الدكتور الناقد السوداني هاشم ميرغني 

الدكتور الناقد السوداني هاشم ميرغني  _ المبدعون السودانيون في الخارج حققوا اختراقات مهمة في الجدار السميك للمركزية العربية. -النقد يمثل العين الرقيبة ، الصارمة ، القاسية التي تدفع الأدباء إلى التجويد. -المشهد الإبداعي السوداني بمختلف تجلياته في أفضل حالاته الآن. يعد الدكتور الناقد والأستاذ الجامعي هاشم ميرغني أحد النقاد المميزين في السودان ، وهو حاصل علي درجة الدكتوراة في الفلسفة في اللغة العربية من جامعة الخرطوم عام 2002 م وله العديد من الأوراق العلمية

الدكتور الناقد السوداني هاشم ميرغني 

الدكتور الناقد السوداني هاشم ميرغني 


_ المبدعون السودانيون في الخارج حققوا اختراقات مهمة في الجدار السميك للمركزية العربية.

-النقد يمثل العين الرقيبة ، الصارمة ، القاسية التي تدفع الأدباء إلى التجويد.

-المشهد الإبداعي السوداني بمختلف تجلياته في أفضل حالاته الآن.
 

 

 

 


يعد الدكتور الناقد والأستاذ الجامعي هاشم ميرغني أحد النقاد المميزين في السودان ، وهو حاصل علي درجة الدكتوراة في الفلسفة في اللغة العربية من جامعة الخرطوم عام 2002 م وله العديد من الأوراق العلمية والمساهمات العلمية والنقدية في مؤتمرات مختصة بالقصة والرواية كما له آراء جريئة حول ما يدور في الساحة الثقافية والنقدية وصلت إلي حد المساجلات مع نقاد حول دور النقد في الحياة الثقافية السودانية ، وقد أصدر مجموعة من الكتب منها " بنية الخطاب السردي في القصة القصيرة" و" القصة والرواية والمسرحية" إلتقيته وكانت هذه الحصيلة.
 
حوار -  محمد نجيب محمد علي 

(*) رغم اغتراب الكثير من المبدعين السودانيين إلا أنَّ الصوت السوداني لا زال خافتا ؟ 
بالعكس.استطاع المبدعون السودانيون في الخارج تحقيق اختراقات مهمة في الجدار السميك للمركزية العربية المدججة بإعلامها الكثيف.
 وقد بدأ هذا الجدار بالتخلخل بفضل التقنية ،والفضاء السبراني المفتوح ، وتعدد منافذ النشر، ووجود عدد من الجوائز العربية المحترمة لاسيما في مجال الرواية والشعر،واشتعال حراك الترجمة كما هو الحال في مجلة مثل "بانيبال" الفصلية التي تصدر في لندن والمتخصصة في نشر ترجمات إنجليزية للأدب العربي فقد أصدرت ملفًا خاصًا عن الأدب السوداني نشر على جزءين في العددين الخامس والخمسين، والسادس والخمسين وضمَّا نماذج عديدة لأبرز الكتاب السودانيين.  وبشكل عام يمكن القول إنَّ المركزية العربية التي لم تكن تستطيع التعامل بذاكرتها المحدودة سوى مع اسم أو اسمين من "الهامش"ـــ والذي لم يعُدْ هامشا على أيِّ حال بعد أن زحزحت قوانين الكتابة الحدود بين الهامش والمتن ـــــ اضطرت الآن للتعامل مع أكثر من اسم :طارق الطيب، ليلى أبو العلا، عبد العزيز بركة ساكن، علي الرفاعي ، منصور الصويم ،حمور زيادة، أحمد الملك، أمير تاج السر، حامد الناظر، عماد البليك...إلخ إلخ،ولكنها لم تستطع التعامل حتى الآن مع ظاهرة الإبداع السوداني كَكُلٍّ لتعي فتوحاته الكبيرة وتحولاته سيَّما منذ عقد التسعينيات الخصيب الذي شهد انفجارا سرديا كبيرا في المشهد الأدبي السوداني.

