بطاقة هوية
بطاقة هوية لمياء شمت يُحكى أن شابة سنغالية، اقتضت طبيعة عملها الإعلاني التجاري أن تكثر من التسفار، والتنقل عبر القارات، وقد وقفت تلك الشابة غير مرة عند ملاحظة أن كثير من الناس، خارج الجغرافيا الفرانكفونية، غالباً ما يفشلوا في التعرف على بلدها السنغال، عندما يسألونها بفضول ودود: "من أي البلاد انتِ؟!"، وقد يظن بعضهم، في كثير من الأحيان، بأنها تنتمي لأحد الدويلات اللاتينية، أو ربما لواحد من أرخبيلات الكاريبي. وعندما كاد صبر ها أن ينفد، أهداها أحد زملائها حيلة بارعة توفر عليها المشقة.
بطاقة هوية
لمياء شمت
يُحكى أن شابة سنغالية، اقتضت طبيعة عملها الإعلاني التجاري أن تكثر من التسفار، والتنقل عبر القارات، وقد وقفت تلك الشابة غير مرة عند ملاحظة أن كثير من الناس، خارج الجغرافيا الفرانكفونية، غالباً ما يفشلوا في التعرف على بلدها السنغال، عندما يسألونها بفضول ودود: "من أي البلاد انتِ؟!"، وقد يظن بعضهم، في كثير من الأحيان، بأنها تنتمي لأحد الدويلات اللاتينية، أو ربما لواحد من أرخبيلات الكاريبي. وعندما كاد صبر ها أن ينفد، أهداها أحد زملائها حيلة بارعة توفر عليها المشقة.
وهكذا فقد أصبحت تبتسم برواء وخيلاء وهي تقول: "أنا من بلد ليوبلد سيدار سنغور"، ثم تنتظر لتراقب أثر ذلك على السامع، الذي غالباً ما يهش وهو يستحضر مقام سنغور، شاعر الحرية، بينما تتلمظ هي نشوتها الخاصة وهي تنسب نفسها بفخر لذلك الإرث برصيده الإنساني الفخيم، وبذخه السحري والرمزي والفكري والأيقوني.
وفوق ذلك لسنغور برؤيته الجوهرية لواجبه تجاه شعبه: "مهمتي أن أوقظكم على ممكنات المستقبل واحتمالاته الزاخرة"، وله وهو يخرج عن الصمم والعمى الاختياري الفادح للأفكار الجامدة والأحكام المسبقة، ليبسط يده لمزيد من التواصل والتلاقح الإنساني، دون أن يتنكر لزنوجته بطواطمها وينابيعها الأرواحية المعتقة.
وله وهو يُعري عبر شعره أكذوبة النقاء العرقي، ويسخفها ويسخر منها كثيراً، قبل أن يثبت علم الجينات والوراثة خطلها بل واستحالتها. وهكذا تمضي تلك الجميلة لتنسب نفسها لرجل وطن، منحها هوية مختلفة باهرة تتعرف بها عبر العالم.
وجدير بتلك القصة أن تستدعي وجه عميق الإلفة، ونبرة صوت رصينة آسرة، لذلك الطيب الصالح، المحب للحياة دون إفراط، المتصالح مع الموت دون قنوط، إذ يقول والابتسام يضيء ملامحه "إذا وافاني الأجل فعزائي أنني قد عملت بما يكفي، وإذا قُدر لي أن أعيش سنوات أخرى، فأن لدي ما يكفي من العمل".
وبالفعل فقد عمل الرجل ما يكفي ليمنحنا، كما الجميلة السنغالية، هوية نرفع بها هامنا بين العالمين، وهو يموّل وجدانات العالم وفكره بسردياته وأفكاره وسعته وحضوره، لينحت باقتدار أيقونة مشعة لكيان حضاري حقيقي، وليس وجه شائه ملفق يتسلخ ويتساقط كل يوم مزعة مزعة.
يقول الأستاذ طلحة جبريل في هذا المقام "ذلك الرجل الذي جعلنا نقول في جميع أصقاع الدنيا، نحن من بلد الطيب صالح ". وهو عين ما التقطه الجزائري رابح فيلالي وهو يكتب عن لقاءات جمعته مع غير القليل من السودانيين "يقولون بكثير من الاعتزاز، نحن من بلد الطيب صالح ". ويورد القشطيني ذات الملاحظة، والإعجاب والدهشة تفوحان من بين أحرفه، وهو يرثي الطيب صالح "شعب كامل ينسب نفسه بفخر إلى كاتب روائي !
وكما تطابقت أقدار تلك القامات الكبيرة والهامات الفارعة، في حضورها الذي لا يلتهمه عدم، وسيرتها الباذخة التي لا تخدش هالتها الأكاذيب، كادت التواريخ أن تتماثل وتتطابق، ليرحل الطيب صالح في أمسية الثلاثاء السابع عشر من فبراير، ويرتحل محمد وردي في أمسية السبت الثامن عشر من فبراير بفارق ثلاثة أعوام. وكأن القدر يومض بإشاراته لنتدبر سيرة تلك الأرواح الرافلة في نبالتها، الراسخة في أصالتها، وصدق التزامها وسعتها ورحابة أفقها، وإنسانيتها الصافية المقطرة.
فذلك محمد وردي الذي التئمت في أفقه الإبداعي الوسيع، وفي وعيه العميق، وكنفه الإنساني الحفي، هموم الناس وانكساراتهم وأفراحهم وأحلامهم، فعرف كيف يمس دخيلتهم، ويبلسم قرحهم، ويفجر انفعالاتهم ويوقظ أحلامهم ليصبح أيضاً، كما رفيقيه، رجل بقامة وطن نتمذهب حوله وننتمي إليه، ليتماسك يقيننا رغم عصف الإحن والرزايا وكلٌ منا يردد على طريقته:
أنا من بلد الطيب صالح
أنا من بلد محمد وردي