كليك تو برس تبدأ في نشر الأوراق العلمية لجائزة الطيب صالح العالمية - الرواية العربية وإشكالية ما بعد الحداثة

كليك تو برس تبدأ في نشر الأوراق العلمية لجائزة الطيب صالح العالمية الرواية العربية وإشكالية ما بعد الحداثة أ.د. بشرى البستاني      شهد تاريخ الرواية الغربية منذ عام 1890م كلاما كثيراً عن أزمة تعيشها الرواية، وتحدثت أطروحات كثيرة عن الخطر الذي يعيشه هذا الفن وعن أزمة الرواية وموت الرواية. لكن الواقع ثبت من خلال الإصدارات التي شهدتها المراحل المتأخرة  أن الرواية الأوربية لم تكن في خطر ، وأنها كانت تتطور وتستحدث أساليب جديدة تتفق والتطورات  العلمية المطردة التي يحققها التقدم التكنولوجي والمعرفي المؤثر في طرائق الحياة عامة وفي الآداب والفنون. وراحت الرواية تتخذ مسارات جديدة على يد كافكا وبروست وجويس والتزام سارتر.

كليك تو برس تبدأ في نشر الأوراق العلمية لجائزة الطيب صالح العالمية - الرواية العربية وإشكالية ما بعد الحداثة

الرواية العربية وإشكالية ما بعد الحداثة
أ.د. بشرى البستاني

     شهد تاريخ الرواية الغربية منذ عام 1890م كلاما كثيراً عن أزمة تعيشها الرواية، وتحدثت أطروحات كثيرة عن الخطر الذي يعيشه هذا الفن وعن أزمة الرواية وموت الرواية. لكن الواقع ثبت من خلال الإصدارات التي شهدتها المراحل المتأخرة  أن الرواية الأوربية لم تكن في خطر ، وأنها كانت تتطور وتستحدث أساليب جديدة تتفق والتطورات  العلمية المطردة التي يحققها التقدم التكنولوجي والمعرفي المؤثر في طرائق الحياة عامة وفي الآداب والفنون. وراحت الرواية تتخذ مسارات جديدة على يد كافكا وبروست وجويس والتزام سارتر. وفي منتصف القرن العشرين أعلن الثلاثي نيميه وبلودان ولورون معارضة سارتر الذي دعا إلى أهمية دور الأدب في الإسهام بتغيير العالم لما هو أفضل، مؤكدين أن الأدب لا علاقة له بالتاريخ ؛ لأن التاريخ يتغير وحده ، بينما الأدب هدف في حد ذاته. ثم كانت الرواية الجديدة التي اختلفت وتختلف  اختلافات جمة عما عرفته الرواية من قبل. ،  وظلت الرواية تتطور حتى غدت مشروعا متمرداً على كل الأنظمة التي عرفتها من قبل ، مشروعاً منفتحا على السؤال والالتباس بعيداً عن طرح أية يقينيات ثبوتية . وحتى صارت أشكالها ومضامينها عرضة لتغيرات وتداخلات شتى ، بحيث اختلط السياسي بالاجتماعي بالنقدي بالذاتي بالتاريخي بالفلسفي والأسطوري مما جعل مشروعها الجمالي منفتحا هو الأخر. وصار تناولها نقديا بوصفها بنية ثقافية لا تأبه بالحدود، لا يتأتى إلا من خلال انتقاد القيم السائدة ونسف الايديولوجيات والسرديات الكبرى التي استغرقت زمنا طويلا من حياة الإنسانية.  ومن خلال تجاوز التقنيات السردية وطرائق التحليل القديمة والحداثية معاً ،إذ صارت رواية ما بعد الحداثة تتسم بالتحرر والتنوع والانصراف عن خطوط نظام الرواية السابقة وعن فضاءاتها المعروفة ، وعن ترسيم حدود أية سردية معينة إلى بنى جديدة تتباين كلياً مع الخطوط التي عرفتها الرواية من قبل.فمن التماسك والحقائق المستقرة إلى الزيف والتشويش وتجاور المتنافرات والتناقضات والخرق الدائم للحدث ، والصور الجنسية وحتى المفردات المُبتذلة. فقد وفرت هذه المرحلة للرواية فرص التراسل مع الفنون الأخرى بكسر الفواصل بينها وتخليص الرؤى من منظوراتها الثابتة للتاريخ والوقائع والحقائق والأشكال وتماسك الحبكة وحتى اللغة التي غادرت تماسكها ورقي أساليبها إلى مستويات أخرى من التفكك والتشتيت وانفراط الحدود بين الأدب الرفيع والهامشي ، مما جعل فيلسوفاً مثل ليوتار يؤكد أن الفنان والكاتب يعملان اليوم بدون قواعد من أجل تشكيل وصياغة قواعد ما سينجزه الإبداع الجديد في ظروف حياة جديدة ، فالإبداع أولا ثم الالتفات  للتنظير بعد ذلك.

