المؤتمر العلمي للرواية السودانية

المؤتمر العلمي للرواية السودانية

مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي
المؤتمر العلمي للرواية السودانية"١٨"
الانتماء الثقافي في رواية البٌقعَة للحسن محمد سعيد
*أبوطالب محمد
 
محكي الفضاء السردي:
       أرض هجين، في تربتها وإنسانها .. تتصالح مع كل من يطأ أديمها لا تدعي عليه فضلاً.. ولا تكابر حجوداً .. ولا تغمط حقاً .. ولا تذهق معروفاً .. ولا تنكث إيماناً .. ولا تعجز ضعيفاً .. ولا تخذل مستجيراً .. ولا    تطرد لاجئاً ( الحسن محمد سعيد 2015: 180).
     تعالج هذه الدراسة مفهوم الانتماء الثقافي في رواية البقعة لصاحبها الروائي - القاص الحسن محمد سعيد، الذي أنتج خلال مشواره الفني مجموعة من الروايات(عطبرة، ثلوج على شمس الخرطوم، أزمنة الترحال والعودة، أبو جنزير، صمت الأفق، الفحل، رجل من دلقو، والبقعة قيد الدراسة) وله مجموعتان قصصيتان هما:(لعله الخروج الذي لا يكون، وريحان الحلفايا).
     عرف الحسن محمد سعيد في منتوجه الروائي باهتمامه الشديد بالتاريخ السياسي والاجتماعي لحقب بعينها في تاريخ السودان الحديث، فرواية البقعة رواية تاريخية مزيجٌ من التحولات السياسية والاجتماعية في السودان، حيث تعتني ( البقعة) بفترة تاريخية محددة وهي بداية هزيمة خليفة المهدي في معركة كرري على أيدي الإنجليز، وسن قوانين الاستباحة في مدينة أم درمان العاصمة الوطنية.
          رصدت الرواية أجواء هذه الفترة بعناية فائقة، وأختتمت أحداثها السردية مع بداية الحرب العالمية الأولى، وهي فترة تاريخية مهمة ومفصلية في تاريخ السودان حيث ظهور حركات التحرر الوطني التي تأثرت بها شخصيات الرواية، وقفت الرواية في تصويرها لقوانين الاستباحة على محطات بارزة موضحة حالة الانكسار في مشاهد سردية بالغة الآسى منها المتخيل ومنها الواقعي، حتى الأفعال المتخيلة التي صورها الكاتب ماهي إلا أحداث وقعت بعد النهايات الفادحة لعهد خليفة المهدي وانطواء صفحة من صفحات النضال الوطني. ضمن هذه الأحداث الفوضوية ذبحت القسيمة بت حمد وخضر على يد العوض بأمر من كتشنر باشا حينما رفضت الزواج منه سابقأ واختارت غيره، أفسحت قوانين الاستباحة حرية الانتقام وتصفية الحسابات الشخصية بين الموالين للإنجليز والرافضين لبشاعة أفعالهم أيام الهزيمة.
  يستهل الراوي سرد أنباء ما حدث في أم درمان موضحاً فيها سيادة الفوضى من نهب واغتصاب وسحل وموت بالجملة يوصفه قائلاً : ( عندما قتل خليفة المهدي، أصبحت أم درمان مدينة مستباحة أعلن الغازي بأنها مدينة بلا قانون يحكمها .. انزوت الكرامة والنخوة في دواخل البرية ..غابت المروءة عن شوارعها الضيقة وحواريها المكتظة .. ذوت بطولات الماضي، حين شهر مديته من أعمته نار الانتقام، وذبح على أعين الخلق من رفضت الزواج منه يوماً واختارت غيره.. ظل حابساً إهانته حتى وجد متنفسه ( الحسن محمد سعيد 2015: 9).
