أن تموت في عرضِ البحرِ حيث الموج يصطفق بصخب في رأسكَ

أن تموت في عرضِ البحرِ حيث الموج يصطفق بصخب في رأسكَ نصار الحاج / صِدقاً ، ليس بوسعكَ أن تتصالح مع وطن يلفظكَ خارجه كما يلفظ البحر السراخس الميتة /

أن تموت في عرضِ البحرِ حيث الموج يصطفق بصخب في رأسكَ

أن تموت في عرضِ البحرِ حيث الموج يصطفق بصخب في رأسكَ


نصار الحاج

 

 

 

 

/ صِدقاً ، ليس بوسعكَ أن تتصالح
مع وطن يلفظكَ خارجه
كما يلفظ البحر السراخس الميتة /
"عبدالوهاب لاتينوس"


رحل عن دنيانا يوم الأربعاء 19/08/2020 الشاعر الشاب عبدالوهاب محمد يوسف المعروف باسمه الأدبي عبدالوهاب لاتينوس، ابن مدينة نيالا المولود في العام 1994، درس الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة الخرطوم وكتب الشعر زاهياً وصافياً مثل روحه النقية، رحل في حادث مأساوي مؤلم حيث أبتلعه البحر الأبيض المتوسط ضمن آخرين وهم يحاولون العبور إلي أوروبا بقوارب الموت في مسيرة البحث عن الخلاص من بؤسِ أوطاننا وقسوتها وفقر الأوضاعِ السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي تقتلُ الأمل كما أنشدَ عبدالوهاب نفسه قائلاً:
عبثاً، ستمضي نحو حتفك/ اليوم أو غداً / أو حتى بعد غد / لا أحد بوسعه وقف عجلة الخراب / التي تسحلُ جسد الحياة / عبثاً، لا شئ، لا خلاص سيأتي  في اللحظات الأخيرة / لينقذ جثة العالم/.
ربما حاول عبدالوهاب بقصيدته وبصوته وبمغامرته الجسورة أن ينقذ جثة العالم، لكنه عبرَ حين خانتهُ والمياهُ وتجار البحار والأقدار المؤلمة فترك لنا قصائده شاهدة علي روحه الشاهقة والحية بيننا.

 

 

 

الشاعر الراحل عبد الوهاب لا تينوس

 


في قصيدة أخرى يقول عبدالوهاب:
أن تموت في عرضِ البحرِ / حيث الموج يصطفق بصخب في رأسكَ/
والماء يأرجح جسدك / كقاربٍ مثقوب / أو أن تموت على أرضٍ قفرٍ /
حيث برد طازج ينخر جسدكَ / فتفر موجعاً إليكَ / أن تموت وحيداً
تحتضن ظلكَ الذي بهت لونه/ فغدا محض شبح هلامي / لا أحد يدرك كنهه/
فإن ذلك لا يُحدث فرقاً أبداً/
عبدالوهاب صوت شعري متفرد وإنسان لطيف ومحبوب، استطاع أن يعبر بقصيدته إلى آفاق واسعة وقراء في العديد من المنابر والمدن، عابراً الكثير من الحدود  وقد نعاهُ وبكاهُ الشعراء والشاعرات و الكتاب والقراء من دولٍ عديدة وكانوا جميعهم قد عصفت بهم اللوعة والحزن علي رحيله.
عبدالعزيز بركة ساكن قال عنه، كتب ثم علق في غابة العدم، رحل الشاعر وتركَ قصائده كشاعد القبر الذي يدلُ على المأساة، روحي مثل طيف، مرت من هنا/جسدي مذ أزل لم يمر ولم يعبره أحد/ فقط ظلّ وحيداً عالقاً في غابة العدم/.
الكاتب إبراهيم إدريس من دار آدال للدراسات والثقافة و النشر، نعى الشاعر لاتينوس قائلاً:  فقد مؤلم في خارطة الملح و الغربةِ. رحيل شاعر هو موت الكلام المُباح، وغصة الأمل و إتكاءّ الظِل على الظل في فراغاتّ الوطن، نتوهمّ بجمال البحر المتوسط، تفقد الذاكرة لرحيل الأخرون و موت طفل منكفئ على وجهِه في انتظار أن يحبو و يضحك كالأطفال ، اليوم يفتح البحر أبوابِه الذي تذوق طعم الدماء و دفء الآمال في بوابة وطن عريض يُعيد شكل الحُلم إسمه أوروبا البديل العدم،

 

 