 

 

 


الإشكال الآن أنَّ المركز العربي لازال يصر أحيانا على التركيز على اسم أو اسمين كما هو الحال في الماضي عندما توقف عند اسمي الطيب صالح والفيتوري ورفضت ذاكرته استيعاب المزيد من الأسماء. الموضة الآن في المراكز العربية هي اسم أمير تاج السر الذي لايمثِّل في رأي الكثيرين أعلى الأصوات السردية السودانية ولا أكثرها تفردا .ورغم الهالة الإعلامية البراقة  التي صنعها ، وحصده لعدد من الجوائز العربية إلا أنه لازال يُنظر إليه في الداخل كروائي متوسط القيمة.
(*) الجيل الحداثي الأول في الثمانينيات يشكل الآن غيابا عن المشهد النقدي السوداني .. لماذا ؟ 
لسبب طبيعي : إذا استثتنينا بعض رموزه فإن ذلك الجيل أمسك الحداثة من "ضنبها" كما يقول التعبير الدارج ، بمعنى أنه لم يتلقَّ فتوحات الحداثة من مصادرها الأصلية بل من فتات الترجمات المرتبكة وما تيسَّرَ من مجلة "فصول".وبسبب هذا الفقر المعرفي وحزمة من الأسباب الأخرى اكتفى خطابهم النقدي  بوظيفة يتيمة:التعمية المبطَّنة بسلطة متعالية ومتعالمة تتلبس أقنعة الحداثة دون أن تقوى قط على اقتناص وهجها. وكما قلت مرة في سياق مشابه فقد أدَّى الاستحضارُ المجاني للمصطلح النقدي ،وعزل المصطلح عن جذرهِ المعرفي ، والتعتيم اللُّغوي القصدي، والانقطاع عن مصادر المعرفة والاستعاضة عن هذه المصادر بفُتات ما تيَّسرَ ، والتقافز بين منهج وآخر ، والخفَّة المعرفية في التعامل مع النصوص والعالم، وتحويل النقد إلى محضِ رياضة ذهنية في تلك الثمانينيات الغاربة ، أدَّى كلُّ ذلك إلى تلك الرُّطانة التي ظهر زيفها جليَّا فيما بعد حينما اعترف بعض أقطابها بأنهم لم يمسكوا سوى بأطياف "البنيوية" ليخرجوا للناس عجلا جسدًا له خوار. في التسعينيات تغيَّر المشهد كثيرا على يد نقاد تسلحوا بعتاد معرفي ثقيل وحبر حساسية مختلفة ، نقاد على شاكلة:د.عبد الماجد الحبوب،د.مصطفى الصاوي ،د.أحمد الصادق ،د.لمياء شمت،محمد جميل،عماد البليك...إلخ إلخ ،"ولكن تلك قصة أخرى".
(*) هنالك قصور واضح في تدريس المناهج النقدية الحديثة في الجامعات السودانية ؟ 
مشكلة الجامعات السودانية أبعد من كونها لا تدرِّس المناهج النقدية الحديثة، فهي لا تدرِّس أساسًا ولكن تلقِّن ؛ وهذه الجامعات ظلت لسنوات  طويلة عاجزة عن تحقيق حزمة من الأمور الجوهرية مثل  التواصل الحي والفاعل مع الراهن الثقافي والأدبي ، وما يموج به من تيارات ورؤى ، وما يعمر به من مواهب ، وما يتخلَّق بخصوبة تربته من نصوص ، كما هي عاجزة عن  تحديث مناهجها الدراسية بما يتلاءم مع التطور الكبير الحادث في حقل الدراسات اللغوية والأدبية والنقدية وتخلُّق علوم جديدة من رحم علوم قديمة لم تعد قادرة على الإضافة والكشف،وتفجُّر نظريات تمتاح من أكثر من حقل معرفي، واستحداث أدوات جديدة للسبر والبحث إلخ إلخ . ويعود هذا العجز لجملة أسباب من بينها:سيطرة مفهوم خاص للغة العربية في الجامعات أنها تعني النحو والصرف والبلاغة وفي صورتها المتحجرة ، وتقديس التراث العربي الذي يجري اجتراره في هذه الأقسام عاما بعد عاما ..وهكذا فرَّخت هذه الأقسام جيلا من "الاجتراريين" العتاة المنعزلين بشكل بائس عن العصر وكشوفاته. أقسام اللغة العربية في الجامعات السودانية تحتاج إلى زلزال كبير يخرجها من مواتها الصامت ويدفع بها إلى الحياة .