الانتماء في الرواية :
الانتماء في اللغة الانتساب، هذا المفهوم يتجسد في انتماء الطفل بوالده واعتزازه به ، والانتماء مفردة مشتقة من النمو والكثرة والزيادة، عرف البعض الانتماء إصطلاحاً على أنه الانتساب الحقيقي للوطن والدين فكراً ووجداناً، واعتزاز الأفراد بهذا الانتماء يوضح عن طريق الالتزام والثبات(  Views,https: //  HYPERLINK "http://www.alarabiya.net" www.alarabiya.net )، والانتماء هو حالة شعور الإنسان إلى الانضمام لمجموعة، وهو عبارة عن علاقة شخصية حسية إيجابية، يبنيها الفرد مع  أشخاص آخرين أو مجموعة ما، أما مفهومه الوطني فيعني تلك الحالة والشعور بالانضمام إلى الوطن، وتكوين علاقة إيجابية معه، ويكون علاقة تربطنا به وبالوصول إلى أعلى درجات الإخلاص  ( Wiki,https://=ar.m.wikibedia.org.).
ويقول عنه محمد سعيد القدال في كتابه الانتماء والاغتراب:( يعنى الانتماء إلى مكان في إطار زمن محدد، وانتماء إلى تراث ولغة مشتركة يتناقل بها  الناس أواصر انتمائهم ويحتاج كل ذلك إلى توفر مناخ نفسي وذهني يشحذ ذلك الانتماء ويعمل على تنميته (محمد سعيد القدال 1992: 53).
ويمضي قائلاً:(والوطن ليس قدراً مكتوباً على البشرية منذ ميلادها. ولكنه ظاهرة تاريخية تبرز في فترة معينة عندما تتوفر الظروف الموضوعية لبروزه. فالناس عرفوا الانتماء إلى القبيلة والعقيدة، وعرفوا التمسك بالملك الذي يقهرهم ويستسلمون لقهره وكم من مناسبات حفظها التاريخ خرج بها الناس وماتوا واستشهدوا دفاعاً عن شيء آمنوا به خارج إطار الانتماء للوطن(محمد سعيد القدال 1992: 53).
تتعدد الانتماءات وتتداخل وتتغير من حين لآخر وفقاً للمستجدات الاجتماعية والسياسية، والانتماءات تنشأ في شكل دوائر تبدأ بدائرة صغيرة أشبه بما يحدثه إلقاء حجر في بركة ساكنة. تكبر تلك الدائرة رويداً رويداً في شكل دوائر تتداخل وتنداح في إضطراد ولا تتعارض ( إذا أحسنا التعامل معها) فالمرء عضو في عائلته وأسرته الممتدة وفي عشيرته ثم قبيلته ثم وطنه    ( دولته) ثم أمته. يضاف إلى ذلك المجتمعات الحديثة حيث انتماء الفرد وانخراطه في الجمعيات والنقابات العملية والمهنية والفرق الرياضية... إن المتغيرات الاجتماعية والسياسية الكبرى تؤدي بدورها إلى تغير جذري في الولاء والانتماء؛ الأمر الذي يسهم في إعادة بناء الهوية وتشكيل مكوناتها وحدودها، وعلى ذات النهج يتم تحديد المواقف والبيئة الاجتماعية التي يجد الإنسان نفسه فيها والتي تشكل هويته ونظرته لنفسه وللآخرين ( سيد حامد حريز 2017: 25).
 تساعد هذه التعريفات الاصطلاحية في توضيح المسارات المنهجية المتبعة في الورقة، وعلى غرارها تتبع الورقة منهجية التحليل التطبيقي على مفاهيم الانتماء الثقافي وارتباطه بمحتوى التكنيك السردي والمضاميني في رواية (البقعة )، ثم ترصد وتحلل مفاهيم الانتماء من خلال ثمانية محاور متداخلة وهي : الانتماء  للمكان (أم درمان وجنوب السودان) وأمكنة خارج نطاق جغرافيا أحداث الرواية مثل مدينة ليفربول وإنجلترا، والانتماء التاريخي، والهوية الثقافية، ومجتمع الشمال ، والتنوع الثقافي ، والوحدة الوطنية، وبناء الدولة الوطنية ، والانتماء إلى آيديولوجيات فكرية. وهنالك عوامل خارجية ساعدت في توضيح الانتماء الثقافي وتوطيد صلة المجتمعات، متمثلة في التجارة ورحلات القوافل بين الشمال والجنوب وما جاورهما.
