خارج المتاهة / محمد عتيق  في حياتنا الوطنية ؛         بين الطارئ والأصيل 

خارج المتاهة / محمد عتيق  في حياتنا الوطنية ؛         بين الطارئ والأصيل 

خارج المتاهة / محمد عتيق
 في حياتنا الوطنية ؛
        بين الطارئ والأصيل 
————————————
     أصالة هذه الثورة - ثورة ديسمبر ٢٠١٨ - جِذريَّتها ، شموليتها ، وأنها جاءت لتبقى وتنتصر ولتُؤَسِّسَ حياةً عصريةً لائقةً بالسودان وأجياله الجديدة .. هذه الأصالة تجلّت في أنها أنتجت أدواتها (تجمع المهنيين ولجان المقاومة) ، وأنها ستظل تعمل على تصحيح مساراتها وتقويم منعرجاتها ..
ماذا نعني بذلك ؟ ولماذا الآن ؟
                  (١)
   الاحزاب السودانية ، جميعها ، ساهمت في تأسيس أداة الثورة الأولى (تجمع المهنيين السودانيين) عبر كوادرها وناشطيها وأصدقائهم في المهن المختلفة .. هذه الأحزاب - ورغم ما يمكن أن يُقال عنها نقداً في جوانب مختلفة - رغم ذلك ، قادت نضال الشعب السوداني ضد الدكتاتورية الإسلاموية ، واجهت قسوتها بسالةً في معتقلاتها وبيوت أشباحها ، وصموداً أمام القتل والتشريد ، بمختلف الوسائل .. وفي أكثر مراحل ضعفها وتشتُّتها في أكثر من كتلة (نداء السودان والإجماع الوطني) مثلاً ، ظلّت بوصلتُها مُتّقِدةً تُنيرُ دروب مناضليها فتقدّمت الكوادر من كل الأحزاب لتُنسِّق نشاطها وأسست تجمع المهنيين .. وتلك الأحزاب وكياناتها - خاصةً نداء السودان - هي التي أوعزت له (لتجمع المهنيين) أن تكون مذكرته للسلطة الدكتاتورية في ٢٥ ديسمبر ٢٠١٨ مذكرةً سياسيةً تُطالب برحيل النظام (ثقاباً يُشعل به الحركة الجماهيرية ويستنهضها) بدلاً عن الصيغة النقابية المطلبية التي كان ينتويها .. وتلك الأحزاب ، عبر كوادرها المعينة ، هي التي سلّمت تجمع المهنيين قياد الثورة ، كجسمٍ خفيٍّ تُثير به أشواق الشعب السوداني للحريات وأشجانه لحكم القانون ، نحو ذلك الخروج المهيب الذي بدأ في ١٩ ديسمبر ٢٠١٨ ولم يتوقف بعد (ليكون ذلك التجمع أداةً لتفجير الثورة) ، وعند إنتصارها وسقوط الطاغية ، كان على مناضلي التجمع أن يلتفتوا لواجب المرحلة الجديدة : عقد الجمعيات العمومية للمهن المختلفة وتنظيم ورش العمل للبحث عن/والإتفاق على الصيغ والقوانين المناسبة لإعادة تأسيس التنظيمات والاتحادات النقابية على أسس وطنية ديمقراطية لتنهض قويةً متحدةً وجناحاً أساسياً من أجنحة النضال الوطني في مرحلة البناء …إلى آخره ، لا أن يبقى جسماً سياسياً وحزباً إضافياً ضمن الأجسام والأحزاب القائمة ، فأصبح ساحةً للصراع الحزبي ليتصدّع وينقسم بالنتيجة "بغض النظر عن الدوافع والمبررات التي يتقدّم بها كل طرف ..