لقد كسرت رواية ما بعد الحداثة كل الفضاءات المنتظمة لرواية الحداثة، فبداية هذه المرحلة تنهض من لحظة انتقادها لسلبيات الحداثة التي فشلت في إحداث الانسجام بين متطلبات العالم الداخلي للإنسان وحاجاته الأساسية للأمن والجمال وبين العالم الخارجي الذي شكلته طبيعة اشتغالات الحداثة وتغوّلها الاقتصادي بمشروعها الاستعماري ، فقامت هذه الجديدة على نسف المستقر وإزاحة الحدود وتدمير السببية والعبث بحركة الشخصيات وتشكيل الأوهام ونسفها وبلورة المعنى ونفيه ، وتشويه زمن الحدث وفضح السرديات التاريخية والدينية والأسطورية والعقائدية وما تستند عليه – برؤيتهم – من أوهام ، فمرحلة ما بعد الحداثة ليس انفصالا عن الحداثة وتقاطعاً معها ،بل هي انعطاف لها والنتائج الحادة لمعطياتها ، إذ كانت ردَّ فعل صارخ على صرامتها وتمجيدها العقل والمنطق وعلى تراتبية الميتافيزيقيا التي استغرقت حقباً طويلة من حياة الإنسان. إنّ السارد في هذه الرواية لم يعد هو المهيمن على عملية السرد ، بل صار المؤلف حراً في التدخل وفي خرق سلسلة الحدث متى شاء ، ليدوّن آراءه وخواطره وتعليقاته.  وهذا الخلط جاء تأكيدا لفشل فلسفة ما بعد الحداثة في تشكيل الانسجامات التي دعا إليها فلاسفة مرحلتهم وهم يقدمون معالجاتهم لإشكاليات الصراع والعنف وهيمنة الزيف والوهم في غياب الحقيقة. فصار كل شيء موضع سؤال لا جواب عليه ؛وهذا كرس لديهم الشعور بالفقدان ، فما دام كل شيء إلى نهاية ، وكل بداية لا تؤول إلا إلى الموت ؛ فإن كل ما يحدث بين البداية والنهاية إنما هو الوهم واللبس والشك والخيال ، وهو الغموض واللا حقيقة ليصير الموت هو الحقيقة الوحيدة.ولعل هذه القضية هي نقطة التقائهم مع التصوف والمتصوفة، وصار تشتت المعنى في الرواية نتيجةً أكيدة لاجتياح الحياة بالتغيرات المستمرة، فلم يعد هنا من مركز واحد، بل مراكز متعددة.