 (*) ماذا عن الجوائز المتعددة في السودان والمنطقة العربية عامة ..مامدي مساهمتها في الحراك الثقافي ؟ 
داخليا :أسهمت هذه الجوائز مع غيرها في اندلاع انفجار سردي ونقدي كبير هزَّ المشهد السوداني والعربي برمته،خارجيا: قدمت هذه الجوائز العديد من الأسماء السودانية لصدارة المشهد العربي لعل آخرها الروائي علي الرفاعي الذي فاز قبل أيام بجائزة كتارا للرواية العربية. وقد بنى هذا الروائي المثابر ـــ  الذي يعتكف في قريته البعيدة "قوز قرافي " لإنجاز مشروعه السردي الكبير الذي يتخذ من هذه القرية مركزا لعالمه ـــ بنى عالمه السردي المتماسك لبنةً لبنة ابتداء من "الطاحونة"2001 حتى "جينات عائلة ميرو"2016. وقد نال  الرفاعي استحقاقه النقدي الأول عندما فاز بالجائزة الأولى في الدورة الثانية لجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي التي يرعاها مركز عبد الكريم ميرغني وذلك في أكتوبر 2004 ، وفي حيثيات لجنة تحكيم تلك الجائزة التي تشرفت بأن أكون أحد محكميها برفقة الناقدين مختار عجوبة ومجذوب عيدروس أشارت اللجنة ـــــ فيما أذكر ـــ إلى تمكُّن الرفاعي الحرفي من تقنيات السرد وإدماجها بالمأثور الشعبي، وتفاصيل الواقع اليومي في بناء أقرب ما يكون إلى الكلاسيكية الجديدة New Classism التي تحكمها بنية ذهنية صارمة مصاغة بلغة متقنة يتمُّ تشكيل كل حرف فيها تقريبا . والإشارة إلى اللغة هنا لها أكثر من معنى . الأهم في هذه الجوائز ما يثيره حجرها في مياه المشهد الثقافي من دوائر كبيرة: جذب قراء جدد، الفعاليات النقدية المصاحبة ، الترجمات، تشجيع المخطوطات النائمة هناك بعيدا في وحشة الغياب، وابتعاث المنسي من أسماء الكتابة...إلخ إلخ .  ربما من المهم هنا أن نذكر أنَّ فوز السودانيين بالجوائز الأدبية العربية عريق؛ ففي خمسينيات القرن الماضي أقامت جريدة "النداء" المصرية التي كانت تصدر ملحقًا ثقافيًا شهريًا باسم القصة مسابقة في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي ، وقد اشترك الرائد القصصي الكبير عثمان علي نور في تلك المسابقة، وخاضت قصته"الرئيس الجديد" غمار المنافسة مع ألف قصة تتنافس على جوائزها وحصدت المركز الخامس.
(*) هنالك من يري أن تطبيق المناهج النقدية الحديثة علي الإبداع السوداني فيه كثير من الإخفاق ؟ 
يمثِّلُ شحوب المنهج كعب أخيل الخطاب النقدي السوداني ؛فعلى الرغم من التأسيس المنهجي لهذا الخطاب على يد الرائد الكبير معاوية محمد نور منذ بواكير القرن الماضي إلا أنه سرعان ما تناوشته رياح التقليدية، واللامنهجية ، والمزاجية الآنية ،وأحكام القيمة المجانية في غالبه، وأسهم في ذلك رفع الجامعات يدها عن الخطاب النقدي برمته دعك من مناهجه وقضاياه. تأسيس المنهج في الخطاب النقدي السوداني يحتاج إلى الكثير من العمل الدؤوب المضني، والتواصل الحي مع تيارات النقد العالمية ، والحفر عميقا بتربة الفلسفة وهو ما يسعى كثيرون الآن إلى تأسيسه رغم وعورة الدرب وتشعبه.
