مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي

مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي المؤتمر العلمي السادس عشر للرواية السودانية تحت شعار: آيديولوجيا الخطاب الروائي (قراءات في تجارب روائية)  ورقة بعنوان: رواية الكروان لا يغرد دائماً مقاربة تطبيقية في سياق ثقافي الأستاذ/ أبوطالب محمد   2020م مقدمة:-    يلاحظ الدارس لتاريخ السودان قديمه وحديثه أن كل المؤثرات الكبرى تقريباً قد دخلت البلاد عن طريق النيل وعبر أرض النوبة. فقد أدى هذا النهر دوراً كبيراً في تشكيل تاريخ

مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي

 

 

 

مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي

جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي

المؤتمر العلمي السادس عشر للرواية السودانية

تحت شعار: آيديولوجيا الخطاب الروائي (قراءات في تجارب روائية)

 

 ورقة بعنوان: رواية الكروان لا يغرد دائماً مقاربة تطبيقية في سياق ثقافي

 

الأستاذ/ أبوطالب محمد

 

2020م

 

 

 

 

 

مقدمة:-

   يلاحظ الدارس لتاريخ السودان قديمه وحديثه أن كل المؤثرات الكبرى تقريباً قد دخلت البلاد عن طريق النيل وعبر أرض النوبة. فقد أدى هذا النهر دوراً كبيراً في تشكيل تاريخ النوبة وتاريخ السودان عموماً. ففي الأزمان القديمة أرسل عظماء الفراعنة الذين ينتسبون إلى الدولة الوسطى أساطيلهم إلى أعالي النهر فيما وراء الشلال الأول وبنوا مدنهم ومعابدهم على امتداد الشاطئين في بلاد النوبة وانشأوا دفاعاتهم عند الشلالين الثاني والثالث وهكذا امتدت أولى الحضارات التي عرفها العالم إلى تلك المنطقة وبعد قرون من الحياة المستقرة تقدم الكوشيون في الجنوب وغزوا النوبة ونهبوا مدنها ثم ساروا شمالاً حتى أخضعوا مصر، ولكن الفراعنة سرعان ما استعادوا قوتهم واسترجعوا ما فقدوه من البلاد.[1] وفي فجر المسيحية استقل الآباء المسيحيون مراكبهم من (رشيد) إلى النوبة حاملين الإنجيل وراعين إلى سبيل السلام فأموا في خرائب المدن الفرعونية القديمة وبنوا كنائسهم على أنقاض المعابد، وعلى نقيض قدماء المصريين نشر الآباء المسيحيون نفوذهم حتى بلغ أقاصي السودان وأخذوا في بناء المدن والكنائس حتى بلغوا علوة جنوبي الخرطوم حيث اقاموا مملكتهم المسيحية، ثم انتشر الإسلام في منتصف القرن الثامن الميلادي عندما اندفع المسلمون العرب وهم مشبعون بقوة الإيمان على طول ضفتي النيل من مصر إلى بلاد النوبة وأقاموا حضارتهم الإسلامية الجديدة فوق آثار المملكة المسيحية المحتضرة.[2]

   تعرضت بلاد النوبة لأحداث متعددة غيرت عناصر سكانها على مرّ الزمن، ولكنها طبعتهم بطابعها المميز، وحافظت على عوامل إرثها الحضاري جيلاً بعد جيل، مما أفسح لشعب سودان وادي النيل القديم مكانة مرموقة بين الأمم القديمة، وحملت البلاد أسماء مختلفة في مراحلها التاريخية المتعاقبة. عرفت بلاد النوبة بأرض كوش وكاشو وأثيوبيا وتمتد أرض النوبة من الشلال الأول إلى الشلال الرابع، ويذكر آدمز في كتابه Nubia تمتد المنطقة النوبية قديماً حتى الشلال الأول إلى الشلال السادس، أما النوبة الحديثة فتمتد من الشلال الأول إلى الشلال الرابع، وحتى المنطقة التي احتفظت بلغتها وثقافتها وإرثها الثقافي أما باقي الأجزاء فقد تأثرت باللغة العربية والوجود العربي.[3] يتميز الشعب النوبي على اختلاف قبائلهم أنهم أقوام ذي طبيعة محافظة، شديدة التمسك بتقاليدهم وعاداتهم المختلفة في الطبيعة المحافظة في العديد من أمور حياتهم وتقاليدهم القديمة، بحسبان أن ظاهرة التمسك بمنازلهم الطبيعية ذات الطراز التقليدي المميز، التي يقومون بتشيدها بأنفسهم، كما يتميزون بالشخصية الواقعية والقدرة على تقبل الآخر بكل سهولة ويسر والاندماج معه في محيطه الجغرافي أو البيئي دون أن يفقد شخصيته كينونتها وهويتها وخصوصيتها التي تتميز بها ويؤيد ذلك تصاهره مع القبائل التي تعيش معه مصداقاً لأمثالهم التي تقول:(أولاد أولادناأولادنا، وأولاد بناتنا أولادنا).[4]

