وقائع حية من ذاكرة كتابة القصيدة

وقائع حية من ذاكرة كتابة القصيدة محمد نجيب محمد علي "احذروا الشعر فإنه لا يورث إلا الفقر" من بيانات التجربة كانت طفولتي شريرة الملامح. هكذا أنظر لها الآن، أذكر أني كنت زعيم عصابة من الأولاد الذين يستأسدون على شوارع المدينة الصغيرة (أرقو) يغلقونها ويفتحونها حسب أمزجتهم الخاصة كان أولاد "حلة فوق" يعانون كثيراً من أولاد "حلة تحت" وأفعالهم الشيطانية.

وقائع حية من ذاكرة كتابة القصيدة

وقائع حية من ذاكرة كتابة القصيدة

محمد نجيب محمد علي

"احذروا الشعر فإنه لا يورث إلا الفقر"
من بيانات التجربة

كانت طفولتي شريرة الملامح. هكذا أنظر لها الآن، أذكر أني كنت زعيم عصابة من الأولاد الذين يستأسدون على شوارع المدينة الصغيرة (أرقو) يغلقونها ويفتحونها حسب أمزجتهم الخاصة كان أولاد "حلة فوق" يعانون كثيراً من أولاد "حلة تحت" وأفعالهم الشيطانية.

ترى كم جرح فعلناه في ذاكرة ذلك الزمان؟ هذا المدخل هو بعض من بقايا الذاكرة الحية التي أحاول من خلالها اكتشاف خارطة الأعماق المدن والمواني والجبال والترسبات التي حدثت والتي قادتني لأن أكون شاعراً، علماً بأنه لم يكن لي حق الاختيار في ذلك.

كنت مغرماً بالتحديق في الطائرات والعصافير والصقور الكبيرة التي تحلق في البعيد. كانت دموعي تراودني بحياء شديد وكأني أتيت لهذا العالم بغربة قديمة. جعلتني أحس بيتم خاص. وبفقد لم أكن استطيع أن أسميه.

أذكر الآن المدرسة الأولية. تلك التي تستطيل مساحاتها عرضاً وطولاً وتضيق عند القلب وتجعلنا رجالاً في سن الطفولة. ننتظر متى تنبت اللحية ومتى يولد الشنب. ونجاهد في ذلك بأمواس "أبو تمساح" مخلفات آبائنا على ماكينات الحلاقة.

ربما يكون كل ذلك بعض من بداية الإرهاصات التي تخللت الداخل وجعلت للتمرد وجهاً سحرياً ينادي أينما يكون الالتفات.

كتبت لأمي رسالة كنت أعني بها أبي. كان قد هاجر إلى العاصمة أمدرمان وتركاني هناك لأكمل تعليمي الأولي داخل غربة مغلقة، مسورة بالوصايا والسوط وتكشيرة عمي.

كتبت لأمي بصوت يسبق الأحرف.

"أمي الغالية. إنني ابنك ولقد قررت أن أموت بضربة الشمس (أعني بالسحائي).

كنت أحاول تحقيق ذلك، بجدية قادتني لأعلو صهاريج المياه منتصف النهار بحثاً عن عين الشمس الساخنة، جدية فشلت في تحقيق مآربي وجعلتني أعاني من الصداع لأعوام طويلة!

زملائي في المدرسة كانوا يتحدثون عن بنات الجان الذين يسكنون الخرائب القديمة ويبنون بيوتهن من رماد الفحم. وكانوا يحذرون من الاقتراب من تلك الأماكن. كما كانت توصي بذلك الحبوبات إلا أنا. اقتربت واقتربت كنت أصل أكثر الخرابات دمامةً في تلك المدينة. الخرابات التي تفيض بالرماد الحي (لأتبول) على رأسها. بحثاً عن هؤلاء البنات.

بالتأكيد لم أكن ارسم لنفسي المستقبل الذي أحياه الآن. لم أكن أعرف ما معنى القصيدة. وأنا أطاردها أو اكتبها. كنت ألهو بجنون خاص ما بين مقابر أرقو وخرائبها وشوارعها ومزارع القصب التي تحاصر النيل بخضرة كثيفة.