انساب السرد عبر هذا البناء الفني في فضاءات مفتوحة إلى أمكنة وطنية مثل مدينة أم درمان التي شهدت تكوين دولة وطنية خليط من التركيبة السكانية، واجهت تصدع وانشقاقات بعد الهزيمة في معركة كرري وآلت إلى السقوط، وهي من أول العقبات التي أعاقت تكوين الدولة الوطنية، وهناك أمكنة آخرى أم درمانية لها دلالتها التاريخية وحضورها في المشهد السياسي مثل سجن الساير الذي اعتقل وعذب فيه الزاكي طمبل حتى مماته، هذه الأماكن وغيرها بعثت في شخصية (الناير) ذكريات لماضيه البطولي، ومن جانب آخر قربه من حي الملازمين حسسه بالذنب والتقصير تجاه صديقه الزاكي طمبل، مما جعله يرفض الاستقرار قرب السجن ويختار حي الموردة، هذه الأمكنة شهدت العديد من الأحداث مثل جرائم يوم الاستباحة والتحولات التاريخية، كما ساهمت في بناء دولة وطنية ذات سحنات مختلفة، حفز المكان تنشيط ذاكرة الراوي وأدلى بذكريات لبطولات كانت صاحبة القول الفصل في تأسيس دولة وطنية، ولم تكتف ذاكرة المكان بتعدد مآسي الفوضى ، إنما امتددت إيادي الأنجليز لملاحقة أبطال الثورة المهدية ونفيهم إلى جنوب السودان كما حدث لشيخ الناير يعقوب المسيري الغرباوي، الذي قدم من غرب السودان منضماً لدعوة المهدي، لعب شيخ الناير دور البطولة في فضاء الرواية، وهو مطلوب القبض عليه لأنه من أبرز رجال خليفة المهدي اللامعين،   والقبض عليه يمثل نهاية لحقبة وطنية استطاعت أن تجذر لتجربة وطنية في تاريخ السودان الحديث، وفي خاتمة مطافها واجهت هزائم فادحة، تم القبض عليه وحوكم بالنفي إلى مدينة توريت، فشيخ الناير حلقة وصل بين الشمال والجنوب بحيث أن مقام منفاه رباط ثقافي بين وشائج ثقافتين إفريقية وعربية إسلامية ، ففي انتمائه الإفريقي تزوج (فبيولا) فتاة قبيلة الأزاندي، وهي من  سرايا خضر ود حمد، تزوجا واستوطنا معاً مدينة أم درمان لم تطق العيش معه، ولت هاربة إلى جنوب السودان، وعند نفيه تفاجأ بوجودها وبرفقة ابن منه يدعى (جوزيف) في هذا اللقاء جسدت الرواية تبادل مشاعر إنسانية بعمق وأدمعت عينا شيخ الناير حينما رأى ابنه، اهتم شيخ الناير بتعليم ابنه أصول الفقه وتحفيظ القرآن وصار نابه فيهما وذي حجة. علمه اللغة العربية وهي وسيلة تواصل ثقافي لجميع شخصيات الرواية وغير اسمه إلى (يوسف) هذه الوشيجة الثقافية دليل لوحدة وطنية وانتماء اجتماعي عكسته ثقافة المكان، فهي وحدة لم تتخط التاريخ إنما تلاشت مع قضية الانفصال، لكن ظلت علاقة البلدين مستمرة في الكثير من المنافع، أما ثقافته العربية الإسلامية تمثلت في انتمائه للثورة المهدية، وعرف عن الناير بورعه وتدينه وإلتزامه مباديء الإسلام رغماً عن وجوده في بيئة ثقافية غالبية سكانها عراه. أفرج عنه وعاد لأم درمان واستقبل باستقبال حاشد كاستقبال الفاتحين من محبي الثورة المهدية و أصدقاء النضال السابقين والوطنيين الجدد، ذان شيخ الناير بحكاياته الماضية وتاريخه البطولي أيام الثورة وقصة هروبه من المحاكمات ليالي أم درمان، أضاف إليها قصصه الخاصة مع خضر ودحمد حول الجواري.