 

 

 

 

   الرواية قيد الدراسة للكاتب عمر طه صدرت عن دار مدارك للطباعة والنشر والتوزيع في العام 2017م، حيث تطرقت إلى حياة الريف السوداني النوبي من وجه نظرية إنسانية عامة وبمعنى آخر أن الرواية لم تنحصر في المجتمع النوبي وحده بل وسعت مسارات سردها إلى بيئات أخرى وفي هذا الصدد يقول حجاج أدول :(من يقرأ الأدب النوبي على أنه أدب يعبر عن الشعب النوبي فقط، يظلمه ظلماً جهولاً الأدب النوبي مثلما هو يعبر عن الشعب النوبي في وقت معين وحالة معينة بتداعيات جغرافية وتاريخية ونفسية، فهو يمتد جنوباً ليعبر عن قطاع إنساني مشترك مع بقية البشر أجمعين)[5].

   يؤكد هذا الاستدلال على رواية الكروان لا يغرد دائماً بحيث أنها مدت أشرع موضوعاتها السردية على شعوب سودانية أخرى. وانفتحت على سياق موضوعات سوسيوثقافية عديدة استهلتها بموضوع الرق والنزوح والتهجير (تهجير أهالي حلفا) وسيرة سوسيوثقافية عن المجتمع النوبي، ووسعت دائرة سردها على قضية الهوية وصراعات السلطة السياسية (صراع العُمد)، وأولت الرواية اهتماماً بالغاً بالتاريخ السياسي في فترة المهدية وركزت على المسترقين في معركة توشكي . تأسست الرواية على جميع هذه القضايا في وتائر سردية متنقلة منتظمة من مكان إلى آخر ومن قضية إلى أخرى بطريقة سرد متناوب بين الشخصيات وتعدد الرواة في سرد تفاصيل المجتمع الواقعي والمتخيل ومجالات ثقافاته المتنوعة المتداخلة.

استهلت الرواية فضاءها السردي بأرض الدينكا في جنوب السودان عندما هجم الجلابة على أرضهم واستباحوا البلدة وقتلوا كبار السن وأخذوا الصبية وأشعلوا النار في الأكواخ وقضوا على حظائر الماشية ورقصوا رقصة الموت على تناثر الأشلاء اختطفوا الفتاة (أشول) وقتلوا أمها، حركت هذه الحادثة مسار السرد وجعلته منفتحاً على موضوع الرق وموضوعات سردية أخرى ترد تباعاً.

عاشت أشول في بلاد النوبة وأصبحت جزءاً أصيلاً من المجتمع النوبي، إلى أن نالت استقلالها بعد فترات طويلة وظلت تتعايش مع عادات وأعراف هذا المجتمع الجديد الذي التزمت بشروطه وتغيير اسمها إلى (لقية) ثم تزوجت من مسترق آخر يدعى (فرج الله) الذي كان جندياً في حملة ود النجومي وهرب إلى بلاد النوبة، ولعقود من الزمان ظل (فرج الله) يروي أخبار حملة ود النجومي وما عانته من قرص الجوع في ليالي الشتاء الباردة وقسوة الصحراء وحرها وما عاناه الأهالي من العنت وسوء المعاملة على طول الطريق في دنقلا إلى أرقين وهربوا جميعاً من تنكيل جيش النجومي لعجزهم عن إمدادهم بالمؤن والطعام كما كان يأمل خليفة المهدي الذي رمى بالآلاف من جيشه إلى التهلكة في حرب ليس لديه ما يبررها لم يجد أفراد الحملة ما يُسكت جوعهم ويسد رمقهم فأخذوا يقتاتون بالتمر النيء وعراجين النخل وأوراق الشجر في وقت عمت المجاعة طول بلاد السودان وعرضها، استعانت الرواية بهذه الظروف التي نشبت إبان معركة توشكي التي أراد ود النجومي من خلالها غزو مصر وتساقط جنوده في الصحراء، ويحكى أن عمدة إحدى تلك البلدات أمر معاونه بجمع الناس في المضيفة وقد صارت قوات ود النجومي على مشارف البلدة حيث خطب فيهم قائلاً فيما يشبه إعلاناً للطواريء:

إدين الذي ديوق أرى..

(كل امرأة توقد النار)..

إدين الذي جاوق جوفي..

(كل امرأة تطحن الحبوب)

إدين الذي صلف صلّى

(كل امرأة تمدح المديح)

   ألقى الإنجليز في ظل هذه الظروف القبض على (عبد الجبار عواض) أحد أتباع المهدية والمؤمنين بها بينما كان يتهيأ لنقل البريد وأخبار جيش الفتح الإنجليزي المصري، فحكموا عليه بالإعدام في ميدان عام حتى يكون إعدامه عبرة لمن يعتبر. بعد انتهاء معركة توشكي تشتت بعض الناجين منها في قري وبلادات النوبة والبعض الآخر منهم إلى دنقلا أما (فرج الله) فقد عاد مرة أخرى إلى أرقين، حيث عمل فيها أجيراً لبعض الوقت قبل أن ينسحب جنوباً إلى معتوقة غربي أبكي وكأنما كان قدره يسوقه للإلتقاء بلقية والزواج منها وانخرطا في ثقافة المجتمع النوبي وتحررا منه بعد فجر الاستقلال.

 

 

 

 

 

   نال كثير من السودانيين المستقرين، حريتهم، ومضوا يكافحون من أجل كسب عيشهم ضمن سياق الاقتصاد النامي في البلاد، حيث عملوا في المشاريع الحكومية الجديدة التي وفرت فرصاً للعمل لهم ولغيرهم مثل خزان مكوار (سنار)، ومشروع الجزيرة، وخط السكة حديد للبحر الأحمر وعلى النيل ومشاريع ري القاش وطوكر الزراعية وأرصفة ميناء بورتسودان وعملت أعداد كبيرة من هؤلاء العبيد السابقين في الخدمة العسكرية، وعمل آخرون منهم بعد أن تم تسريحهم في الجيش بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في مجال الزراعة في مشاريع صغيرة أقامها الجيش عرفت بـ (جناين الأرط ومشاريع التوطين) وفرت لهم الاكتفاء الذاتي.[6]