*
وإذا التفتنا إلى الرواية العربية سنجد اختلافاً ما زال يدور حول مولد الرواية وإرهاصاتها. فمن الكتاب من يُرجع جذور الرواية العربية إلى مرويات ما قبل الإسلام وقصص حروب العرب وحبهم ووقائعهم ، ثم ما ورد بعد الإسلام من مرويات وسير وقصص الفتوح وسرد المؤرخين والنقاد لحياة الخلفاء والجواري والليالي والشعراء وغيرهم من الشخصيات المعروفة قادةً وأمراء ، وبعضهم أدخل فنّ المقامة في جذور التأسيس. بينما يذهب فريقٌ آخر من النقاد العرب المحدثين إلى أن ولادتها فنّاً عربياً كانت مع ترجمة الرواية الغربية ودخولها الوطن العربي بشكل يختلف عن أطروحات العرب السردية التراثية ، لكن هذه الرواية لم تبقَ أسيرة التقليد ، بل مرت عبر ما يزيد على القرن بمراحل تطور سريعة تمكنت من اختزال مراحل التطور التي مرت بها الرواية الغربية عبر زمن طويل ، متجاوزة أنماطها، ومثابرة في تحديث ذاتها أشكالاً ودلالات ، وأيضاً في اقتحامها موضوعات لم تكن مطروقة من قبل ، مغادرةً وعيها التقليدي الذي بدأت به إلى وعي جديد أفاد من سمات الرواية الغربية الحداثية وما بعدها وطوّرت فيها حسب ما اقتضته الظروف العربية ووقائعها المشتعلة، من خلال الموضوعات ومواكبة سياق الحياة الجديد الذي لم يعد يتسم بالسيولة والسلاسة من خلال الرؤى الاجتماعية الانتقادية والأشكال الكتابية منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، حيث بدأت جرأةٌ على التجريب عُدَّت ضرورية بسبب هيمنة الروح التحرري والنزوع نحو الانعتاق والتغيير وزج الوعي الجديد أمام السؤال. كما وُجه لها أكثر من انتقاد كونها لاتأبه بروح الإبداع قدر اهتمامها باللعب على الأشكال ، متناسين أن أي هدم للشكل القديم  وبناء شكل جديد ، إنما يعني خلخلة في البنى العميقة التي تستند عليها  قيم التغيير. وذلك لأن تغير الشكل يعني عدم قدرة القديم منه على الوفاء بدفق التحولات  الجديدة المعاصرة ، وإصرار الأخيرة  على التشكل بروحية مغايرة.لكن ذلك لم يمنع ظهور الإسفاف في نماذج من هذا النمط الجديد مما يجعل من حضور النقد حاجة ماسة للفرز والتقويم.
إن مفهوم الحداثة ومن ثم ما بعد الحداثة وتحديدهما زمنياً، مازال غائماً وملتبساً وضبابياً في الغرب نفسه بالرغم من مئات الكتب والدراسات التي تناولته بالبحث والتنقيب. وربما يعود ذلك الاختلاف الى تعدد وجهات النظر في تحقيب المصطلحين وتقسيمهما على المراحل وتبعيتهما لتاريخ التقدم الغربي ومظاهره ومراحله ، فقد كان هذان المصطلحان ناتجي عوامل وتفاعلات و صراعات ومكابدات عدة  تضافرت على تلك  المجتمعات الغربية في جوانب الحياة كلها، حتى حولتها إلى مجتمعات علمية حداثية معرفية متحضرة.  ولا شك أن جرَّهما الى ميادين الإبداع العربي فيه لبسٌ آخر،وهما بالأصل مفهومان معرفيان تاريخيان غربيان عاشا ظروفهما الخاصة ،التي تتباين وتختلف مع واقع عربي لم يعرف الحداثة ولا أنتجها ولا تعامل معها أصلاً لا في بناه التحتية ولا المعرفية ولاالقيمية، فكيف بما بعد الحداثة ، ومجتمعنا ما زال أسير التخلف والصراعات والتبعية ، وصريع قيمٍ شديدة البؤس في كثير من جوانبه. لكن الرواد من المشتغلين العرب بالأدب والفنون استفادوا – كما فعل المبدعون في مجمل بلدان العالم -  من جماليات تلك الحداثة الغربية وما بعدها دون شروطها وظروفها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقد قدمت الثقافة العربية وإبداعها نماذج فنية تستحق التقدير ولا سيما في العمارة والشعر والفن التشكيلي والسينما، وحاول مبدعوها العمل بمثابرة على استمرار هذا التواصل وتطويره ، ثم جاءت الروايةُ العربية وحذت حذوهم في التعبير عن رفض الإنسان المغترب والمتمرد على سكونية القناعات وعلى ركود مجتمعه وعلى قهر الطغيان وضربات العدوان.
    إن هذين المفهومين يتعاليان على التحديد والتعريف والإجراء وعلى الاختزال والحصر ،مما حدا ببعضهم إلى عدّ المصطلحين (الحداثة وما بعدها) طريقة في الرؤية وليست مصطلحات زمنية وخاصة في حالة اتصالهما بالرواية. ويرفض إيكو وضع مدة زمنية لبداية مرحلة ما بعد الحداثة على وفق تحديد زمني أو تسلسل تاريخي؛ لأنه يعتقد أنها لا تنتمي لزمن محدد، فنحن قد نجد لها امتداداتٍ وحضوراً عبر النتاجات القديمة ايضا، فاية حداثة يمكن أن تحمل بذوراً ما بعد حداثية من خلال التمرد ضد الاساليب القديمة. لكنه يحدد اربع سمات لما بعد الحداثة يؤشرها بوضوح في كتابه "اليات الكتابة السردية" تتمثل في((التسارد (metanarrativite)، والتسنين المزدوج والسخرية التناصية والحوارية كما ترد عند باختين.  