                 (٢)
  كان البديل لتجمع المهنيين (عند خفوت نجمه وصيته) قد تشكّلَ في أحشاء الثورة جيلاً ناهضاً من أمهِدَةِ التيه واليأس التي زَجَّهُ فيها نظام الفساد الساقط عندما أغلق آفاق المستقبل والرؤية المستقيمة أمامه ، فكانت "لجان المقاومة" في كل أحياء العاصمة والمدن وفرقان الأقاليم ، تعبيراً عن تصميم الجيل الجديد على التقدم بالثورة إلى أهدافها النهائية في الحرية والسلام والعدالة ولينتزع حقه في الحياة السوية .. فالمجد للأجيال الجديدة وللجان المقاومة وهي تتقدم الصفوف وتبادر بطرح صيغ ومواثيق كمقترحات للعمل  المشترك مع كافة قوى الثورة واستثمار تلك التضحيات الجريئة الضخمة بتوظيفها عل طريق التحول المدني الديمقراطي الشامل واستعادة زمام الثورة … ولكن ؛ أن تتبنَّى بعض تلك المواثيق المقترحة شروط أحزاب معينة وخطوط عملها ، فإنه يثير نفس الغيرة ونفس التنافس الذي حدث في تجمع المهنيين … صحيحٌ أنَّ لجان المقاومة أيضاً تضم كوادر حزبية وسياسية بين صفوفها ، وذلك حقٌّ أصيلٌ بلا شك ، غير أنّ الأجدر بتلك الكوادر الحزبية أن تمارس نشاطها داخل لجان المقاومة بشيءٍ من الاستقلالية ، بمزيجٍ  من الالتزام بالخط الديمقراطي العام لِلِّجان مع الاهتداء بالخط الحزبي المعيَّن ، ألَّا يكونوا (أحصنةَ طروادة) للأحزاب ونفوذها داخل لجان المقاومة ؛ مهما كانت المعزَّة الحزبية قويّة - أن يتميّزوا بالاقتدار على القيادة دون عصبيات حزبية شبيهة بتلك النعرات القبلية والجهوية التي تعمل على إشعالها مليشيات الجنجويد وقائدها !! وإن كانت بلغةٍ حديثة ؛ من الذي يوافق على تقسيم وتفتيت لجان المقاومة إلى : هذه تابعة للمؤتمر السوداني ، تلك للبعث وتلك للشيوعي …الخ مثلاً ؟ ، بل أصبح الركود والضعف (نتيجة تلك الصراعات الكئيبة) مدعاةً إلى أن ينشط أتباع النظام الساقط في بعض مناطق العاصمة "الصحافة" ويبرزوا كمسؤولين في لجان المقاومة !!
                (٣)
  مع ذلك لا بأس ، لا حَدَّ للتفاؤل بقدرة قوى الثورة ، أحزابها وتنظيماتها ، على تصحيح المسار ، فكل ذلك مفهوم في إطار أن الأحزاب ، رغم أدوارها وأدوار كوادرها ، إلّا أنها نَبْتُ هذا الواقع المتخلف ، فتشبَّعَت بقيمه النَزّاعة " للأنا " وللاصطراع السلبي الناتج عن ذلك ، فسَمَّمَتْ الحياة الوطنية بسلسلةٍ من الانقلابات العسكرية التي لم تُتِحْ للعمل الحزبي أن يتطور في أوضاعٍ  ديمقراطية ويتصارع أطرافه حول أهداف إيجابية في البناء وتنفيذ مشروعات في التطور والارتقاء على أُسسٍ من التفاهم والأخوة الوطنية .. بدلاً عن ذلك النوع من الأهداف والعلاقات في ظل الوضع الديمقراطي ، أصبح الهدف الوطني الأول أمام الأحزاب هو النضال ضد النظام العسكري الدكتاتوري وإسقاطه ، فأدْمَنَ مناضلوها حياة المعتقلات والاختفاء وتقديم التضحيات ، لتصبح مثل هذه الحياة معياراً لقياس وطنيةَ الشخص وثوابته .. طال بنا العهد على ذلك ، هي حياةٌ من صُنْعِنا تماماً ولكننا أيضاً قادرون على تطوير حياتنا الوطنية وإثرائها ، كما الطارئ والأصيل ..
 27.03.2022