   مرت السنوات واشتد عود (شمس الدين) وبلغ مبلغ الشباب وفتوته استغله القوم في أعمال الحقول الأخرى من حرث وسقي وحصاد وجلب العلف من الجزر بعد انتهاء نوبة الساقية. كل ذلك مقابل كسرة طعام وقميص من قماش الدمور، وحرم من التعليم ويقول:(في صبيحة يوم استيقظت مبكراً قبل أن يأتي أبي لإيقاظي وذهبت للمدرسة بدلاً عن الساقية اختبأت وراء باب الصف وعندما قرع الجرس وانتظم الصف قفزت من خلف الباب وأخذت مكاناً بين الجيران وسط دهشتهم معتقداً أن الأمر بهذه البساطة يومها جاء من يقتلعني من وسط الصّف كي يعيدني إلى الساقية فبكيت بكاءً مراً ولعقت دموعي بطعم المرارة والغبن، بكيت على حالي أمام الآخرين وبكيت على حال أبي وعجزه وإحساسه وكأنه هو من يمنعني عن المدرسة... الرواية ص 126) ويمضي سارداً:(كنت أحس عجز أبي وحسرته وتهربه عن الإجابة كلما طرحت عليه السؤال نفسه مرة بعد مرة غير أنه أجابني ذات غروب والألم يعصر قلبه.(لهفي عليك يا ولدي فأنت لست مثلهم بل نحن لسنا مثلهم... الرواية ص 127). بدأ (شمس الدين) التفكير في أمر انعتاقه لأن طموحاته أكبر من الساقية والحقل. فقد أصبح متمرداً على العمل في الحقل وظل يماطل في تنفيذ ما يطلب منه، ثم بدأ يرفع صوته على أبناء الشيخ ويرفض أوامرهم وبدأ يطالب بمقابل مادي، عندما رأى الشيخ تغيير في سلوك شمس الدين أرسل إليه لمقابلته وتجاهل طلبه بادعائه أنه مشغولاً بأشيائه وشؤونه، ثم ذهب إلى الشيخ ووقف أمامه ينظر إليه شذراً مباهياً بقوته ولسانه وقال:(هل من متحد.. ورد عليه الشيخ بلطف لم يعهدها فيه من قبل وقد قرأ أفكاره:(إذهب يا بني وأفعل ما شئت ربنا يهديك)، فيخرج يعلن انعتاقه على الملأ وغنى لحياته الجديدة بأعلى صوت فحملت رياح أمشير صوت غنائه إلى الناس في دورهم وبيوتهم وإلى الجذر ومياه البحر وإلى زراع الحقل وطيوره وإلى أعالي النخيل وقمم الجبال فرددت معه الغناء، ومن يومها قضى (شمس الدين) الجزء الأكبر من الليل يحتفل بحريته وانعتاقه مع أصحابه المتهمون بتحريضه على التمرد والتحرر. وقال:(فرحوا بانعتاقي وحريتي فقاموا تظاهرة حتى مشارف راكوبة الشيخ وهم يهتفون فرحين زعيمكم مني.. (شمس الدين). أصبح  أكثر رزقاً وأوسع فرصاً فشد الرحال إلى حلفا للعمل في الأراضي الزراعية وصار يعمل أجيراً في المزارع والبساتين والحقول وفي وقت لاحقاً التحق بوظيفة عامل في إحدى الدوائر الحكومية وتزود بتعليم مدرسة الحياة حين التقى بالسيد (سيد أحمد) المثقف الذي عرف منه تاريخ الأمم وحضارات الشعوب منذ القدم. وساعدته خبرته مع والده في الصناعات التقليدية الكثير من فرص العمل وهو يدين بشكل واضح إلى مخزون جدته وحكاياتها وقصصها وأحاجيها ورواياتها من عالم المكان هنا وعالم أسلافها وأجدادها هناك في الجنوب حيث مراتع الطفولة والصبا الباكر، وبما تتقد به ذاكرتها الحادة من حكايات الأولين وأخبار الآخرين، أما الآخر الذي تعلم منه فهو بلا شك المجتمع النوبي الذي شكل وجدانه ونهل من ماعون تراثه المترع الثر تثقف بفنونه وآدابه وعاداته وتقاليده وقيمه وأخلاقه، وتعلم أكثر من ذلك أن يكون إنساني النزعة ونوبي الانتماء والمزاج.

   التقت الرواية أيضاً بالتاريخ السياسي عندما وظفت الصراعات الدامية بين ثلاثة من أبناء العم. حدثت في ستينيات القرن التاسع عشر. في بلاد النوبة السفلى أقصى شمال ما عُرف بالسودان التُركي وفي بلدة صغيرة بين النهر وهم من أتراك البوسنة الذين ولاّهم السلطان (سليم الأول) فتح مصر فتصاهروا مع عرب القراريش والجابركية والنوبة وتزوجوا منهم وحكم هؤلاء الحكام بلاد النوبة من الشلال الأول وحتى الثالث، كان آخر كاشف على البلدة الصغيرة وما جاورها من البلدان في ذلك الوقت يُدعى (حمزة سليم داؤد)، ولما لم تكن له ذرية تخلفه في الحكم، وجريا على عادة النوبين في توريث الحكم لابن الأخت فقد عهد بالكاشفية لابن أخته (عبد الله خليل)، إلا أن أبناء عم (حمزة) كانوا يرون أنهم أحق بكاشفية جدهم الكبير شاويش فنشبت بينهم وبين (عبد الله خليل) في مواضع أكثر انفتاحا خلافات وصراعات على السلطة.