(*) الزمن الروائي عالميا في راهنه يعاني من تداخل أجناس الكتابة ،فلماذا تسود الرواية دون غيرها من الأجناس الأدبية ؟
لا أدري ، ربما لأن هذا الجنس الشره ـــ أعني الرواية ــــ لايكف عن التهام الأجناس الأخرى، وربما لاتساعها لخيبات أملنا في هذا العالم الذي لايمكن إصلاحه أبدا ، وربما لأنها تتيح لنا بناء عالم مغاير مواز لجهامة العالم وبلادته بلبنات اللغة والمخيلة والحلم ، وربما لأنها بجدل انشباكها البهيج بتفاصيل العالم تفكك بنى السلطة حجرا حجرا لتفتح وجودنا بأسره على حريته المستحقة وانفساحه اللامحدود..
(*) صدر أخيرا كتاب "ببليوغرافيا الرواية السودانية (1948-2015) للناقد والقاص نبيل غالي كيف تنظر لأهمية هذا الكتاب في المشهد السردي السوداني والعربي ؟ 
ربما يمثل هذا الكتاب الصغير  أهم كتاب صدر في العقود الأخيرة ؛فقد سد ثغرة واسعة في حقل ببليوغرافيا الكتابة السودانية ،وقدم رصدا دقيقا وشاملا إلى حد بعيد للروايات السودانية منذ انبلاج فجرها في أواخر أربعينيات القرن الماضي على يد عثمان هاشم في "تاجوج:مأساة الحب والجمال"1948 حتى منتصف العقد الثاني من الألفية الجديدة ، ويجب أن نتذكر هنا أن هذه الببليوغرافيا قد تمت بجهد فردي بحت لم تسهم فيه أية مؤسسات أهلية أو حكومية ، كما تمت في هجير الافتقار إلى أي مكتبة وطنية عامة تضم شتات هذه الروايات، ولذا كان من الطبيعي أن تستنزف من صاحبها الكثير من العمر والجهد والمال . وبسبب طبيعة هذا الجهد الفردي كان من الطبيعي أن يُستدرك على هذه الببليوغرافيا حزمة من الاستدراكات والإشكالات التي اعتورتها مثل إغفالها لعدد من الروايات السودانية ، وبعض الهنات التي وقعت فيها في أسماء الروايات أو توثيقها وغيرها مما تمت مناقشته بتوسع في الندوة الهامة التي عُقدت لقراءة الكتاب التي عقدت بمركز فيصل الثقافي يوم السبت 8 أكتوبر ، وقدم فيها عدد من الباحثين والنقاد يتقدمهم الببليوغرافي العريق البروفسير قاسم عثمان نور حزمة من الملاحظات والاستدراكات القيمة؛ولكن ذلك لا ينال من الجهد العلمي العظيم الذي بُذِل في إعداد هذه الببليوغرافيا ؛فكما يقول د.جونسون :" يتوقُ كل من يؤلف كتابا إلى الثناء ، أما من يصنِّف قاموسا ـــــ تُقرأ هنا من يصنف ببليوغرافيا ــــ فحسبه أن ينجو من اللوم".
 (*) أخيرا كيف تقرأ المشهد الإبداعي السوداني الأن؟ 
المشهد الإبداعي السوداني بمختلف تجلياته في أفضل حالاته الآن: وتلك مفارقة غريبة؛ فرغم البؤس السياسي والاقتصادي، والاختلال الاجتماعي والذي هو الثمرة المرة لانقلاب يونيو 1989ــــ الانقلاب الأسوأ أثرا على بنية المجتمع السوداني بسبب طبيعته ـــــ رغم كل ذلك إلا أنَّ المفارقة كانت أنَّ الإبداع يتفتق ويزدهر،هكذا:مثل وردة تطلع من ظلمة الطين.ألا يبدو الوضع عندنا،وفي العالم العربي عموما، شبيها بما حدث في أمريكا اللاتينية؟ أعني:هل يمكن تصوُّر إبداع ماركيز أو أليندي أو غاليانو دون دكتاتوريات كولمبيا وتشيلي والأرجواي؟ لقد كان من قدر كتابة التسعينيات أن تولَد من رحم كابوس سياسي لاحدَّ لتشوهاته؛ولكنها ولدت ـــــ ياللمعجزة!ـــ معافاة وجميلة الملامح إلا من بعض الندوب هنا وهناك.