قصة قصيرة 

قصة قصيرة  أسيا رحاحيلة ( الجزائر) ميّتٌ يسْعَى..! صباحٌ مثل كلّ الصباحات ، التي مضت والتي سوف تأتي . استيقظت الشمس ، وأطلّ الضّياء من النافذة ؛ ليبشّّّّرني بموتٍ جديد. أنهضُ ، أرتدي ثيابي ، ألمح وجهي في المرآة . وجهٌ

قصة قصيرة 

قصة قصيرة 

أسيا رحاحيلة ( الجزائر)


ميّتٌ يسْعَى..!

 

 

صباحٌ مثل كلّ الصباحات ، التي مضت والتي سوف تأتي .
استيقظت الشمس ، وأطلّ الضّياء من النافذة ؛ ليبشّّّّرني بموتٍ جديد. أنهضُ ، أرتدي ثيابي ، ألمح وجهي في المرآة . وجهٌ قديمٌ جدا معفّرٌ باليأس. لن أحلق ذقني هذا اليوم أيضا. ما رأيك ؟ و ربّما أترك شاربي ينمو. يالها من فكرة !
عليّ أن أجرّب أيّ شيء ؛ لأنال منك أيها المقيت . سوف أغيّر شكل وجهي لأتوّهك ، وقتها لن تربض لي تحت الوسادة ، و لا على أرصفة المقاهي . اليوم قد أستلم إشعارا بالتوظيف ، و تكون نهايتك أيها المتكرّر مثل لعنة .
يومٌ جديد ، والأرض لا تزال تدور و تدور, بنفس الرتابة و الإصرار ، غير آبهة بي أو بما يحدث لي أو للعالم.دوران الأرض أصبح يصيبني بالدّوار! لو فقط تتمهّلي قليلا ، لو فقط تمنحينني فرصة ؛ كي أستوعب ما يجري من حولي ،لو تتوقّفي أيّتها الأرض برهةً ؛ حتى أعيد ترتيب أبجدية الصبر .
- اصبر يا ابني..اصبر .
لابد أن التّكرار يعرّي الكلمات ، يسلخ عنها المعاني ، يفقدها التأثير ؛ مثل دواء تستهلكه لمدّة طويلة ، فيستأنس به الفيروس ، أو تصبح نتائجه عكسية ، وإلاّ ما الذي يفسّر أّنني صرت أضيق ذرعا بهذه الكلمة ؟
تقولها دون مللٍ ، و هي تربّت على كتفي ، أو تحضّر لي فنجان القهوة أو تضع لنا الأكل .
ا.ص.ب.ر ! كم تبدو اللّفظة سلسة و هيّنة, ولكنك ما أن تنتهي من ال'ص ', و تحاول تسلّق الــــ 'ب ' ، حتى تدرك كم هي مستعصية و مملّة وقاتلة.
يوما ضربتُ المرآة بقبضة يدي ، و رأيتها واقفة ، و كفّها على صدرها , فزعة , تحملق بذهول في الدماء تسيل من يمناي ، و أنداء دمع في عينيها ، هالها الموقف ، و تعابير الألم التي غلّفت تقاسيم وجهها ووجوه إخوتي ، ظلّت لأيامِ تشعرني بالضآلة ، وبكثير من الندم .
كائنٌ معجون بماء الصبر أنت يا أمي ، كيف لم يسمّوك ' صابرة ' ؟ و كيف فاتك ، و أنا أسبح في رحمك ، أن تسرّبي لي مع سمرة البشرة ، قليلا من القدرة على الصبر ؟
أهم بالخروج ، فتدسّين في جيبي بعض المال. يصبّبُ مني الخجل ، و أودّ لو تبتلعني الأرض .
- لا تبق في البيت .أخرج ، التق أصحابك .ربّك كريم.
كأنّك تقولين ,اشتري لك سجائر .تعلمين أنّني أدخّن ، وأنا لا أزال أوهم نفسي بأنك لا تعلمين . لا أدخّن أبدا أمامك رغم تاريخي الطويل مع السيجارة. يوم توفى أبي و خلسة عن الجميع , ناولني زميل لي سيجارة قائلا "خذ, جرّب هذه .لا تبك .الذي خلّف لم يمت " .
اشتريتُ الجريدة و علبة سجائر ، وقفتُ عند ناصية الكشك متكئاً على خاصرة الانتظار ,أرقب مجيء بعض الأصدقاء.
لنا مع الانتظار قصة طويلة . انتظرنا أن نكبر ، ثم انتظرنا الشهادة, و الجامعة , ثم التخرّج ، بعدها قرّرنا أن ننتهي من أمر التجنيد .ألا يستحقّ الوطن أن نهبه حفنة من العمر , و هو الذي تكفّل بنا لسنوات فوق مقاعد الدرس - لكي يحيلنا بعد التخرّج مباشرة على التقاعد الإجباري ؟!-
اليوم سينضمّ إلى الشلّة عضو جديد ، أنهى الخدمة العسكرية منذ أسابيع ، و كلما التقينا راح يروي لنا فصلا من فصول الجحيم الثمانية عشر.." مضيعة للوقت ، مقصلة للفكر و المبادئ ، و.. بعض الثكنات ، مصانع لتخصيب الشذوذ!".
المتجر المقابل للكشك لم يفتح بعد . صاحبه رجل بسيط أصبح بين عشية و ضحاها من أثرياء المدينة .لا أحد يفهم كيف . تجارته تكبر يوما عن يوم – و بطنه أيضا -.و في ركنٍ في المتجر لا يعلمه إلاّ هو ، تتكدّس قواريرٌ من الخمر . كل الحيّ يعرف ، و كل الحيّ ساكت ، و بعض الحيّ يتسلّل تحت جنح الظلام إلى الحانوت ، ثم يغادره بعد لحظات ، متأبّطا الشيطان ملفوفا في ورق الجرائد أو أكياس سوداء.
-ألا تزال مصرّا على أن لا تسّكْر أبدا ؟.
- أستغفر الله !

- لو تجرّب يا صاحبي لذّّة ذهاب الوعي و شلل العقل ؟!
لكي يذهب وعيك يلزمك المال . المال ..دائما المال..غريبة!
الوعي يحتاج إلى المال ، وذهاب الوعي يحتاج إلى المال!
وحده الانتحار لا يكلّف درهماً ..
أستغفر الله !
لمحتُ ساعي البريد قادما من بعيد ، عندما مرّ بالقرب لم يقل شيئا ، أومأ إليّ بالنفي ، ثم ذهب مسرعا .
- اصبر يا ابني..اصبر .
مرّ اليوم ثقيلا كجثة ميّت ، و في المقبرة التففنا حول أبناء جارنا الطيب " عبد الرحمن " مردّدين نفس العبارات التي حفظناها لمثل ذلك الموقف منذ بدأنا نتقمّص أدوار الرجل . " الذي خلّف لم يمت "
ثم ..أدرنا ظهورنا للأموات ، و قفلنا راجعين ، و قد لفّنا الصمت ،
و تملّكني إحساس غريب ،
بأنني ميّتٌ يسعى بين أحياء