وما أقساه من واقع .
إختار الحكي طريقا لإبداعه وإصبح هاجسه في صحوه ومنامه .. كان ما أن يكتب قصة جديدة حتي تتري الحكايات في أعقاب بعضها .. وفي تلك السن المبكرة كان لسامي مشروعا سرديا يتقدم نحو مشارفه ، يلاحق الزمن كيما يفرغ وما أسعفه الزمن وما فرغ من مشروعه الكبير .
كانت المأساة ترسم من حوله نسيجها الأخير ، لقد مات مجازا من شدة الإبداع .
كان يحب الناس حبا خارقا ، كما كان يحب الفن بما لا يعدله حب .. بينما يغوص في تفاصيل الحياة اليومية يخطو لينتزع جوهرها الصقيل .
بينما كان يكتب (نمو تحت قطرات الدم ) كان يعدو نحو نشيجه الداخلي .. يخلق عوالمه من نزيف ما زال يكبر ويكبر وهو يطارد شخوصه وحيواتهم ،مثله مثل الحكائين الكبار ، يسرد عالما من البشر ومجرياتهم في عصب الحياة العاري ..يلتمس الإقتراب من نقطة تماس هذا العصب بتيار اللحظة التي لا تلبث أن تنسرب في علاقاتهم وتشع القصة بوهجها المتفجر في ثنايا الكتابة .
القصة عند سامي تتركب من هذا المزيج الملتهب وسلطة الأشياء حينما تتواجه مع نثارات الحياة اليومية ..بين الصحو الكامل والإغفاءة الكاملة ،ينسج الحلم طريقه في الحياة ويلتقيان في الموت
(*) الطيب مهدي كيف جئت إلي السينما ؟
(_) ربما ربطتني محبة قديمة بالسينما منذ الصبا الباكر ، كانت السينما المتجولة تعرض أفلامها بالجزيرة أبا موطني الأول ، وكان بيتنا قريبا من الميدان الذي تقام فيه العروض ، بل إن أعضاء الفريق الذي كان يقوم بعرض الأفلام كثيرا ما نستضيفه في منزلنا .. كنت أتعجب من هذه الصور المشحونة في صناديقها ، سرعان ما تنفتح علي الشاشة الكبيرة المنصوبة وتعج بالحركة والأصوات مثل طيور سرحت من أقفاصها .
إنتقلت معي هذه المحبة إلي الأبيض حينا كنت أدرس المرحلة المتوسطة ،فكنا نرتاد سينما كردفان وسينما عروس الرمال . وكم كانت تأسرنا هذه الجموع من الناس وحكاياتهم المصورة .
فيأواخر المرحلة الثانوية جذبتني مجموعة من الأفلام التي قدمتها مؤسسة الدولة للسينما عند تأسيسها مثل الحرب والسلام وفيلم زد وغيرها .. كنت منجذبا لهذه الفعالية التعبيرية العالية التي يمتلكها هذا الفن .
حين أتيح لي الذهاب إلي القاهرة لدراسة الدراما لم أتردد في الإلتحاق بمعهد السينما وهناك تشكل وعيي السينمائي لإكتشاف مفاتيح هذه اللغة وبأجواء كانت تحتفي بالسينما الجديدة من خلال عروض نادي السينما بالقاهرة وجمعية الفيلم والعروض السينمائية التي تقيمها المراكز الثقافية للعديد من بلدان العالم
(*) ضعف الوعي السينمائي في الثقافة العربية . كيف تري ذلك ؟
(_) حتي أواخر الستينات كانت الكتب التي تتحدث عن السينما قليلة العدد .. ولكن مع تضاعف عمليات التأليف والترجمة والنشر وتزايد وسائل إمتلاك المعرفة في الوسائط المختلفة أصبح ممكنا الحصول علي المعرفة واللغة السينمائية ، بل الآن يمكن الحصول علي الأفلام التي أنتجت في شتي أنحاء العالم بواسطة النت .ربما لأن أوضاع المشاهدة السينمائية في دور العرض مختلة خصوصا في عالمنا العربي والإفريقي إذ يسود الفيلم الأمريكي بشكل كاسح في دور العرض وشاشات التلفزيون وإرتباط ذلك بالهيمنة الإمريكية إلا أن التكنلوجيا فتحت فضاءات العالم علي مصراعيها وأصبح ممكنا الأخذ والعطاء معا
(*) كيف تري علاقات الفيلم الوثائقي بالوثيقة ؟
(_) الفيلم الوثائقي أو بالأصح التسجيلي ليس توثيقا أو تسجيلا مجردا لواقع ما ،ولكنه أصبح عملا فنيا ونوعا سينمائيا مبدعا في حد ذاته ،لقد أصبحت مهرجانات عريقة للفيلم الروائي مثل كان والبندقية تعطي جوائزها الأولي لأفلام تسجيلية .