   استندت الرواية في مواضع أكثر انفتاحاً إلى الموروث الثقافي الذي جاء جزءاً أصيلاً في بنية سياق النص وتأكيداً للجانب الجمالي الفني قصد الكاتب من خلاله إبراز ثقافة المجتمع النوبي ووعي موروثاته الثقافية حيث وظفت الرواية المهرجان السنوي لحصاد البلح في كل بلدات النوبه، وهي مناسبة احتفالية يحرص الجميع على حضور أيامها، حتى أولئك الذين يعملون في المدن البعيدة يحرصون أن تتزامن اجازاتهم مع أيام المهرجان فيكون للجميع نصيب من الجوائز في نهاية كل دورة. تلعب وظيفة المهرجان في بنية الرواية على توضيح انصهار النسيج الاجتماعي والاستمرار في النهوض بالتنمية الاقتصادية وتوفر فرص العمل وزيادة الانتاج الزراعي.

   واستعان سياق الرواية الثقافي بأسطورة الغريب الحكيم[7] وتحديداً أن بلاد النوبة معبراً للعابرين بمختلف أجناسهم ومللهم وسحنهم، وهم في معظمهم عابرون غير مقيمين منذ اتفاقية البقط حتى الآن، تشير الرواية إلى أشهر الجوابين رجل يقال له (شيخ محمد)، جاب المنطقة من جنوبها إلى شمالها يقضي يوماً هنا وهناك، يسير طول الوقت لا فرق عنده بين زمهرير الشتاء وهجير الصيف لم يره أحد يركب عربة. كل المناطق تعرف قدر الرجل وزهده وعلمه ويحتفي به الجميع أينما حل وفي كل بلدة له خاصته ومريدوه يباهون بينهم إن الشيخ شرف بيته وأكل من طعامه، وتتودد له النسوة لزيارة بيوتهن فتحل البركة فيهن وفي أولادهن وبناتهن، ينادي على صاحبة البيت أن تأتيه بالطعام فلا تسعها الفرحة بهذا الشرف، ومن كراماته يوزع التمر فوق أسطح البيوت فتحل البركة بالبيت وأهله حتى أمهات العذارى يتوددن له كي يزور بيوتهن حيث أن كل فتاة يهم بها يأتي من يخطبها في غضون أيام، تقترب شخصية (شيخ محمد) من شخصية الزين عند الطيب صالح وكلاهما أولياء صالحين يتودد لهم المجتمع ويمدونه بكرامات ويقفون مع الضعفاء والمعتوهين والمنبوذين في المجتمع، إذن شخصية (الشيخ محمد) ولي صالح حرك حياة الناس وبعث فيهم روح المودة والتسامح وصار قبلة للجميع، أقبل على البلدة أيضاً شخص يصفه الراوي بأنه شديد السواد تكاد عيناه تقدحان شرراً من شدة إحمرارهما من طول المسير تحت وهج الشمس يلبس جلباباً كثير الخروق ويحمل فوق رأسه صُرة مهترئة، استقر في البلدة ردحاً من الزمان وخلق علاقات طيبة مع المجتمع ويوم رحيله شيّد بموكب ضخم من الصبية يودعونه بأسى بالغ ودموع غزيرة. كما رحب المجتمع أيضاً بشخصية شاب يدعى (محمد ملكه) قدم من حدود أرض أسوان وأثارت قصته مشاعر شتى، يقال أن أصدقاؤه يوم عرسه سقوه مغلي مخدر البنقو ليلة عرسه، وعندما اصطفت صفوف الراقصين في الحفل وماجت الأنوار، زاغ عقله فاستل سيف عرسه وصوبه على الرقاب فقتل من قتل ونجا من نجا وانقلب العرس إلى مأتم فأُدخل السجن بدلاً من أن يزف عريساً، قضى فترة في السجن بسبب الفعل الذي ارتكبه أصابه مس من الجنون وصار جواب المناطق المتأخمة حدود أسوان يقيم في كل بلدة ويجد الرعاية والعناية والاهتمام، وهي خصلة من خصائل المجتمعات السودانية تعطي الغريب أياً كان وضعه وشكله اهتمام وترحيب بالغ وهذا ما نلحظه في رواية عمر طه أصبح مجتمعه النوبي في الرواية معبراً للمارة من بلاد المغرب وشنقيط وغرب إفريقيا وبلاد التكارير وهنالك الذاهبون إلى بيت الله للحج منهم من يواصل طريقه إلى هناك ومنهم من لا يتحمل عناء السفر وطول المسير فيستقر به المقام في بلاد النوبة.

