البصيرة فن رؤية ما لا يستطيع الاخرون رؤيته
سينمائية القصيدة / شعرية السينما يوسف الحبوب (( البصيرة فن رؤية ما لا يستطيع الاخرون رؤيته )) جونثان سوفيت منذ أن كلفت ضمن فريق العمل باللجنة الادارية لنادى السينما السودانى فى الثمنينات الفارطة ، عندما كنا نجاهد لجلب الافلام ومشاهدتها بصالة مصلحة الثقافة ، ثم كتابة النشرات عن الفيلم وعرضه لاعضاء النادى بفناء معهد الدراسات الافريقية والاسيوية بجامعة الخرطوم ( بعارضة افلام 35 ملم ) ، ظل موضوع سينما الشعر وجدلية اللغة والسيميولوجيا فى السينما وشعرية السينما تطرح فى الذهن ملاحظات متواترة حول السينما والشعر ..... اسئلة كبرى تنضج كل يوم وتضج ...
سينمائية القصيدة / شعرية السينما
يوسف الحبوب
(( البصيرة فن رؤية ما لا يستطيع الاخرون رؤيته ))
جونثان سوفيت
(1 )
منذ أن كلفت ضمن فريق العمل باللجنة الادارية لنادى السينما السودانى فى الثمنينات الفارطة ، عندما كنا نجاهد لجلب الافلام ومشاهدتها بصالة مصلحة الثقافة ، ثم كتابة النشرات عن الفيلم وعرضه لاعضاء النادى بفناء معهد الدراسات الافريقية والاسيوية بجامعة الخرطوم ( بعارضة افلام 35 ملم ) ، ظل موضوع سينما الشعر وجدلية اللغة والسيميولوجيا فى السينما وشعرية السينما تطرح فى الذهن ملاحظات متواترة حول السينما والشعر ..... اسئلة كبرى تنضج كل يوم وتضج .....
هل السينما شعر خارج القصيدة ؟....
هل هنالك تفسيرات لجماليات السينما تصلح ان نطلق عليها جماليات السينما الشعرية ؟
هل يتأتى ذلك وفق المخيل او المتخيل الرؤيوى لعلاقات الاحساس الشعرى الناتج عن ما يتخلق بين لقطات المشهد وعلاقاتها المرتبطة بحركة الكاميرا وزوايا اللقطات وطزاجة الموقف المشاهد وكنهه والصوت وتبعاته من مؤثرات ؟؟؟
بل
ماهو دور السناريو/ الحوارفى رفد وازكاء روح ما يمكن ان نؤسس عليه رؤية حول شعرية السينما/ سينمائة القصائد.
ومن ناحية أخرىولوضع المقاربة والتصور أعلاهبشكل أكثر جلاء ووضوح نتسائل....
كيف تستمد القصيدة الشعرية سينمائية رؤيتها من خلال الفكرة الشعرية والمتخيل الذهنى للمفردة الشعرية والبنية الفكرية والدرامية والرؤيوية للعمل الشعرى .
وهل هذا يتعلق بالحداثة وأفق الحداثة وما بعدها هو حديث متوهم لجوهر الفن ؟؟؟؟
(2)
لعل تتبعى لركة الموجة السينمائية الجديدة فى فرنسا (( La Nouvelle Vague )) ثم كتابتى فى الكراسة السينمائية لنادى السينما السودانى ( النشرة ) عن احد افلام المخرج الفرنسى جان لوك غودار كان مفتاحا اساسيا لبحثى حول وعن الجماليات الشعرية للسينما وربما ارتباطى الشخصى بالشعر كان دافعا مستترا وراء هذا الامر الا انه مما لا شك فيه ان الاضاءات النيرة وافكار الكاتب البحرينى النابه سينمائيا أمين صالح ( قاص / روائى /شاعر/ كاتب سيناريو / مهتم بالسينما بشكل خاص ) قد ألهمتنى كثيرا فى أن ابحث عن الاسئلة المتراصة حول جماليات السينما/ شعريتها - ، جماليات القصيدة / سينمائيتها .
