محمد الأمين.. وقار المغني د.أسامة خليل
محمد الأمين.. وقار المغني
د.أسامة خليل
أحدث انتقاله صدمة عميقة في أوساط السودانيين على اختلاف مشاربهم باعتباره آخر حلقات التواصل مع الغناء الأصيل في وقاره الاجتماعي وملامحه السودانية.
خرج الموسيقار محمد الأمين حمدالنيل إلى الدنيا ممثلا معتمدا للغناء السوداني في المحافل العالمية من عاصمة الثقافة والفكر والجمال ودمدني التي دفعت بكثير من المبدعين في مجالات الفكر والفن والسياسة إلي المشهد السوداني، فقد عرفت بعلو كعبها في السياسة باعتبارها المنصة التأسيسية لمؤتمر الخريجين، وفيها مدرسة حنتوب التي مثلت المنطلق والمقياس للمبرزين والنابغين وقتذاك، وقيادات البلاد في مجالات الحياة المختلفة.
استطاع الموسيقار محمد الامين أن يرتقي بفن الغناء السوداني كإحدى ممسكات النسيج الاجتماعي من خلال المفردة المنتقاة بعناية لتعبر عن وجدان الشعب السوداني وهمومه وقضاياه وتطلعاته من خلال الثنائية الخلاقة مع فضل الله محمد كشريك أصيل باعتبار المنابع الأولى التي كانت حاضرة في ثقافته الغنائية انتماء إلى ود مدني التي عرفت بوسطيتها الجامعة لأهل السودان، حيث ظهر الفنان ود الأمين بشكل لافت في المناسبات الكبرى للشعب السوداني حينما تغنى لفضل الله محمد بنشيد أكتوبر واحد وعشرين بعد شهر من اندلاع الثورة المجيدة، ليقدم أوراق إعتماده سفيرا للأغنية الوطنية لقادة الحركة الوطنية الزعيم إسماعيل الأزهري و الأستاذ محمد أحمد المحجوب اللذين كانا حضورا في أوبريت الملحمة «قصة ثورة» عام 1966م، وهي الأغنية التي قدمت أيضا هاشم صديق شاعرا للوطن بمشاركة الكورال العظيم خليل إسماعيل وأم بلينة السنوسي وعدد من المطربين ، من هنا كانت الانطلاقة الحقيقية في مجال الشعر الوطني تسجيلا لأيام السودان الخالدة في ذاكرة الأمة فغنى المتاريس للدكتور مبارك حسن خليفة ومساجينك عصافيرا تغرد في زنازينك، والسودان الوطن الواحد لشاعر الشعب محجوب شريف.
لم يكتف في تعاونه مع هاشم صديق في قصةثورة فحسب، بل قدم له حروف اسمك وهمس الشوق وكلام للحلوة.
استمر التعاون والثنائية مع فضل الله محمد في الجريدة وأربعة سنين وحياة إبتسامتك والحب والظروف والموعد وزاد الشجون وقلنا ما ممكن تسافر.
ظل يبحث عن مسارات جديدة وسياقات مختلفة عند شعراءآخرين مثل: اسحق الحلنقي في غربة وشوق ووعد النوار وبتتعلم من الأيام، ومحمد علي جبارة في بعد الشر عليك، ودكتور مبارك بشير في عويناتك، ووقفته في مرابع صباه مع شاعر الأغنية الوطنية خليل فرح في قصيدته الأسيرة لأهلها «ود مدني»، ومن ثم اتجه إلى عمر محمود خالد في حلم الأماسي وخمس سنين، وأسمر جميل فتان للشاعر الراحل خليفة الصادق، إضافة إلى شعراء آخرين قدموا خلاصة تجاربهم الإبداعية من خلال النص الشعري.
فسر النفسية السودانية غناء في أفراحها وأحزانها متحدثا عن مواسم العودة والاغتراب عن الأوطان: رجع البلد بعد السنين المرة يا دوب سهرن هجر. كما عبر عن لحظات الوداع حين يلامس الأفتراق أشجان المتلقي في رائعته قلنا ما ممكن تسافر. وعفوية العشق خلف أستار الواقع فتأتي على استحياء: بتتعلم من الأيام.. مصيرك بكره تتعلم.. وتعرف كيف يكون الريد.. وليه الناس بتتألم.. وتتعلم، وهي الأغنية التي فازت بجائزة الإذاعة السودانية في أحد مواسمها.
يدهشك بملكاته اللحنية حينما يتحول حديثنا اليومي إلى أغنيات خالدة: قالوا متألم شوية.. ياخي بعد الشر عليك. وحوارات العشق الشفيف في «الجريدة»، وحروف اسمك.. جمال الفال وراحة بال.. وهجعة زول بعد ترحال.. و«تنية» حلوة للشبال.
تميز الموسيقار ودالأمين بمقدرات لحنية كبيرة-أيضا- في الغناء التراثي فقدم عيال أب جويلي وبدور القلعة إلى جانب الغناء الوطني والعاطفي.
لامست موهبته الغنائية أذن المستمع العربي في تقولين الهوى لنزار قباني وناعم العود الأغنية التي أطربت الحضور على مسارح الخليج العربي. حيث أصقل موهبته الفطرية بالدراسة، الاكاديمية، وتعامل باحترافية مع فن الغناء، فأضاف الكثير في التأليف الموسيقى وجدد في السلم الخماسي. كما استعان بخريجي معهد الموسيقى والمسرح من عازفين وملحنين. كما أبرز مقدرات وتميز في العزف على العود. ويعد صاحب أجمل مقدمة موسيقيّة في رائعته «زاد الشجون» في رأي بعض النقاد، وبما يمتلكه من أدوات إبداعية ومواهب خلاقة قدم نموذجا استثنائية للمبدع السوداني في مشواره الغنائي.
وأبان الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل في بيان نعيه بأنه «أحد صناع الثقافة السودانية بما قدمه من فن استوعب ثقافة وإيقاع أهل السودان مما ساهم في توحيد الوجدان في كل بقاع السودان».
لم تقف همومه اليومية في محطة الغناء وإنما افترع عوالم أخرى جديرة بالتوقف حيث اتصل منذ صباه الباكر بمشايخ الطرق الصوفية، ينهل من معينهم عن التزام ومحبة، متنسكا منهج القوم من خلال انتمائه للطريقة القادرية المكاشفية، مقيما لليالي الذكر والمديح بمنزله.
وقد وصفه الشيخ الفاتح خليفةالشيخ المكاشفي بأنه:«أستاذ الفن الذي ظل متمسكا بالطريقة منذ نعومة أظافره إلى أن توفاه الله مواصلا ومتصلا».
يعرفه أهل شمبات بارتياد مساجدها مؤديا للصلوات والأذكار وقد عرف بصفاء الروح ونقاء القلب.
نعاه رموز السودان في مجالات الحياة المختلفة السياسية والثقافية والفنية والاجتماعية ومشايخ الطرق الصوفية.
وداعا الباشكاتب وفي الخاطر: تبكيك الجوامع الانبنت ضانقيل لقراية العلم وكلمة التهليل.
.