كنت مهموماً بالبحث عن الشيء الذي لا أراه كانوا يصفوني بالماكر والثعلب وأحياناً المجرم.

قالوا لي أنك تكتب شعراً، حصدت الجوائز من ليالي الإلقاء. كثيراً على كراريسي تعابير كبيرة تفوق حسن، وجيد، وجيد جداً وممتاز. كتبوا سيكون لك شأن كبير في دنيا الكتابة. قدموني في الأمسيات الأدبية. أولئك المدرسين الذين أخذوني لأول الطريق نصحوني بحفظ القصائد ونسيانها ثم محاولة الكتابة على إيقاعاتها كنت أفعل ذلك بفرح كبير ويومي. حفظت وقتها المتنبي ومحمد أحمد محجوب والفيتوري وأحمد محمد صالح وآخرين. ونسيتهم. وكتبت القصائد التي لم يكتبوها. كنت أسابق ذاكرتي بفعل الكتابة عرفت أن لي أصدقاء يسكنون دواوين الشعر ويبنون عليها غرفاً من الأحلام الجميلة. كنت أباهي زملائي في المدرسة بما أكتب فيصفقون لي في إعجاب دافئ.

ثم غادرت غربتي الأولى إلى غربتي الثانية أم درمان تلك المدينة التي روادت القروي علي نفسه فأوشك أن يموت. كانت أمدرمان هي المدينة التي أورثتني الانفصام ولم تنل حظها من عشق الطفولة.

كانوا قد حولوني إلى مدرسة بيت المال الوسطى. كان علي أن ألج إلى ادخل عالم آخر. ومجتمع آخر. وزمان آخر، أنا الذي لم أعرف البص ولا الشوارع المسفلته ولا لمبة النايلون. كان كل شيء أمامي يشكل إطاراً لصورة لم أرها من قبل. وكان عليَّ أن أفضح لنفسي كل الأشياء التي أراها أو أسمعها أو اقرأها. لذا كنت أفعل كل شيء بشراهة متعجلة اقرأ وأكتب ولا أنام إلا قليلاً. عرفت أبي وأمي وأصدقائي مرة أخرى. عرفت البنات الجميلات والشوارع والضجيج عرفت فلسطين جرح الطفولة الأولى عرفت كيف مات القرشي طالب الجامعة. كيف قتلوه. (كانت أمي تبكيه وكأنه أنا). وانفتح أمامي عالم آخر للكتابة. لم يكن الهم خاصاً كما بدأ. صارت الصورة تنمو. وتنمو وصرت أبحث عن القصائد التي تشغلني والآخرين.. أصبح الخاص عاماً والبكاء والضحك والجراح لا تخصني وحدي.

تكونت للقصيدة غرف أخرى. عرفت جنة الأطفال بالتلفزيون صفية الأمين فيما أذكر كنت أشارك في مسابقاتها وأحصد جوائزها. نشرت بعض أعمالي بمجلة الإذاعة والتلفزيون ومجلة الشباب. بعثت لمحمد الفيتوري بإحدى قصائدي وكان له برنامج أدبي بالتلفزيون قرأها الفيتوري على الشاشة البيضاء. فلم أنم يومها حتى الصباح.

كبرت العلاقات، الأصدقاء، الشعراء، المكتبات التي تفتح أبوابها. مكتبة أمدرمان المركزية، ومكتبة أمدرمان والخرطوم كانت مساحة اليوم لا تفي بما أريد.