إذا كنت تقصد إستخدام الوثيقة في الفيلم التسجيلي فهي يمكن أن تكون مادة من ضمن مواد كثيرة يستخدمها الفيلم التسجيلي لبناء عمل فني متصل بها أو منفصل عنها ، مثلما إستخدام التاريخي مثلا في عمل روائي أو فيلمي . هنا يتاح للخيال تركيب الحدثي أو الواقعي التاريخي في لب العمل الفني بتقنيات المخيلة ، وبذا يصبح التاريخي فني وتتم معاملته في هذا السياق . الفيلم يتعامل مع الوثيقة بطرائقه الفنية وبلغته
(*) ما هي الأسباب التي جعلت الوسائط الأخري التي تستخدم الصورة منافسا للسينما ؟
(_) الصورة بالطبع سابقة للسينما منذ أن رسم الإنسان في الكهوف حتي مدارس الرسم الحديثة . والصورة موجودة في الفو توغرافي قبل إختراع السينما ، لكن السينما خلقت الحركة في الصورة وأتاح إختراع الفيلم أن يتمكن من إمتلاك العالم في تشظياته المختلفة بواسطة العدسة والضوء والإنتاج ويعيد بناءه وتركيبه علي الشاشة . أن تحكي وأن تؤانس وأن تقدم المعرفة بواسطة الصورة المرئية والصوت المسموع هذا ما فعلته السينما . لقد أتاح العلم لهذا الإختراع أن يتطور في عقود قليلة بطريقة مذهلة (إضافة الصوت واللون والشاشة المجسمة ) وبواسطة فنانين سينمائيين إستخدموا هذا الوسيط بشكل مبدع . أنظر التعدد والتكاثر الذي شمل الشاشات والوسائط التي تبث الصورة الآن .. بما يجعل عصرنا الآن هو عصر الصورة .. إنها ديمقراطية المرئيات .
يقول جيل ليبو فيتسكي ( ماهي آثار هذا التكاثر للشاشات في مجال العلاقة بالعالم وبالآخرين ، إنتصار الصورة الرقمية ؟ أي مصير ينفتح علي الفكر وعلي التعبير الفني ؟.إلي أين يعاد هيكلة حياة الإنسان المعاصر ، عبر هذه الوفرة في الشاشات ؟ ينبغي ملاحظة أن ما يحدث مع عصر الشاشة الشاملة هو بالفعل تبدل ثقافي هائل يزداد تأثيره علي مظاهر الإبداع وعلي الوجود نفسه .)
وتظل السينما وسط هذا الخضم : الفيلم الروائي والفيلم التسجيلي محتفظة بتصنيفها ضمن الفنون الإنسانية مثلها مثل الرسم والشعر والرواية والمسرح والموسيقي .
ورغم طغيان سيل التصوير الجارف في الفضائيات وسواها يبقي هذا التصنيف باقيا وحيا وماثلا ... لقد أثبتت السينما دائما رغم توالد الشاشات وتكاثرها الأميبي قدرتها علي الإبداع والتنوع والحيوية
(*) حققت أفلاما عن دارفور حدثنا عن هذه التجربة ؟
(_) بدأت تحقيق رباعية عن حرب دارفور وهي أربع أفلام قصيرة تحكي عن النساء والأطفال أثناء الحرب ، أنجز منها فيلمان (عيال المطمورة ) و(عيال أم قطية ) وأسعي لإستكمالهما بفيلمي (المساويط ) و(فزع )
عيال المطمورة فيلم قصير عن أولئك الذين فروا من قراهم بعد أن إحترقت بفعل الحرب وتاهوا في الخلاء الكبير ، بعضهم وصلوا إلي معسكرات النزوح وبعضهم لم يصلوا أبدا .
الفيلم يسرد حكاية أسرة صغيرة أم وأطفالها الأربع بعد هروبهم من قريتهم وتاهوا في وحشة الصحراء ولكن الحرب ما زالت تلاحقهم .
أما (عيال أم قطية ) فهو تسجيلي قصير يتابع الأطفال وأمهاتهم في مكان نزوحهم كيف يبدأون حياة جديدة تتكشف حثيثا رغم وطأة المأساة وذكرياتها الكئيبة .
(*) حققت أخيرا فيلما طويلا عن الشاعر الراحل حميد ؟
(_)فيلم (حميد ) يحاول أن يستجلي العلاقة المشتبكة لسيرة حميد بين علاقاته بالناس والحياة والوطن وبين نصوصه الشعرية .
يستخدم الفيلم الدرامي والتسجيلي والسردي والتشكيلي والموسيقي لمحاولة الدخول في هذه العوالم الثرية لإبداع حميد الشعري .
كذا يحاول الفيلم إستكشاف هذا العالم الرحب في الحياة السودانية التي تناولها حميد في إبداعه الشعري .
في البداية كانت المخاوف في كيف يصور الشعر بواسطة الفيلم .. وهما فنان مختلفان في أمور كثيرة ، فبينما يشتغل الشعر في اللغة _ الكلمة ، تعمل الأفلام في الصورة المرئية المسموعة ، وكذلك في المقاربة المختلفة للواقع وفي طريقة تلقي كل منهما .
ولأن شعر حميد نفسه إكتسب أهميته ووهجه من أنشغاله بالصورة وبالواقع ، والصورة هي لغة الفيلم ، هذا جعل ممكنا محاولة إستقصاء هذا العالم بواسطة الكاميرا .
ما جذبني هو سيرته الشخصية وإنغماس إبداعه الشعري في هموم الناس والوطن
للأسف لم تتح لهذا الفيلم مشاهدة واسعة حتي الآن ، وهكذا دائما ما تضيق مواعين العرض بوصول الأفلام لجمهورها