أناشيد الأسئلة.... صوت الغريد. *عامر محمد احمد حسين

أناشيد الأسئلة.... صوت الغريد.  *عامر محمد احمد حسين

أناشيد الأسئلة.... صوت الغريد. 
*عامر محمد احمد حسين.
أن تقترب من شعر محمد نجيب محمد علي، فأنت تقترب من شاعر مسكون بالجمال والأسئلة،عن غريد يرسم لوحة فيلسوف يتغنى بجمال الطبيعة والإنسان.مهموم بالثقافة والمعرفة، درس الفلسفة وعمل بالصحافة..ديوان (أناشيد الأسئلة) فاز بالمركز الثالث جائزة الطيب صالح العالمية للابداع الكتابي الدورة الحادية عشرة. لم يخرج الديوان من طرائق الشعر التي يجيدها الشاعر وعرف بها وهو يدوزن شعره بوزن التفعيلة، ولايحبذ غيره وإن عرف عنه محبة للنثر في سرد الحكايات .يفتح الأسئلة الديوان حتى يصل إلى أناشيدها، يفتح أسئلة الوجود في محبة وعشق للجمال. في تطلعه إلى تلك العوالم  ينتبه دائما إلى روح صوفية لها باطن لانراه في ظاهر اللغة لكنه في خطاب النفس والروح تجده(هل من أحد ينظرني غيري-لاشئ سواي، ظلي يختبئ بأضلاعي)..
الأناشيد..
تتشكل لوحتها من رؤية ،ترتقي بالشعر إلى أعلى ذراه، في صوته الخاص، وخطابه ورمزيته العالية ،في تبعثره ضد كل ما يقف أمام انطلاقه الي آخر مرآة تنعكس فيها صورة أنثى جميلة وطبيعة ونفس متمردة ضد كل مايمت للسكون بصلة أو قرب أو إبعاد..هو الشعر في تمرد صاحبه وهو السؤال في أناشيد المحال..يفتتح الشاعر بقصيدة تحمل عنوان الديوان (أناشيد الأسئلة)  وهذه شجاعة كاتب يعرف بأن مايقدمه سيجد المتابعة، ثقة بالنفس والقارئ.
"ابحث عن معنى المعنى
عن شئ يتأطر في صدف اللغة
وصوت الكلمات-
عن زوبعة صافية كالماء
الليلة لم تغمض عيناي
كنت غريبا عنها وقريبا مني
كنت أرى شكل ضباب الصمت
افتعل مشاجرة ضدي
كي أشكو لي"
نتأول سؤال بحثه عن معنى للمعنى، إذ الغياب معنى، والحضور معنى والحضور في غياب المعنى، غياب وهذا الطريق يطول ولايقصر مثل سؤال المتنبىء (أطويل طريقنا أم يطول) والبحث هناك عن (زوبعة صافية  كالماء)
-زوبعة-صفاء-ماء.. التقاء مستحيل الصفاء بالزوبعة حيث أعاصير الحياة وفوضى الأيام..تغيب عن الجفون راحة النوم ويهدهدها صوت البعيد عن الهدوء والسكينة"ماذا ياهذا يزحف في قلبي ويزاحمني
في غربة روحي
يجعلني وحدي أهرب مني
أقفز من نافذة الأيام 
هل من أحد ينظرني غيري"
تمثل القصيدة عند محمد نجيب ،حياة كاملة بكل فصولها وتفاصيلها، بانكساراتها وابتساماتها، وصوت الشعر دائما حر ويبحث عن  حريته، يرفض كل القيود بلا استثناء ،ويبلغ التوتر أقصى نقطة ثم يعود إلى مناجاة النفس وأسئلة الوجود.وتزدحم الصورفي مخاطبته للنفس-يزحف في قلبي ويزاحمني--غربة روحي --يجعلني وحدي--أهرب مني--أقفز من الأيام--هل من أحد ينظرني غيري"
"لاشئ يراني!
لاشئ سواي
ظلي يختبئ بأضلاعي
يتسكع في أوردتي ويصافحني
يبحث عن زاوية خالية في قلبي لينام
ياظلي"
تنتهي المناجاة باداة النداء(ياظلي).وهو ظل يختبئ بين الضلوع ،يتسكع في الأوردة، يصافح الشاعر ويبحث بين الضلوع عن زاوية خالية من (الهموم) كي ينام..تتحول كل أجزاء الجسد الي جسد يعاني من الهموم وروح شفيفة تختبئ لتحصي كل حركة لهذه الأرواح المتسابقة نحو التعب وهي تبحث عن ظل يقيها من شمس تحيط بها من كل جانب "كن أنثى ..واحمل عني وزرك إني مفتون
وأخرج وأبحث عن من يحتاج لظل
فأنا ابن سواد الليل الاسود
امرأتي لاتعرفني وأنا ايضا"
الأسئلة..
تبدا اسئلة الاناشيد" من قلب العاصفة - ومفتتح السؤال-أين أمي؟ كل الخوف يرعبني ،وتسرقني يدي ،كنت انظرها صباح القلب في ليلات حزني، كنت ألبس صرختي الأولى وميلاد غنائي" وسؤال الأين ،باحساس الفقد وغياب الأم للشاعر وعودة الحنين إلى الحنان الأول (انظرها صباح القلب في ليلات حزني-كنت ألبس صرختي الأولى..(كنت أخلو بنداء الشمس في سقف الليالي ،وأنادي طفلة العرس
التي ترقص في بيت المنام
أين أنت؟
أين أمي؟
جائعا كالفيل أعدو
في متاهات الصحارى"
يزداد الغياب وطفلة العرس ترقص في بيت المنام. والشاعر يخلو في سقف الليالي بنداءات الشمس ،حيث البراءة واللهو  وحنان الأم الغائب ولاملاذ بعد اللهو تحت الشمس الإ متاهات الصحاري--"جائعا كالأرنب البري في غسق الظلام-كبنات الجن في فجر الرماد-كإنفجار يشعل الفتنة مابين الضحايا
والقصائد خيبتي في خانة الموت البطئ
هل كنت غيري ؟ لا
وأمي خبأتني في ظلال شلوخها
وتزملت بفجيعتي"