ومع ذلك يظل سؤال الرواية وإشكالية الحداثة وما بعدها مشروعاً ؛ كونه لا يتمظهر بسمة واحدة أو اثنتين ، بل يتمظهر في أمور كثيرة منها ما يكمن في التطوير والتحولات السردية الكبرى والتجريب والابتكار والحرية والاختلاف والخلخلة واللعب. ومنها ما يدعو إلى العصف بالثوابت ويبحث بإشكالية الهوية والانفتاح والتدمير والهذيان والمغايرة وتفجير اللغة والسخرية والموقف من التاريخ والتناص، وغير ذلك من مصطلحات اجترحتها ما بعد الحداثة ولا سيما التفكيكية ودعت إلى تطبيقها على النص الجديد. فضلاً عن طرح مفهوم الهجنة والتشويش بدل الصفاء والاكتمال والتماسك، والتشكيك بفكرة الأصالة، إذ لا يوجد أصلٌ في الأدب حسب أدوارد سعيد ، لأن لكل أصلٍ أصلاً أبعد منه ، بل يوجد بداية جديدة مبدعة، فالتصور الجديد للمفهوم هو قدرةٌ على الخلق والابتكار. 


    ونجد في النقد العربي من لخصها بسمتين اثنتين الأولى، الصورة الصوتية ، ليس بمفهوم الصوت الفيزياوي ،بل بالمفهوم السايكولوجي للشخصيات التي تعبر عن حالتها النفسية وما يعتريها بالصوت مونولوجاً ومناجاة وهلوسة ، وبأحواله شدةً وضعفاً وخوفاً وهواجس، وما يبثّه كل ذلك في المتلقي. والثانية، هدم الحكاية من خلال المخالفات النصية ولعبة هدم السرد الدائمة. وما نراه هنا أن الصورة الصوتية ليست هي السمة الأصل في الرواية، بل كانت تعبيراً عن حالة، ونتيجة لاهتزاز الشخصية وحالة الهلوسة والتهويمات التي هيمنت عليها، وفقدانها التوازن وغياب تماسكها النفسي بسبب اهتزاز عوامل الإيجاب في جوانب الحياة كلها، فكان الصوت الذي يراودها مظهراً من مظاهر فقدانها الأمن والانسجام وتسلط القلق. فضلاً عن التشويش الناتج عن مخيلةٍ تداخلَ فيها الحلمُ بالحقيقة. أما هدم الحكاية فسيكون النتيجة الطبيعية لتكسر الحبكة وتشويه الزمن وغياب السببية وتضمين قصص عديدة داخل الرواية تتناسل دون انتظام بحيث يضيع سير الزمن وتراتبه وتتبعثر حركة الشخصيات، وترتبك الرؤيا مما يجعل ظهور الهذيان أمراً وارداً.ويفصّل بعضهم أهم سمات هذه الرواية مؤكداً على الرواية المغربية بالآتي: 
- الخروج من ثنائية الشكل والمضمون قصد تجلية العالم ورؤاه داخل التشكل البنائي للنص الجديد الذي يخرج على واحدية التجنيس لتصير الرواية حاضنة أجناس ، بحيث تصبح الكتابة هي الغاية والوسيلة معا ويصبح القارئ معادلة أساسية فيها بوصفه منتجا لها عبر القراءة والتأمل والتأويل لنص تتجلى سمته الحركية بما هي صيرورة وتحول ، وديمومة خلق معايير جديدة وتراكم وتشظيات.