(3)
حول السينما الشعرية يقول تاركوفسكى ( أن تعبير السيمنا الشعرية أصبح مألوفا وشائعا وهو يعنى السينما التى تبتعد بجسارة فى صورها عما هو واقعى ومادى متماسك كما يتجلى فى الحياة الواقعية وفى الوقت نفسه تؤكد السينما وحدتها التركيبية الخاصة فى رصدها للحياة على نحو خالص وصاف ودقيق .)
وهنالك مقولة للشاعر ارغون بأننا أمام الشاشة يتعين أن نفتح أعيننا ، أن نحلل المشاعر التى تحولنا أو نفسرها فى سبيل أكتشاف سبب ذلك التسامى الذى تحسه ذواتنا .
ولو أننا تتبعنا مقولات شعراء السرياليه وكتاباتهم عن الافلام وأتجاهاتهم نحو كتابة شعرية باذخة الجمال لسيناريوهات الافلام بل أخراج بعضها لتجلى لنا وبحق معرفة تلك العلاقة الاكيدة والاخاذة والحقيقة الطاغية التى تجعل السينما تتجاوزالمحاولات البسيطه لخلق عالم موازى للعالم الى جعله عالم ملىء بالحياة وضاج بالشاعرية من خلال تجاوز رتابة العادية بل رفع العادية والارتقاء بها الى مصاف عالية فى الجماليات والدخول بها الى مسارب روح الحقيقة الفنان ....
(4)
اما ما يحدث هنلك فى القصائد ليقربها الى تجليات وجماليات بصرية / ليست محض لفظية /.... وما تحدثه سرديات النص الشعرى فى القصيدة السردية مثال لذلك (وليس حصرا بالطبع ):
قطار الغرب ( محمد المكى أبراهيم )
اللافتة البيضاء عليها الاسم
باللون الابيض باللغتين
عليها الاسم
هذا بلدى
والناس لهم ريح طيب
بسمات وتحايا ووداع ملتهب
هنا السردية أشبه بتقطيع الصورة السينمائية والكتابة ايضا اقرب الى الكتابة السينمائية ولغة السينما او الفلم ، كما يلا حظ نفس السياق الفنى فى معظم نصوص أمدرمان تأتى فى قطار الثامنة للشاعر كمال الجزولى :
فى أخريات الليل
تحت سور الجامع الكبير
يزحف مجذوم واهن الى
صدر مجذومة واهنة
ويتعانقان
هذا تقطيع سينماىء خالص ودقيق وبه تكثيف عال وايحاءعصى على من لا يتقن سينمائية اللغة الشعرية ، وبها تركيز سنيناريوى قل ما نجده دون وعى كامل بتقنيات اللغة وابهارها البصرى الذى يلامس دون اختلال الاحساس والشعور الداخلى للانسان ويدخل دون استئذان الى غرف النفس الساكنة لتضج بالحياة والانفعال.