ثم دخلت إلى مدرسة محمد حسين الثانوية العليا. تلك المدرسة التي منحت القصائد عنوانها ورائحتها. اتسعت الرؤيا وضاقت العبارة كما يقول النفري. خرجت بنات الشعر لتناكفني وتجعل مني بعلاً وابناً وأباً في آن واحد. كان زهو السياسة والمخاطرة والاعتصام. كنا في مطلع السبعينات، سامي يوسف، الطيب مهدي الطاهر، ابن عمر محمد أحمد، طلال دفع الله عبد العزيز احمد المصطفى الحاج، وآخرون. شلة من أنصاف المجانين يمارسون الكتابة والسير على الماء وإضرام النار على كل الاتجاهات تكونت وقتها النبض 71 ثم صدر البيان الأول. أن تخاطر بكل شيء لتحيا التجربة كاملة ثم لتكتبها. كنا نبحث عن الصدق والمعنى. كنا نحسب أن ونرى أن الأحرف العارية لا تحيا أبداً.. وكنا نرى أن الموت هو بداية الحياة. نصطاد الكتب أينما نجدها، نطاردها من شارع إلى شارع، ومن كاتب إلى صحيفة. قرأنا دارون وكاريل والمتنبي وأبو نواس والماغوط وسنية صالح وسارتر وكولن ولسون وكامو وعرفنا أشياء كثيرة عن ضروب الكتابة أشكالها كيف يمكن أن نستفيد من التراث، الأسطورة والرؤيا .

عدنا إلى نبع الله القرآن. لنغرف من حروف القلب زاداً لرحلة الكتابة. وأصدرت في ذلك الزمان تعاويذ على شرفات الليل وهي موقعة بطالب الثانوي العالي. احتفى بها الناس، كثيراً و كانت المجموعة تضج بالهتاف والبطولات. كانت تحاول أن تحصي جراحات العالم. انيجلا ديفز، لوركا، فلسطين وأخريات.

أذكر أساتذتنا الشعراء الذين حاصرونا بالحب محيي الدين فارس، محمد سعد دياب، عبد الله الشيخ البشير، إبراهيم إسحق، محمد محمد علي، كنا محظوظين أن نكون طلاباً لأساتذة بتلك القامات صححوا لنا، أيقظوا كل ما هو نائم، حرضونا على الجمال. حاولوا أن يجعلوا لكل العبث الذي كنا نحمله وجهاً يجمله. ويكشف لنا عورته. وكانت أيضا المسابقات. والسعي بين أشكال الكتابة المختلفة، وزن القصيدة، موسيقي الكلمة الداخلية، الصورة، قصيدة الخليل، التدوير، الهايكو، التفعلية كنا نحاول أن نجود ما نعلم . ونسعى لاكتشاف القصائد التي لم تكتب بعد. كانت أحلامنا كبيرة. التأمل والقراءة يأخذان كل أوقاتنا نكتب ثم نحرق أوراقنا ولا نقيم جنازات لشيء ثم نعود لنكتب مرة أخرى. كنا ننافس قصائدنا وأحلامنا وأنفسنا. لذا ربما كان لجيل السبعينات بصماته. الجارحة على أشكال الكتابة. أذكر أن سامي يوسف طرق باب منزلنا في الثالثة صباحاً وهو يحمل في يده قصة انتهى منها قبل وقت قليل اخترق ستار الأسرة من المسالمة إلى الحارة الثانية. كان كل همه أن نقرأ تلك القصة معاً في ذلك الوقت. كنت أنا وقتها غارقاً في شطحات شبنهور وفلسفة الإرادة. ولم يقو أبي على إظهار رفضه لتلك الزيارة كنا نسابق شيئاً ما. سامي يوسف رحل عنا فجأة إلى العالم الآخر. كان رحيله مهراً لتجربة لم يكملها بعد. عاش صراعاً داوياً في عشقه لفتاة مسلمة كان وقتها مسيحياً، وعجز عن كسر ذلك الحاجز حتى بعد أن نطق بالشهادتين.

رحيل سامي خلخل أشياء كثيرة. جعلنا نفر إلى كل الاتجاهات. بعضنا هرب حتى من مواصلة رحلة الكتابة واختار أن يحرق كل أوراقه. كان سامي قد تواعد معي قبل رحيله بأنه سيكشف لي سر العالم الآخر. سيعود مرة أخرى بالقصة التي لم يكتبها. قلت لكم كان بيننا نهر من الجنون. لذا حاصرونا بأطباء النفس وشيوخ العشيرة. استأجر لي أبي شيخاً لمدة شهر كامل كان يسكن معنا بالمنزل. وكان يرقيني كل يوم صباحاً ومساء. كان الداخل والخارج في عراك مستمر. وقال شيخ آخر أخذوني إليه إنه الارتجاج. كانت عينا الشيخ ملمح لقصيدة أحلم بها. حقا كنت أبحث عن يد أقبض بها خاصرة الزمان. وأدخلوني بعدها لمستشفى جمال أبو العزائم بمصر عالماً آخر أفاض عليّ من فضله. لسعات الكهرباء، وحبوب وجع الروح والقصائد تفتح نوافذها. كتبت وقتها مجموعتي الثانية "ضد الإحباط" كانت لدي القدرة في أن تأخذ كل أحزاني صورها الجميلة الزاهية، كنت مغرماً بتلك التجارب وكنت أحس إنني وحدي الذي اخترقت أبوابها. وخرجت من تلك الأبواب، كتب "احباط آخر يأتي في زمن الغد."