- التكثيف : وهو عملية دقيقة ومعقدة تقوم على ضغط الرؤية في جمل مركزة ولغة مجازية وكائنات  رمزية  وفي حجم صغير تتفتت الرؤية الواحدة في رؤى متعددة ومتقابلة ، ويتمظهر هذا التكثيف في مستوى التجنيس، إذ تتداخل في هذه الرواية انماط سردية وفنية متعددة كالشعر والقصة القصيرة والسيرة والمذكرات والمسرحية واليوميات والقصاصات وفلتات نقدية ، كما تتداخل فيها الفِكَرُ والرؤى الفلسفية والسوسيولوجية والسيكولوجية. وعلى مستوى السرد يتنوع موقع السارد من الغياب الى ضمير المتكلم ويتسم السرد بحرية السارد في البوح والتعبير عن الهواجس ، وعلى مستوى الثيمة تتداخل وتتناسل ثيمات كثيرة في مقدمتها الغربة والاحباط والقهر والاغتراب والخراب الاجتماعي والخلقي والفراغ النفسي والعبث والشعور بالدونية ، تُعرَض كلها من خلال إشارات الواقع. وعلى مستوى الأزمنة والفضاءات يتجلى تكثيف الأزمنة وحراكها بتداخل وقائع ولحظات ضاربة في القدم تنبثق في الحاضر عبر الاسترجاع أو الحلم ، وقد يحتدُّ الجدل بين رموزٍ من أجيال مختلفة ومتباعدة في الزمن والرؤى. أما الأمكنة في هذه الرواية فلا توجد خارج الذات الساردة ووجدان الشخوص . علماً أنه لا يوجد ثبات في هذه الرواية لا على مستوى الرؤية ولا التشكيل. ولذا كان التشظي والتشتيت من السمات البارزة ،حيث انفرطت السببية التي كانت تحكم الحدث منذ تشتيت الأمكنة وتكسّر الزمن ، فكل شئ مبعثر والأحداث منشطرة ومجزوءة والأزمنة لحظات جزئية متداخلة ومتفجرة ، ولحظات السرد مبعثرة داخل لحظات الوصف المهيمنة في النصوص سواء وصف الحالات النفسية ولعبة تيار الوعي في سردها الاعتباطي الانثيالي ، أو وصف المحيط من خلال حركة وجدان الشخوص التي تفككت. انها بلا ملامح ولا تاريخ ولا نمو جسدي وفكري ووجداني ونفسي. إنها شخوص تتشظى في دواخلها وتتداخل الكوابيس والأحلام عبر رؤاها.
-أسطرة الواقع حيث يوصف عالم هذه الرواية بكونه عالماً يحتفل بالأسطوري والغرائبي والعجائبي  ، ليس بالمعني الحرفي للأسطورة ، بل بانتزاع إشارات من الواقع تمتلك القدرة على الأسطرة بحكم هيمنة اللامعقول عليها. وفي هذا السياق تتم أسطرة المكان والزمان حين يغادران في الرواية طابعهما الكوني وتنتفي فيهما المسافات والحدود المادية .
- ضرورة حضور القارئ في النص  إذ أمام مثل هذا النص المكتظ والمتداخل ، وعدم كفاية الرؤية التفسيرية الأحادية لابد من وجود قارئ خاص ، له القدرة على التأمل والتأني والصبر على تكسير أفق انتظاره وهو يفك التداخلات والتناصات والاشتباكات ، أو هو يستقبل غير المألوف وغير الطبيعي في سير الشخصية والحدث وتكسر الزمان وتداخل الأمكنة. فهذه الرواية كثيراً ما تعمل على إرباك القارئ  وتشتيته وإرهاقه في متابعة ما يجدّ فيها من تداخل رؤى وشك وتشكيك وأحداث زائفة مشوشة ضبابية ملتبسة فلا يعرف القارئ هل حدث هذ الفعل حقاً أم لم يحدث ؛ لأن السارد سرعان ما ينقض ما قاله من قبل. فضلا عن حضور معارف متفرقة متعددة  وأسماء ورقية وبشرية ، تاريخية وفكرية وأعلام وطنية لها تاريخها ومرجعيتها من جهة ، ولها ارتباطاتها  النصية التي قد ترتبط بذلك التاريخ وقد تنحرف من جهة أخرى.
- حضور الروائي الذي يقطع على السارد اشتغاله السردي من خلال طرح ميوله ورؤاه وومضات من تجاربه الشخصية ومعاناته الحياتية وصور اغترابه ورفضه وتمرده عبر أحاديث ومنولوجات وتداعيات متسارعة ، مازجاً كل ذلك بتداخلات الأحداث الروائية التي عرضها، من هنا اتهمت رواية مابعد الحداثة بأنها كتابة لا تاريخية كونها تعلي من شأن الوعي الذاتي وتبالغ في الذاتية وتغليب الخيال على الواقع.