 يشكل عامل اللغة في الرواية دوراً بارزاً حيث نلاحظ المستوطنين في جنوب السودان مثل جوزيف وجراكس وفراس و الإنجليز المستقرين في أم درمان والشخصيات المهاجرة مثل أنور وجوزيف والشخصيات الإنجليزية رولا ولويزان كلها تتخاطب بلسان عربي، ماعدا فتاة الأزاندي التي تكلمت باللغة الفصيحة وحافظت على لغتها الأم، وهو مؤشر يدل على أن الرواية في الغالب الأعم قيدت شخصياتها في لغة واحدة رغماً عن تعدد سحنات شخصياتها، ومن هنا حدث نوعاً من الاستلاب الثقافي للجماعات الثقافية تخلت عن لغتها الأم وتواصلت بلغة عربية، تشكل اللغة في الرواية من جانب آخر عامل انتماء لشخصيات خرجت من موطنها الشمالي واستقرت في أماكن أخرى، فأصبحت اللغة في ماضي الشخصيات انتماء لأمكنة هجرتها لظروف سياسية واجتماعية.  
تظهر شخصية أنور حفيد خضر ود حمد، وهو شخصية وطنية تميز سلوكها بثقافة الانتماء للوحدة الوطنية، كان رافضاً التاريخ البغيض الذي مارسه جده من رقيق في فترة المهدية، وجود أنور في بنية الرواية معادل موضوعي لمباديء الوحدة الوطنية في تنوعها، حيث شغل معلماً في مدرسة الأميرية بأم درمان، نظم لقاءات ثقافية وأنشأ جمعيات أدبية ونشط في تحفيز الطلاب قيم الولاء للوطن، وغرس فيهم قيم التسامح، وهو دليل انتماء الفرد وانخراطه في الجمعيات والنقابات العملية والمهنية والفرق الرياضية كما ذكر سابقاً.
يدل وجود شخصية أنور وبروز أدواره في نهاية الفترة الزمنية للرواية على نشوء حركات التحرر الوطني وظهور جيل المثقفين الوطنين المناهضين الاستعمار بأدواته، وأنور يمثل هذا الجيل من الأفندية الذي كان ملأ السمع والبصر في تاريخ السودان الحديث بتأسيسه لقومية سودانية تمخض عنها قيام دولة وطنية، أمر أنور النوادي الثقافية الاستفادة  من خبرات الإنجليز لبناء دولة وطنية، ثم دفع الطلاب إلى إنشاء جمعيات ثقافية وأندية رياضية، وأقام مهرجان ثقافي كرم فيه مفتشي ام درمان وبعض الموظفين الإنجليز تحفيزاً منه للإنجليز للاسهام في بناء دولته الوطنية، يوضح هنا الانتماء التاريخي للثورة المهدية وتجذيرها لوحدة وطنية ومن جانب آخر انتماء لفكر تاريخي ساد حينها، و أنتج  حركات التحرر الوطني التي دعت لتكوين هٌوية قومية، واجه أنور في المدرسة الكثير من المضايقات من ناظر المدرسة الختمي، باعثها اهتمامه بتدريس التاريخ ورموز أبطال الثورة المهدية أمثال عثمان دقنة وغيرهم من الأبطال الوطنيين البارزين، استمرت الصراعات والمضايقات بينهما لفترة من الوقت، وفي لحظة فاصلة رأى الناظر في شخصية أنور ميوله للدور الوطني بإنشائه للجمعيات الأدبية في حرم المدرسة، من هذه النظرة حدثت نقطة تحول لشخصية الناظر وبدأ كثير الاهتمام بالدور الوطني ورموزه الفاعلين، بعد