ثم جاءت سنوات الجامعة، القاهرة بالخرطوم، مساحة أخرى للأحلام والعراك الذي لا يتوقف. كلية الدراسات الفلسفية، الندوات وصخب السياسة، واكتشاف الحبيبة، وأحلام الفقراء التي تبني القصور والأنهار والمدن الأخرى على كراسة القصيدة قلت لأخي طلال دفع الله. احذروا الشعر فإنه لا يورث إلا الفقر. والشعراء يحتملون الفقر حتى النزع الأخير لم نكن نعتني بجيوبنا ونحن نلهث خلف القصائد. كانت قلوبنا وجيوبنا تمتلئ بالأحزان اليومية الأوراق البيضاء والأقلام السوداء. وكان عهدنا أننا حين نفشل في تجربة ما علينا أن نشمر عن سواعدنا ونخرج إلى الشوارع بحثاً عن تجربة أخرى.

كثيراً ما كتبت. كثيراً ما حاورت أعمالي. وكثيراً ما أحرقتها. إنني أكثر الشعراء إهمالاً لما اكتب، ولست من الذين يحفظون أعمالهم. كل ذلك لأنني أحلم وباستمرار بقصيدة تأكل كل ما كتبت.

ربما أصبح التجريب هو الهم الفني. الذي أحاول ومن خلال الالتزام بشروط القصيدة أن اكتشف القصيدة الخفية التي لم أرها بعد. فالمفاهيم تتحول وتكبر. لم يعد الشكل قاصراً على ما ورثناه فقط. أحاول العثور على تكنيك متفرد، أحاول العثور على حدث الإيقاع الخفي الذي يربط بين الحرف والآخر. والكلمة ورفيقتها. ربما تحتاج الكتابة إلى بعض المغامرة التي تجعل من الصمت لغة تقرأ وتسمع في حالات كثيرة.

وأنا أستمع لتجربتي، كيف بدأت على عروض الخليل ثم عدوت لشعر التفعيلة، وكان التدوير والهايكو، ومحاولات أخرى كنت فيها أحاول رسم حالة القصيدة خارج إطار الكلمة وكنت اكتفي بكتابة عنوانها فقط. تجارب كثيرة تخرج من مسيرتي الخاصة، تنجح أو تفشل. ولكنها تدفعني للوصول إلى الجب الذي سقطت روحي فيه.

ليس هو الشعر الفصيح فقط الذي كان يقود تجربتي كانت هناك الأغنية العامية، وشعارات مسلسلات التلفزيون وكتابة القصة القصيرة، ومحاولات في الرواية عجزت أن أجلس نفسي لها وأنا أطارد باب الرزق لأجل أطفال لا يشبهوني إلاَّ في الملامح.

لم تكن التجارب تحتويها القصيدة فقط إنما كانت تحتوي تشردي الخاص وأنا انتقل من سكن لآخر. ومن مهنة لأخرى، صحفي، مدرس، تاجر. و سائق ركشة. أتداعى وأكتب. وأحيا بقناعة أن الجيب الواحد لا يسع روحاً واحدة! هكذا أنا. أبحث عن جسد آخر بحجم الروح التي احملها.

اكتب لكم عن تجربتي في كتابة القصيدة باختصار عنيد، بصدق تام ربما ذات حلم قادم ألبس شارتي. وأكتب القصيدة التي تجعلني أغلقها في الهواء الطلق.. ولا تفعل بي كل هذه المرارات التي عشتها وأعيشها الآن.