   يشكل وجود الغرباء في بلاد النوبة نسيجاً اجتماعياً جديداً يتعايش مع المجتمع النوبي وياكف ثقافته وطريقة التواصل في العيش معه نسبةً لأنه مجتمع مفتوح على ثقافات متنقلة من جميع إفريقيا.

   وظفت الرواية السحر في المجتمعات السودانية وهي ثقافة يعتقد فيها المجتمع ويدلل النص بحكاية الرجل الذي غرس حربته في عنق التمساح وغاص بالحربة داخل الماء ومضى لحالة. مرت سنوات ونسي الرجل أمر حربته، وفي مرة سافر الرجل إلى الصعيد في تجارة وأدركه الغروب عند بلدة صغيرة فصعد إليها، ثم رحب به وأخذوا يسألونه عن أخباره وعن أهله ومن أين جاء ريثما يأتي العشاء، بعد العشاء استأذن الرجل الصامت بقية الرجال أن يسمحوا له باستضافة الضيف للمبيت عنده وانصرف وسط همس الآخرين، في المضيفة حدث ما لم يكن في الحسبان حيث فوجيء بحربته معلقة على الحائط وسط مجموعة من الحراب والسيوف فبهت وأسقط في يده وتسمر في مكانه وقد أدرك أنه في وكر التماسيح بعد لحظة قطع المضيف رهبة السكون قائلاً:(لا عليك يا رجل، لا تخف ولك الأمان الآن ولقد عرفت أنني ذلك التمساح الذي غرست فيه حربتك.. فإني أنصحك بألا تعترض طريق كل تمساح يسافر شمالاً ويعود جنوباً فربما يكون من سحرة نافا يسعى لرزقه ورزق أولاده، وأوصله الرجل التمساح إلى مركبه وأعاد إليه حربته.. الرواية ص 105).

   قدمت الرواية في إطار سياقها الثقافي شهادات ضافية عن سيرة المجتمع النوبي وثقافته وعاداته وتقاليده ومعتقداته بحسبان أن عادات الناس وتقاليدهم خليط من الأديان والمعتقدات في تناغم تام بين كريم المعتقدات وقدسية الأسلاف وما جاءت به الديانات السماوية فتجد الفرعوني واليهودي والمسيحي والإسلامي يعيشون جنباً إلى جنب في أريحية وتسامح في كل مناسبة من مناسبات الحياة وأحداثها من ميلاد وزواج وموت. كما وظفت طقوس العبور (دورة الحياة) من الميلاد حتى الموت مثلاً في اليوم السابع للولادة يؤذن على المولود باسمه بعد ذبح شاة وتوزع لحمها على الجيران. وعندما يبلغ سن الأربعين يوماً يقام له قداس الأربعين في النهر القديم، وطقوسه خليط من عادات فرعونية ويهودية ومسيحية ظلت في اللاوعي النوبي منذ آلاف السنين تحمل الأم مولودها وتذهب به إلى النهر وبرفقتها بعض النسوة والصبية والبنات، تدخل الماء وتكشف وجه الطفل ثم تغرف غرفة من الماء وتغسل به وجهه ثم تغسل وجهها، وباقي النسوة يوقدن النار على الشاطيء حيث تقفز الأم بمولودها فوق النار سبعة مرات وعلى بقايا النار تضع النسوة الفطائر ويضعنها في طوف من القش كما وضعت سفورة وليدها موسى عليه السلام بأمر ربها، فيدفعن بالطوف داخل النهر فيعلق ببعض نباتات البردي في الشاطيء الضحل فيتخاطف الفطائر بعض الصبية قبل أن يحمل التيار الطوف إلى قصر فرعون. وفي طقس الزواج ينزل العريس برفقة أصدقائه إلى البحر يغتسل في النهر ويلبس ملابسه الجديدة ويصر القديمة في صرة يعودون بها إلى البيت، وعند الساحة يحيط الشبان بالعريس فيلقى بالصرة عالياً في الفضاء والمحظوظ من يلتقطها قبل الآخرين، فيكون هو العريس المرتقب حسب الاعتقاد السائد بين الناس. ثم هناك في الرواية إشارات مستفيضة عن مراسم الجرتق لدى النوبيين وتعقد بين جمع من النساء فيغنن له أغنيات في مدح الرسول (ص) ومريم العذراء وفي اليوم السابع يزف العرسان إلى البحر بالأهازيج والغناء حيث يتبركان بماء النهر وسط دعوات كبار السن من النساء أن يجعل الزواج زواجاً ميموناً وأن يرزقهما الله بنيناً وبنات.