هذا الحراك الثقافي الذي أحدثه ابتعث لإنجلترا ليعمق تجاربه الوطنية بصورة أوسع باختياره لدراسة الفلسفة والتاريخ السياسي، صادف ابتعاثه اندلاع الحرب العالمية الأولى التي تسببت في إيقاف الدراسة الجامعية، وكان على الطلاب الخيار متروكاً أما الانتظار لاستئناف الدراسة أو المشاركة في الحرب، اختار أنور المشاركة في الحرب لمباديء نشأ عليها وهي الديمقراطية وإيمانه بالتوجهات الاشتراكية والدفاع عنها، هذه المواقف دفعته أن يقف مع إنجلترا ضد النظم الدكتاتورية التي نظمتها ألمانيا واليابان وتركيا، وقف جنباً على جنب مع بريطانيا ذات الحكم الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، سخر جهوده في الدفاع عنها وحماية أرضها والتصدي لأفكار التوجهات الشمولية، إقامته في إنجلتر ربطته بأواصر زوج من ( لويزان) التي تعرف عليها في بداية إقامته، توطدت علاقتهما حتى أثمرت زيجة بعقد نكاح إسلامي وطقوس كنسية، واسهم في تعليمها اللغة العربية، ثم تعرف لاحقاً بجوزيف ابن الشيخ الناير الذي ابتعث هو الآخر من جنوب السودان لإنجلترا، التقي به أثناء مشاركتهما في الحرب، ونشبت بينهما علاقة قوية مصدرها الانتماء للثقافة العربية والإفريقية، حيث حكيا عن جذورهما الثقافية، ودارت بينهما الكثير من النقاشات المكثفة عن علم السياسة والاجتماع والحرب ومستقبل الجنوب وإنفصاله وعلاقته التاريخية مع شماله، دارت بينهما العديد من الحوارات الفكرية التي شهدتها منابر إنجلترا، حوارات معظمها ركزت على كيف تبنى الدولة وكيف تحافظ على وحدتها الوطنية، بعد انقضاء فترتهما في إنجلترا فكرا في العودة للسوادن للاسهام في استعجال إكمال بناء الدولة الوطنية التي وضع لبناتها الإنجليز.
     عادا أنور وجوزيف إلى وطنهما ويحدوهما أمل في تأسيس وحدته، وهي عودة القصد منها الارتباط العميق بثقافتهما وهٌويتهما، عاد جوزيف إلى جنوب السودان للمساهمة في بنائه وتعميره، ثم عاد أنور إلى موطنه الأمدرماني بزوجته الإنجليزية ذات اللسان العربي الفصيح، انصهرت في المجتمع وتعرفت على السودانيين وطقوسهم ورحلاتهم وتجارتهم ووديانهم وصحاريهم وجماله وطبيعة سلوكهم في الحياة، طافت بقاع السودان المختلفة وتوطدت صلتها أكثر بالتجار المتنقلين في الأماكن المختلفة وخصوصاً الجلابي (ضبيعان) الذي صحبته في تسفاره من كوستي إلى بخت الرضا ورفاعة، بلغت رحلاتها حتى القضارف وتعرفت فيها على رموز قياداتها التقليدية خصيصاً العمدة الذي عرفته عن قرب ووجدت منه الحفاوة وتبادل الاحترام، ثم سافرت إلى كسلا التقت فيها ب(موسى أوهاج) الذي صحبها إلى زيارة مكان مولد عثمان دقنة، خلال هذه الرحلة الأخيرة اختفيا في ظروف غامضة ولحق بهما أنورثم اختفى هو الآخر.
