خارج المتاهة / محمد عتيق         لا نجاة إلّا بالشباب

خارج المتاهة / محمد عتيق         لا نجاة إلّا بالشباب

خارج المتاهة / محمد عتيق
        لا نجاة إلّا بالشباب
_______________________________
   يمضي علينا الوقت ، أزماناً بعد أزمان ، وسوداننا يدور حول نفسه ، ولا ينتج عن الدوران طحينٌ كالذي كان عند دوران الدواب حول الساقية أو لدرش الحبوب من السيقان والقناديل .. ولكن ؛ السودان هو الذي يدور أم أبناؤه ؟ .. فإذا انتبهنا إلى أن السودان كيان ، فإن الذين يدورون من أبنائه  ليسوا هم السواد الأعظم الذين تسحقهم الأمية وتُقعد بهم الحوجة والأمراض مطلع كل يوم في الأرياف وأطراف المدن .. الذين يدورون دون جدوى وتدور معهم البلاد هم السياسيين وقيادات الأحزاب منذ فجر الاستقلال وحتى الآن لأنهم هم الطبقة التي تعلقت بها الجماهير قيادةً لها ، وعليها صناعة الاستقرار والتطور والمستقبل ..
   بعض هؤلاء القادة والسياسيين - في حقائق معتقداتهم وأفكارهم - منحازون لذلك الجمهور العريض المسحوق ، انحيازاً نظرياً لآلامهم وآمالهم في غدٍ مشرق وسعيد يستظلُّون فيه بالتعليم والطبابة الجيدتين المجانيتين ، وبالوظائف تفتح أبوابها أمام  التنافس الشريف على طريق بناء بلادهم وتنميتها يوماً بعد يوم .. هي - ببساطة -  تطلعاتهم وأحلامهم التي تَتَدَغدغ بها جَنَبَاتهم منذ حوالي سبعين عاماً ، ولا يهمهم بعد ذلك الآفاق التي تتحدث عنها تلك الايديولوجيات ... 
 البعض الآخر غير ذلك ، وليس مهماً استعراض حقائقهم ولكن هنالك غلالةٌ من المذهبية الدينية تُظَلِّل دعواتهم ، منهم من يُهيم بها متماهياً مع كل دكتاتور وكل مستبدٍّ يحكم .. الأهم هنا هو الإشارة لهذا الدوران الفارغ ، هل قلت أن سوداننا يدور حول نفسه ، أي أنه يقف حائراً في مكانه ؟ ، لا ، أبداً ، لا يدور حول نفسه ماكثاً فقط وإنما منحدراً نحو الأسفل ، وإذا كان الانحدار بطيئاً في الجزء الأول في عهد الاستقلال فإنه أصبح حاداً مندفعاً في السنوات الثلاثين الأخيرة ، عهد الاسلامويين انحدر به بقوة ، أما (الانكشارية) الجديدة من مواليد انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ وغيرها فقد (كَمَّلَتْ الناقصة) ..
    مضت بلادنا في العهد الوطني - بعد الاستقلال- مَرِحَةً تتطلع بثقةٍ للمستقبل، ولكن كان ذلك بقوة دفع النظم والمؤسسات التي أرساها المستعمر البريطاني في الخدمة المدنية والعسكرية ، في المؤسسات التعليمية والعلاجية ، وكافة مؤسسات الدولة الإدارية والتنموية .. والمقصود ب "قوة الدفع" هنا هو أن الأوضاع مضت ولكنها في ضعفٍ جيلاً بعد جيل لأننا لم نضِف شيئاً جديداً على ما تركه المستعمر بل لم نستوعب فيما ورثناه مستجدات الأزمان والنمو السكاني بالبلاد .. إلى أن اطلِّ علينا عصر الدكتاتور الفرد ، المتقلب بِجَنَبَاته بين كافة العقائد "من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين" ، نميري الذي راح يلمس الثوابت ، تلك المؤسسات والنُظُم التي ورثناها من المستعمر وبقت كما هي دون تطويرٍ أو مواكبة ، راح يلمسها سلباً فبدأت في التدهور.. ولنا أن نتخيل جبهةً لم تبدأ الانحدار على يدي امام زمانه جعفر نميري !! ..
       وجاء العهد الغيهب(كما وصفه الراحل الكبير دكتور منصور خالد) ، الثلاثين عاماً التي احتلت نصف عُمر استقلالنا الوطني ، عهد الاسلامويين الذين راحوا كالجراد على مؤسسات الدولة تدميراً ممنهجاً وحيازةً وفساداً ، وكذلك على المجتمع هدماً وتزييفاً في سُنَنِه وقوائمه :
- أخضعوا الوطن للنهب والتقسيم والرهن ، لا زرع ولا ضرع ، إسمه يهرول انحداراً في بورصات النمو والرقي والتقدم ، وفي السمعة والإحترام ، والبؤس يتربع في ربوعه وفي نفوس مواطنيه ..
- أخضعوا الأجيال من أبنائنا لأسوأ صيغ التجهيل والتعليم الفاسد والانحطاط بالاهتمامات ، الفضاء حولهم يمور بالدجل والاستهتار  ، المنابر يسودها المشعوذون والعاطلون عن المواهب ..
- نساء الوطن (أخواتنا وبناتنا) يتربص بهن الهوس ليل نهار جلْداً واذلالاً وكسر خواطر باسم الدين وشرائعه وآدابه  ..