   وصورت في ختام هذا السياق قصة تهجير أهالي حلفا في مشاهد درامية بالغة المأساة ويصورها الراوي قائلاً:(من الفجر جاءت شاحنات الجيش الضخمة لنقل الناس... فاليوم مآتم الوطن الكبير حيث المصاب الجلل والمعزون كُثر... فالحدث والموقف يبكي لهما حتى من كان من أهل القبور... تم اقتلاع الناس من بيوتهم وجرهم جراً من فوق قبور موتاهم فهذه امرأة تتشبث بقبر أمها تولول وتنوح وتلطم خدودها، وأخرى تبكي ولدها الذي فجعت فيه قبل سنوات وهو ما يزال في ريعان الشباب... وتلك أرملة في معية الصبا تبكي زوجها الذي ابتلعه البحر... وهناك شيخ وقور يتنقل من قبر إلى آخر فمن يودعهم اليوم كثيرون الأب والأم والأخ والأخت والزوجة والولد يتمنى لو أن الموت أدركه قبل هذا فيدفن معهم ومع آبائه وأجداده... الرواية ص 158). ويمضي في مآسٍ أخرى سارداً:(الكل يبكي نفسه ومصير الذين على القطار يبكون مصيرهم المجهول خلف التيه و الأتمور والذين على الرصيف يبكون مصيرهم المجهول أمام مياه الطوفان التي سوف تطاردهم من ربوة إلى ربوة ومن قمة جبل إلى قمة جبل سنين عدد... الرواية ص 160). يتضح أن الرواية تحركت في سياقات معرفية عِدَّة مقترنة بالمجتمع النوبي وبثقافته وتاريخه وانفتحت بشكل رئيس على موضوعات المستقرين وانخراطهم في المجتمع النوبي، تجسدت جميع هذه القضايا في ترتيب سردي منتظم يوضح من خلاله احتفال الإنسان.النوبي بأنماط حياته الثقافية وانصهاره مع مجتمعات عرقية أخرى وفي مواضع سردية أخرى توغلت الرواية في المعتقدات الشعبية السائدة في المجتمعات السودانية بشكل عام والمجتمع النوبي بوجه خاص وفي أنموذج من المعتقدات التي وظفتها الرواية يحكي الراوي قائلاً:(إن هناك رجلُ زاهدُ في السلطة ولي من أولياء الصالحين، تقدم نسوة البلدة عنده قبره النزور، أملاً في خلفه بعد طول انتظار أو رجاء في زواج بعد سنين يأس، وتُوهم ابنته الأشقياء من صبية البلدة وتخيفهم إن قطعوا زرعاً أو حصبوا نخلاً أو شجراً، تخيفهم بوضع سبع حبات من الترمس في زجاجة ماء عند رأس القبر حيث توهمهم بأن بطونهم سوف تنتفخ مع انتفاخ حبات الترمس وحينما تنفلق حبات الترمس بعد سبعة أيام، تنفلق معها بطونهم، فلا يقربون نخلها وأشياءها، وتنثر الحب فوق قبره فيلتقطه الطير، وتملأ إنا الفخار الموضوع عند رأسه بالماء فيشرب منه الوحوش والطير فينال ثواباً عظيماً... الرواية ص 18)

   إن علاقة الرواية بالموروث الثقافي ناتجة عن ثراء الموروثات النوبية وتوظيفها أعطى الرواية بُعداً جمالياً فنياً أزال هيمنة الراوي المقرد، كثف الموروث الثقافي تعدد الرواة الكل في النص حكاء منطلقاً من خلفيته الثقافية ومندمجاً مع نسيج مجتمعات سودانية أخرى ذات ثراء ثقافي أوسع.