وعلى نفس الابهار الذكى ينحو محمد المهدى المجذوب كما فى قصيدته سيرة :
البنيات فى ضرام الدلاليك تسترن فتنة وأنبهارا
من عيون تلفت الكحل فيهن وأصغى هنيهة ثم طار
نحن جئنا اليك يا امها بالزين والعديل المنقى
نحن جئناك حاملين جريد النخل فألا على أخضرار ورزقا
ولعلنا نلحظ بكثير من الاعجاب اختيار المخرج الشاعر السينمائى لمسرح احداثه The location عند كمال الجزولى :
شغل السوق كان يرى
بالعين
من اول المقاهى ،
حتى أخر الطواقى......كان
يرى
بالعين
من أول الجلود....حتى أخر السروج
كان يرى
بالعين
من أول الصاغة حتى أخر الزريبة
كذلك اشتغل الشاعر صلاح أحمد ابراهيم كثيرا بالتقنيات البصرية وتكثيف الايحاء وتسليط كاميرا الكلام واللغة على الفكرة الانسانية ( عنبر جودة )
عشرون دستة
عشرون دسته
لو انهم
حزمة جرجير يعد كى يباع
لخدم الافرنج فى المدينة الكبيرة
ماسلخت بشرتهم أشعة الظهيرة
وبان فيها الاصفرار والذبول
وكذلك الفوتغرافيا المتحركة والمتحرره من اللغة العادية الى لغة بصرية تقترح سينمائية لغتها البسيطة وتحولها الى مفردة بصرة نافذة فى قصيدة صلاح أحمد أبراهيم ( الحاجة )
ما سألنا وما أخبرت ، ليس ذاك بهام - لنا وحسبنا- تعال - لها ،
انها وكفى الحاجه
النهر والقفر سابحة فى الزحام
وتقيم وما من مقام
اى ريح رأت فى الحدود قيود ؟
كل النصوص اعلاه كمثال يتأتى من خلالها الاحساس المقابل للتخيل البصرى والوجودى لمشاهدات فيلمية وثائقية مطولة \او قصيرة كما فى االبعض وكلها تعانق السينما الشعرية وفقا لمنطق العناصر المنتقاة من مفردة وشخصية وبناء درامى ولفظى وايحائى وحواريات ورؤى وافكار بصرية تحوى ألوان وتشكيل بصرى يعزز الربط المباشر بوحدة وتلازم الخلق الشعرى والرؤية الجمالية مع سينمائية النص نفسه وسموه عن احادية التكوين الابداعى الى فضاء تعدد مظاهر العمل الخلاق
(5)
يقول يورى لوثمان فى كتابه بنية النص ( غاليمار – باريس 1983) أن الشعرية بايجاز دعوة للمتفرج / المتلقى من خلال أفق الانتظار هذا لينخرط بكل ما يملك من أستعداد وقدرات سلوكية ، نفسية ، اجتماعية وفنيه ، أيدلوجية ايضا فى اجراء الدلالة الثانوية لطيات الخطاب السينمائى من خلال ما يقترحه من مجازات واستعارات وكيانات شأنه شأن الخطاب الشعرى عبر مستويات الكثافة والايحاءات التى تتوسل بها اللغة الشعرية عادة باعتبارها لغة ثانيه.
اذا حاولنا ان نطبق مقولة يورى لوثمان وتتبعنا مسيرة السينما العالمية والعربية وكذلك اسهامات السينما السودانية والاخيرة باعتبار ان خفوت المشاهدة السينمائية المباشرة جعلتها اقرب الى مزاج التداول عند المشتغلين والمهتمين بامر السينما نجد نماذج واضحة للروح الجديدة التى تعبر بها السينما عن هموم الانسان وطموحاته واشتغالاته الفكرية بل اختلاجاته النفسيه وعوزه الذهنى لرؤى متقدمة تزيل عنه عسف الحياة وضيق الحلول وسط عالم يضج بالقسوة والحروب والدمار.
نلاحظ فى فيلم يعد من اضخم افلام السينما العالمية اليابانية الساموراى السبعة Seven Samurai لاكيرا كورساوا Akira Kurosawa ( انتاج 1954) ورغم ان الرؤية التقليدية لهذا العمل الكبير قد لاتخرجه عن كونه فيلم تاريخى وحربى الا ان النفاذ لفكرة ارحب من خلال المعالجة الدراميه للاحداث والتى ضجت بها طوال ساعاته الطويلة تنبىء عن فهم عالى للروح الانسانية واضحة عند تاكاش المقاتل المخضرم ولوشيرو المندفع للحياة بخفة روحه الفنان وقد ساعد السناريو فى الربط الساحر للاحداث
هى شاعريه عالية فى التخيل واوضاع الكاميرا والقدرة الادائية والتجسيدية العالية للممثلين بشكل يجعل العمل مرتكزا فى مخيلة المتلقى وذاكرته لا يبارحها نعم ملحمة شعرية كبيرة كأى عمل شعرى ضخم.