    ودون أن  نخوض في البؤس الذي تربَّعَ على الوطن وفي نفوس المواطنين ، جاء عهد الذين دخلوا ليلاً إلى أبواب ثورة شباب السودان في ديسمبر ٢٠١٨ ، تسلَّلُوا إليها ، ادَّعوا أنهم الذين أسقطوا رأس النظام ، وأنهم ، وأنهم ، وجلسوا متربعين على نفس عرش النظام الساقط ، مستندين على قواه وقدراته الظاهرة والخفية(العسكرية والمدنية) وعلى نفس طريقته في الكذب والاستبداد ..

  تلك هي - بإختصارٍ شديد - أوضاع بلادنا التي اشتدت أوتار التربُّص بها اقتصاداً وتاريخاً وجغرافية ، ومع هذا الاشتداد في الهجمة والتضخُّم في المخاطر تزداد أحزابنا تباعداً وانقساماً .. لا يريد هذا المقال الإساءة للقوى السياسية أو التشهير بها ، فهي أداة الإصلاح والثورة وقيادة الشعب نحو الدولة المدنية الديمقراطية ، دولة الرعاية الاجتماعية والرفاه الإنساني ، ولذلك لا نريد لها الندم وعض الأصابع غداً على هذا التفريط الذي تمارسه ظَنَّاً وتعنُّتَاً ، انانيَّةً ووهماً : تتحدث الأحزاب - كتلاً وافراداً - عن ضرورة وحدة قوى الثورة ، وأننا نعمل على توسيع قاعدتها ، وأنه لا حصانة لمجرمٍ في حق الشعب والوطن ، ولا تفريط في مكتسبات الثورة، وأنه ، وأنه ، وهي عملياً تفعل العكس ...
قياداتنا الحزبية فشلت في قيادة الثورة وإدارة همومها، سمحت لمخَلَّفات النظام الساقط أن تتسيَّد المشهد وتشرع في إعادته بشعارات ومفاهيم جديدة تستعبد بها شعبنا مرةً أخرى ، سقطت في إمتحان الإرتقاء لهموم الشارع ومستوى التضحيات المُبهرة التي يقدمها الشباب كل يوم بتدافعٍ منقطع النظير وبمحبة لم يسمع بها الناس إلا في قصص الحب الكلاسيكية ودفاتر الشعر الرومانسي ، ولذلك لا مفر من صعود الشباب واحتلالهم المناصب القيادية في الأحزاب : هم أصحاب المشروع الوطني ، صدورهم مفتوحة لبعضهم كما هي مفتوحة أمام الرصاص والقنابل اليوم ، هم أصحاب الحاضر والمستقبل .. 
                   06.11.2022