   أضحت ظاهرة الاختفاء أوالنهايات للشخصيات ثمة أساسية مشكلة حضوراً في الرواية، حيث نلحظ اختفاء شيخ الناير بكامل سطوته وحضوره التاريخي واختفاء حواريه المرافقين، واختفاء فتاة الأزاندي وفراس وجراكس وخضر ودحمد وود حسين ومجوكل وغيرهم من الشخصيات اأخرى التي واجهت مصير مجهول. ربما قصد من الاختفاء معادلاً آخر لغياب الوحدة الوطنية وتمزق الوطن، وتقسيمه إلى جنوب وشمال، وربما في القريب العاجل يتحول إلى غرب شرق، مع تفشي ظاهرة القبلية وانتشار خطاب الكراهية بين الجماعات الثقافية.  
اهتمت الرواية في متنها السردي بالتنوع الثقافي الذي لعب دوراً بارزاً وحيزاً واسعاً في مضامينها الفنية وفي سحنات شخصياتها ذات الجذور العربية والإفريقية، هذا الخليط الثقافي يقول عنه عبد الغفار محمد أحمد:( يعتبر التنوع أبرز وجوه الشخصية السودانية، يمنحها خاصية لا تتمتع بها شخصية أخرى في القارة سواها، تلك هي الشخصية ذات الهامشية المتعددة الجوانب، إنها شخصية في ظاهرها التعدد وفي مضمونها الترابط العضوي بين أجزاء متكاملة، أنها الآن مزيج من العروبة والإفريقية، نتاج عملية الوحدة في التنوع (1988: 21 ، 22). نتج  التنوع الثقافي في متن الرواية عن عبقرية المكان الذي قال عنه سيد حامد حريز :( من دواعي عبقرية المكان موقعه الجغرافي والاستراتيجي المتميز وموارده الطبيعية والبشرية،  وقدرته على إبداع وصياغة أشكال إيجابية للحياة الاجتماعية والثقافية والإنسانية. فعذوبة المياه واتساع الرقعة الزراعية والسكنية لمن أراد الاستيطان، وتنوع السلع لمن أراد التجارة، وبعد الشقة لمن أراد اللجوء والاختباء، وحسن الاستقبال والقبول لمن أراد نشر الدعوة الإسلامية أو عبور الديار لأداء فريضة الحج، وغير ذلك من الأسباب التي جعلت من السودان منطقة جذب للعديد من الأجناس في شتى الحقب التاريخية. ولقد تجلت هذه الظاهرة في عواصم ومدن الدول والممالك المختلفة، لا سيما تلك التي نشأت على امتداد النيل مثلاً دنقلا ومروي وسوبا وسنار وقري والحلفاية، وفي الموانيء والمدن الواقعة على الطرق التجارية مثل سواكن وبربر وشندي وغيرها. ولقد عاش في تلك المدن، إما بصورة دائمة. أو لفترات متباينة، العربي والإفريقي والتركي والهندي والأوروبي، وكذلك المسلم والمسيحي واليهودي (سيد حامد حريز 2017: 64 ، 65).
اعتنت الرواية بالانتماء للتنوع الثقافي في البناء الفني لشخصياتها وثقافتها الخليط بين الإفريقية والعربية والأوروبية وفي لغتها العربية، مثل شخصية ( مجوكل) الجنوبي وهو أحد الأرقاء السابقين انصهر في مجتمع الشمال وأصبح جزءاً منه وجد كامل العناية والاهتمام من خضر ود حمد ، فوجوده يدل على مفهوم وحدة وطنية في تنوعها، ومن الشخصيات الشركسي تاجر الرقيق المقتول حرقاً، وخلفه في تجارة الرقيق خضر ود حمد الذي سافر إلى مغارب الأرض ومشارقها بحثاً عن الرجال والنساء لكي يتم تصديرهم إلى الجزيرة العربية ومدينة ليفربول، مدينة ليوزان الإنجليزية التي شهدت أكبر أسطول تجاري على الأطلنطي في الرق، وهي المدينة التي كرهها زوجها أنور لأنها تذكره بماضي جده، كونت ليفربول ثروة ضخمة ومجد ساهم في أكبر ميناء عالمي من هذه التجارة، ومن الشخصيات (فيبولا) الأزاندية زوجة شيخ الناير، وشخصية  فراس الدمشقي وجراكس الشامي اللذين عملا بتجارة الرقيق في جنوب السودان وفي بعض مناطقه وشخصية المراكبي ومليون الإنجليز الذي تولى أمر التحري مع  شيخ الناير بعدما تم القبض عليه.