لاتوجد اليوم -إلا في ماندر- قصائد تخاطب الأم في غياب إلا في رثاء قد يتفوق دمعه على حرفه،إلا أن محمد نجيب في هذه القصيدة، يعيد الأم إلى حاضره، وجراحاته، ويرسم ملامح وجهها وروحها وشفافية وجده بغيابها، وهي في لجة الغياب تستمع له وتهدهده وتعيده الي حضنها الدافئ.ويفقد الشعر كثيرا في عصرنا هذه  دفء الحروف،ويتحول إلى صناعة آلية لصور باهتة متكررة بلاروح .وفي قصيدته (برتقالة الصباح)..يعيد الشاعر نجيب ،رسم صورة الحبيبة -"أعود مثقلا بها--بكل ظل بسمة أنخت خاطري لها
وكل نظرة غرقت في بهائها
وقلت ياروعتي بحبها
جميلة صبية الكلام
ودودة كطائر يهيم في معارج الغمام
كموجة ترنحت على شواطئ السفر
كقبلة تعانق المطر"
سؤال التغيير..
يقول الشاعر والناقد المغربي الدكتور محمد بنيس في كتابه (حداثة السؤال-بخصوص الحداثة العربية في الشعر
والثقافة "أن نغير مسار الشعر معناه أن نبنين النص وفق قوانين تخرج على مانسج النص المعاصر من سقوط وانتظار أن نؤالف بين التأسيس والمواجهة تم الارتباط بالتأمل والممارسة، بداخل النص وخارجه، بالذات والواقع . كل هذه الثنائيات انحلت على وحدتها الجدلية الباطنية، تمازجت فيما بينها كل طرف يضئ الآخر ويشعله،ينقله من اليقين الي القلق ومن الرضى الي السؤال، ولم يكن بين الدواخل والاحتراق حجاب، كيف نغير؟ من أين يبدأ التغيير وإلى أين يفضي؟ أسئلة أولية وبسيطة تخنق ترمي بالسائل والسؤال إلى مسافات بعيدة عن التآلف مع النمطية.بقي اختيار وحيد:الحقيقة أو الخيانة،الأستمرار أو النكوص،التغيير أو التزييف،كان القرار، فكانت الكتابة، كانت المغامرة.لابداية ولانهاية للمغامرة،هذه القاعدة الأولى لكل نص يؤسس ويواجه.لابداية ولانهاية الكتابة نفي لكل سلطة، وبهذا المعنى لايبدأ النص لينتهي، ولكنه ينتهي ليبدأ، ومن ثم يتجلى النص فعلا خلاقا دائم البحث عن سؤاله". وديوان أناشيد الأسئلة ،نصوص تؤسس وتواجه ،في كل عناوينها، وتقول لنا-إذا جاءت"عزفت على وتر الطريق بلحنها ،فتراجع الظل عن الأضواء" وإذا كان (ظل القصيدة) "ماذا يكون الموت 
إن لم ينهض الأحياء
في هذا الزمان الفج
من بين الركام
ماذا يكون
وكل قافية تطارد صوتها
وتغيب مابين الغزال
وبين أودية الحمام
هذا هديل القلب
أو هذا أنا".ويحدثنا الديوان عن"بعض ماحدث--مهرجان--وعن (رسالة شخصية--أن تصبح رأسك أثقل منك /من ذا يحملها عنك/لا أحد سواك/هذا العالم أشعث أعمى/ليس يراك" وفي اناشيد الأسئلة -بكاء منفرد--و....متاهة..ومرافعة..و الأحذية "أشتهى القصر -أن أدخل القصر .
من غير أن أرتدي للحذاء
من غير أن يوقفوني على بابه
ثم يفعل من يشتهي مايشاء
أشتهي ان أرى كل سكان وطني
وأقدامهم عارية
ليس من قدم يحتفي في بلادي بالأحذية
سيقولون عنا
بأنا
مجانين
كل العوالم سوف تقول بهذا
والمجانين في الأرض 
يا إخوتي عقلاء"
كانت النقطتان المرجعيتان في الأسئلة والأناشيد ،وتنطوي كل نقطة على رؤية ذاتية وفلسفية مختلفة، فالأسئلة ترتبط عند الشاعر بواقع يعيشه ويعايشه،والنشيد توصيف وسجال لغياب أجوبة لايستطيعها الشعر. والشاعر( محمد نجيب محمد علي) دائما في كتاباته على مدى تجربته الشعرية والإنسانية ،يكتسب ميلا متأصلا للبحث عن الفرادة وقوة الأنا لمغالبة مايراه من قيود..