لا نلوم الأرض هُنا ، فقط نُبكيّ حظهم في الإختيار بعد فقدِهم لأرضهم، و أحلام الأطفال و اليفاعة بين المراعي و تحت الشمس و المطر، عبدالوهاب لاتينوس
شاعر كتب شعراً لإنه مُرهف الإحساس عميق الرؤية ، في حد ذاته هذا فِعل مُخيف أمام قُبح الاشياء الأن، أصدقائه و أحِبتهِ يبكونه بِحُرقة مخيفة كانهم فقدوا إبتساماتِهم المشروعة و أحلامِهم العريضة في وطن و عودةٍ حميدة و أن يسود الجمال أمام القُبح.
كانت من آخر كلماتِه لصديقه
/ لستُ خائفاً من شيء / لو وصلت فذلك جميل،/ ولو موت و انا احاول فذلك أجمل /.
الكاتب التونسي حسني السنوسي كتب:
ألف رحمة تغشاك صديقي و رفيقي الشاعر السوداني عبدالوهاب لاتينوس
كم كان خبر رحيلك صادما وفاجعا ،أن تكون نهايتك في قارب في البحر الأبيض المتوسط غرقاً هارباً من الحرب..من الظلم ..من ضيق الأفق ..من الاستبداد... هذا يزيد فجيعتنا .. أيها الطفل الحالم ..أيها الشاعر الثائر..أيها النبيل .. مُر فراقك يا رفيقي كمرارة نصوصك العطشي للحياة ..ضاقت بك الأرض علي رحابتها فاخترت المنفي و العدم وكان البحر قصيدتك الأخيرة هاته المرة ذهبت بعيدا ..بعيدا...الي الأعماق بحثاً عن الكلمة ..عن الحلم ..عن الأمل...و تركتنا غرقي علي اليابسة نتهجي حروفك و وصاياك بملح أعيننا..ستظل عيونك الحالمة تذكرنا بعجزنا و نحن نشاهد الموج ينشب أظافره عميقا في ظهرك ولم نفعل شيئا سوي التلويح لك بقلوبنا.

 

 


وكتب ناصر خليل بدمعٍ دامي وطويل منه: أعرف كم كنتَ في حجرتك وحيداً
في متنزهٍ منفرد
حادثتَني كثيراً عن هاتفك الخُردة، وعن غرفتك
وعن ما كنتَ تتقاضاه من أجرٍ ضئيل
لقاء عملك الشريف في أرض ليبيا
ليبيا هي الأُخرى قد كفرتْ عنك نهديها
بينما كنتَ تبحث عن مَن ترضعك ريثما تغدو قوياً
كي تتغنى عن إرادتك
ليبيا التي طاردتك هي الأُخرى إلى مثواك السرمدي
وقد نعته مكتبة أغرادات العامة: فقدٌ مؤلم وحزين، لِـ شاعر واجه فعل الحياة، قُبح الأشياء وغربة المنافي وقسوتها - بأبجديات القصيد والأحلام. حمل وطنه كما هي تلك القصائد؛ بحثاً عن أرضٍ يباب تحتضن أحلامه، وتلك الأمنيات المؤجلة إلى حزنٍ شاسع،  غير مسمى، يحتضر وحيداً في مداه البعيد، كما يفعل الموت!
وكأنها تلك القصائد، التي كان يكتبها، تأتي خلسةً مثل نبوءة، تحملها قوارب الموت إلى لجّتها الأخيرة، يتبعها وداعٌ رحيم، يغادر روحه في أقصى أعاليها : / سنفرُّ مِن الوطن / سنهرب حثيثاً نحو المنافي / ولكن الغربة هي أيضاً / قاسية لا تحتمل /  ستمتص رحيق أرواحنا لا محالة/.
وكتب أيمن رمضان الدابي: أن تكون نهايتك في قارب في البحر المتوسط غرقاً هارباً من الحرب و الظلم و ضيف الأفق و كذالك الاستبداد هذا يزيد فجيعتنا أيها الحالم الثائر النبيل أي قسوة انتهجها البحر و هو يبتلع جسدك الطاهر العفيف.

 

 

نصار الحاج

 


الشاعرة التونسية أمامة العربي الزائر  قالت:
 الشعراء الذين ينهمرون كل حين، الشعراء الذين يحصدهم الموت هذا الحصّاد القاسي، الشعراء الذين لا يكفيهم عمر واحد ليكتبوا قصائدهم المشتهاة فيقطف أعمارهم ذلك الحصّاد ولا يبالي بشبابهم، الشعراء الغرقى في المتوسّط أو في لجّة العادي، ضلّوا الطريق وساروا صوب تلك الهضبة حيث تلعب الملائكة بالنجوم ، لروحك السلام صديقي الشاعر عبد الوهاب لاتينوس.
وقد وجه الكاتب أحمد يعقوب نداءً ووفاءً للراحل عبدالوهاب لاتينوس " إلى كل أصدقاء الراحل الانسان عبدالوهاب لاتينوس؛ هذه مبادرة لجمع كل أعماله الشعرية ونشرها في ديوان ، وقد أرسل لي لاتينوس عدداً من القصائد التي لم ينشرها، ولديه ديوان (التابو) خلخلة الثوابت ولم يرى النور بعد، أقل شئ يمكننا فعله لترقد روحه في طمأنينة؛ أن نجمع قصائده وننشرها في ديوان ليظل اسمه خالداً. مستشهدا بمقطع شعري لعبدالوهاب:
/ حين لا نحب / حين نتوقف عن فعل / كل ما يجعل أحدهم يضحك بفرح/ طفل لم يزل يلعق من ثدي أمه/ حين نتوقف عن فعل كل ما يمت بصلة إلى الحياة/ أنه ، بكل تأكيد ، نحن نصنع الحروب / ونمارس القتل.
من قصائد الشاعر عبدالوهاب لاتينوس:
ليس سيئاً أبداً أن تموت
في مقتبل العمر
دون أن تبلغ الثلاثين بعد
ليس سيئاً أن تغادر باكراً أبداً ،
السيء ، أن تموت وحيداً
دون أمرأة ،
تقول لك : تعال إليّ ، حضني يتسع لكَ ،
دعني أغسل روحكَ مِن درنِ البؤسِ
أمرأة كلما ضحكتْ
هرب الليل على أصابع الوقت.