 نتج انتماء التنوع الذي جسدته الرواية عن سر عبقرية المكان الذي كان يقطنه كل هؤلاء وأولئك،وفي أنه كان ينداح ويتمدد فيتسع ويستوعب الكل، ليس فقط سكناً وإعاشة، بل عرقاً وثقافةً وفكراً ووجداناً حيث يتم ذلك بصورة تجعل من المجتمع نسيجاً متسقاً ومتكاملاً. هذا ما حدث فعلاً للواقع السوداني وما أمكن تحقيقه من عمليه التعايش السلمي peaceful co-existence ، التثاقف acculturation (سيد حامد حريز2017: 65).
ومن الشخصيات الوطنية في بنية الرواية ود الحسين التابع للإنجليز وخادمهم المطيع يحمل في تفكيره حباً كاسحاً جارفاً وهموماً لبناء دولة وطنية بالاستفادة من خبراتهم، جميع الشخصيات التي تعاونت مع الإنجليز في الحكم نتج عن المصالحة التي عقدت مع وجهاء المجتمع والتجار والموظفين الوطنين لبناء دولة وطنية مستفيدة من خبرات الإنجليز. وهنالك شخصيات ظهرت في أدوار قصيرة لكنها أضافت إلى الشخصيات الأخرى بعداً في التنوع مثل شخصية أشرف المصري ومشاركته لجوزيف وأنور النقاش حول كيفية بناء الدولة الوطنية، وشخصية أخرى تدعى كابري الذي أسس مع رفاقه منتدي ثقافي في إنجلترا موسوم (بيت السودان)، وكابري تربطه بالسودان جذور تاريخية تعود لوالده الذي شارك في غزو السودان.
في ختام هذا العرض النقدي يمكننا حصر التحليل في النقاط الآتية:
أولاً: اهتمام الرواية بالتاريخ السياسي والاجتماعي لفترة بعينها في تاريخ السودان الحديث عكس الانتماء التاريخي للثورة المهدية.
ثانياً: جاء أسلوب اللغة في متن الرواية لجميع الشخصيات العربية والإفريقية والإنجليزية مؤشر لانتماء ثقافي.
ثالثاً: أبرز تعدد المكان نوع هوية الانتماء الثقافي للشخصيات. 
رابعاً: ركزت الرواية في بناء الشخصيات على طبقة الأفندية ورجال الدين لتأسيس وحدة الوطنية.
خامساً : ساهمت العديد من عوامل التجارة والراحلات بين الشمال والجنوب في تعميق فكرة الانتماء الثقافي.
المراجع
الحسن محمد سعيد (2015) رواية البقعة . القاهرة ، سندباد للطباعة والنشر.
سيد حامد حريز (2017) جدل الثقافة والسياسة. الخرطوم، الدار العالمية للنشر والتوزيع.
عبد الغفار محمد أحمد (1988) قضايا للنقاش في إطار إفريقية السودان وعروبته. الخرطوم ، دار جامعة للنشر.
محمد سعيد القدال ( 1993) الانتماء والاغتراب دراسات ومقالات في تاريخ السودان الحديث. بيروت، دار الجيل. 
الموقع إلكترونية
الانتماء الثقافي، استرجاع:   Views,https: //  HYPERLINK "http://www.alarabiya.net" www.alarabiya.net
Wiki,https://=ar.m.wikibedia.org.