 

 

 

استنتاجات ختامية:-

  1. استندت الرواية إلى الريف السوداني النوبي وشرحت قضايا إنسانه بحكم أنها رواية نوبية سياقاً ومعنى.
  2. أسست الرواية سياق ثقافي عام للمجتمعات النوبية وأبرزت عبر سياق الموروثات الثقافية قضايا معرفية عالجتها ضمن محتويات سردية ذات دلالة ومغزى.
  3. تناولت الرواية الرق في المجتمعات السودانية وكيفية الانعتاق منه والانصهار في المجتمع الجديد.
  4. جسدت الرواية صراعات العمد حول السلطة في مجتمعات سودانية ضاربة بجذورها في القدم. كما وظفت التاريخ السياسي الحافل بالصراعات الدامية في القرن التاسع عشر.
  5. صورت الرواية قصة تهجير اهالي حلفا في مشاهد درامية بالغة الآسى.
  6. ساعد انفتاح الرواية على موضوعات ثقافية تكثيف عدد الرواة حيث الكل حكاء له جذوره الثقافية وانتمائه مع ثقافة المجتمع النوبي.

إحالات مرجعية

  1. حسن دفع الله، هجرة النوبيين (قصة تهجير أهالي حلفا)، ترجمة/ عبد الله حميدة، دار مصحف أفريقيا، 2000م، ص11.
  2. نفسه، ص71.
  3. عفاف سليم علي/ عادات وطقوس الزواج عند الحلفاويين: دراسة مقارنة بين وادي حلفا قبل التهجير وحلفا الجديدة)، جامعة الخرطوم، معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية- قسم الفلكلور(دراسة ماجستير غير منشورة)، ص 21.
  4. محمد المهدي بشرى/ الرواية السودانية في 60 عاماً، الخرطوم، مطبعة جامعة الخرطوم للنشر، 2015م، ص 128.
  5. بدر الدين الهاشمي(ترجمة، تحرير)/ الرق في تاريخ السودان بأقلام غربية، الخرطوم، باركود للنشر والتوزيع والترجمة، 2020م، ص 129.
  6. عمر طه/ رواية الكروان لا يغرد أبداً، الخرطوم، دار 7-مدارك للنشر، 2017.

*قدمت هذه الورقة بتاريخ 23/اكتوبر. ويقول الناقد أبوطالب محمد  عبدالمطلب، أنه لم يتعرف على شخص الكاتب وإنما تعامل مع النص الروائى وحاول التعرف على هذا الكاتب المتميز ولكن شاءت إرادة المولى عزو وجل أن ينتقل الروائي عمر طه إلى رحمة الله.له الرحمة والمغفرة. -

 

 

[1] - حسن دفع الله،/ عبد الله حميدة (مترجم) هجرة النوبيين (قصة تهجير أهالي حلفا)، الخرطوم، دار مصحف إفريقيا، 2003م، ص 71.

[2] - نفسه، ص71.

[3] - عفاف سليم علي، عادات وطقوس الزواج عند الحلفاويين: دراسة مقارنة بين وادي حلفا قبل التهجير وحلفا الجديدة، جامعة الخرطوم، معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية- قسم الفلكلور(دراسة ماجستير غير منشورة)، ص 21.

[4] - محمد عوض علي، بلاد النوبة أرض الحضارات، الخرطوم، مطابع العملة السودانية، 2018م، ص 101.

[5]- محمد المهدي بشرى، الرواية السودانية في 60 عاماً، الخرطوم، دار جامعة الخرطوم للنشر ، 2015م، ص 128.

[6]- هيزر جي شاركي، عبيد السودان السابقين: دراسة عن (عرس الزين) للطيب صالح، منشورة ضمن مقالات كتاب تاريخ الرق في السودان بأقلام غربية ترجمة وتحرير/ بدر الدين الهاشمي، باركود للنشر والتوزيع والترجمة، ص 129.

[7]- الغريب الحكيم تزخر الثقافات الإفريقية بالعديد من الإشارات لظاهرة الغريب الحكيم في آدابنا الشعبية وقل أن يخلو تاريخ معظم الجماعات الإفريقية من الحديث عن الحكيم الذي يظهر فجأة في مرحلة من مراحل تاريخها وسرعان ما يصبح واحداً من هذه الجماعات ويكون ظهوره عاملاً مؤثراً في تغيير واقع الجماعة وتطورها(محمد المهدي بشرى).