ولا تقل جسارة فى الرؤيا واللغه الشعريتين سفر الرؤيا الان / القيامه الان / نهاية العالم الان Apocalypse مرورا اوقات الحروب والدمار المتناهى وللمواجع الناجمه عن خلل تلك اللحظات الجسيمة ، بلغة سينمائية بالغة فى التشويق عالية فى شاعريتها يتناول كوبولا بصدق احساس الشاعر الفنان ذو البصيرة السينائية المتقدة ليحيل الشاشة الى تساؤلات كبيرة ومثيرة للقضايا الكبرى وهذة وظيفة القصيدة فى بحثها الدئم عن الانسان وجوهر الكون والحياة.
كما وأن جان لوك كودار Jean -Luc Godard رائد الموجة الجديدة فى فرنسا قد اشتغل معظم افلامه وفق رؤى فلسفسية صاحيبها كثير من الافكار الزاهية والباهرة التى تيحث فى جماليات لغة الحدلتة وشاعريتها سينمائيا ولعل ماتحدث عنه بازوينى ( سينما الشعر) يجعل كودار يتربع فى قمة من اشتغلوا بتقنية اللغة الشاعرة او سينما القصيدة تجلى ذلك فى الجندى الصغير Le petit Soldat كما ظهرت مقدرته وتجلياته الفائقة فى فيلم عاشت حياتها Vivre Sa Vie و وداعا للغة .Adieu au Langage 2014.
لم تخلو السينما العربية ايضا من خلق تجلياتها من خلال انتاج سينما احتفبت فيها مفرداتها المتوهجة كنتاج حقيقى لتجليات السينما فى العالم فاستخدم يوسف شاهين تقنيات بصرية خلابة بنفس واحسلس شاعرى من الطراز الاول فى كل مسيرته المتطورة مرورا باسكندرية ليه و اسكندرية كمان وكمان وحدوته مصرية كما قام بذات الابهار ايضا من خلال تجسيد لغوى باهر وتجليات بصرية بفتح العتمة التى تصاحب عدم الابصارداؤؤد عبد السيد 1991 فى الفيلم الرائع الكيت كات عن رواية الراحل ابراهيم اصلان مالك الحزين .
اما نماذج السينما السودانية تتمثل فى افلام تسجيلية او قصيرة تجلت واضافت لجماليات السينما الشعرية الكثير فسريالية ابراهيم شداد تكشفت دون شك فى فيلم جمل ونزوع حسين شريف الفكرى واشتغاله بالشعر والتشكيل انتج لنا انتزاع الكهرمان وهناك نماذج شتى للطيب مهدى وسليمان محمد ابراهيم وسامى الصاوى وغيرهم وكل نتاجاتهم مفعمة بشاعرية عالية يكاد تجعلنا نجزم احيانا بان الافلام التسجيلة هى قصائد الشعر .
(6 )
أن الشعر كائن حى يعيش بيننا ولا يقتصر امر الشاعرية على المراد القصدى المباشر لدلالات الشعر وحركته تجاه المجتمع والفنون انما يتجاوزالامر الى تماهى مزدوج فى استنطاق الرؤية البصرية وجماليات لغة الكاميرا / الحوار / الموسيقى او دعنا بشكل اكثر رحابة نقول الاصوات بما فيها المؤثرات ونبرات واختلاجات اصوات الممثل نفسه ،
يؤكد هذاالتمازج الخلاق ان السينما شعر داخل القصيدة وان جماليات السينما الشعرية هى واحدة من تجليات الحداثة منذ ظهور الموجة الجديدة للسينما فى العالم ....ان مقولة البعض بأن شعرية السينما وسينمائية النص الشعرى او القصائد مجرد توهم حديث لجوهر الفن هو قول يفتقر صاحبه الى التعمق وشمول النظر ودقته.
أن السينما الابداعية / السينما المثقفة وليست اللاهثة او الطارئة على فن السينما / هى عالم باسره وهوعوالم لها رؤياها ولا محدودية افكارها كا للفضاء الشعرى حيث لامكان يمكن ان يستأثر بالفكرة الحرة الطليقة ولا زمان يمكن ان يرجع بالمتقدم من الفنون القهقرى .