-المزج بين أجناس الخطاب المختلفة بحيث تكون الرواية سفرا مفتوحا يتعالى على التجنيس لأنه يتسع لاحتواء الشعر والفلسفة والتاريخ والمعارف المختلفة وحتى العلوم، فضلاً عن المزج بين السيرة الذاتية والتخييل وبين أنماط من الموضوعات الروائية، ولعل هذا المزج كان وراء رأي باختين الذي عدّ الرواية جنساً هجينا، مما جعلها مجالاً لأقصى ممكنات الحرية.
 - يعد التناص مكونا مهما من مكونات رواية ما بعد الحداثة ، ليس من باب تداخل نصوص سابقة أو مزامنة للنص أو عدم قدرة النص ما بعد الحداثي على الاستقلالية من حيث  حضور الماضي  المهم فيه،  بل من  حيث مساءلة الماضي والنظر إلى وقائعه من زاوية معاصرة من خلال وضع أحداث وأسماء شخصيات ماضية إزاء أحداث وأسماء واقعية معاصرة، أو وضع نص جوار نصٍ ماضٍ داخل النص الجديد. وتتبدى معظم السرديات ووقائع القص الكبرى من خلال منظورات التهكم أو الاتهام و الشك و السخرية أكثر الأحيان ، فلم يعد هناك من يقين في أدب ما بعد الحداثة. إنها طروحات ما بعد البنيوية والاشتغال التفكيكي  الذي يرفض احتكار الحقيقة ويعمل على تفجير المراكز ليس إلغاءً لها ، بل توليداً لبؤر أخرى تتوزع على جسد النص. ولذلك شاعت في هذه النصوص المرجعيات الذاتية وتصوراتها الخاصة .
- إن المرجعية الذاتية في ما بعد الحداثة الأدبية تختلف عن المرجعية الذاتية الحداثية التي كانت تعني الأصالة والجدة والانتظام والتماسك والفخر بالعمل الفني، لتصبح في ما بعد الحداثة إبرازاً للأدوات الفنية والأساليب والبراعات بوصفها حيلاً وتراكيب زائفة، ولتصل في النهاية إلى نتيجة مفادها: أنّ كل شيء زائف ومشكوك فيه وأنْ لا حقيقة غير ما تشكله اللغة دفاعاً عن قناعات ومقاصد خاصة. فالمعرفة لا تكون إلا في إطار سياق معين و من منظورمعين. 
وهذه الرواية لا تعتمد بداية واحدة ونهاية محددة، بل تتعدد فيها البدايات لاعتمادها التشظي وتتعدد النهايات تبعاً لكل بداية، مما يعمل على تداخل قصة بقصة ليس بينهما صلة ووشائج، وذلك بما يعرف بالتضمين، وهي في ذلك قد تلجأ للتداخل مع الشعر وحوارية المسرح وفن الغناء والموسيقى، طارحة قضايا سياسية وفلسفية ومعرفية ومُنوّعةً لمستويات لغة السرد، وهي في كل ذلك ترفض احتكار الحقيقة، فلا وجود للحقيقة ولا اليقين في هذا النص إلى درجةٍ لعبَ فيها الخيالُ بالواقع ليكون كلٌّ من الواقع والمتخيل على المستوى نفسه من الطرح ، فيكون فن التجاور هو سمة من سمات هذه الرواية بوضع الحقيقة والخيال والمألوف وغير المألوف وصوت الذات الداخلي وصوت الخارج على نفس الدرجة من المصداقية.  
    لقد أشارت "لندا هتشيون" الكندية لظاهرتين في نصوص هذه الرواية، "ماوراء القص Métafiction))وما وراءالقص التاريخي" historiographic metafiction الذي تؤشِّر روايتُهُ خصوصية الحدث التاريخي وفرديته، وتعمل على دحض سلطة المصادر التاريخية ووثوقيتها لأنها وصلتنا عبر قراءات تعكس رؤى مدوّنيها ووجهات نظرهم. فنحن نرى الحدث الواحد مروياً بطرائق مختلفة واستنتاجات متباينة. وما التاريخ ووقائعه المدونة إلا افتراضاتٌ لعب فيها الخيالُ والمقاصد الذاتية دورا مهما؛ فهي محض خداع وإرادات وتراكيب تشكيلية لا تمتلك القدرة على الثبوت والبرهان. كما اهتمت بالعلاقة بين الواقع والتخييل وانتقدت استبداد اللغة واعتباطية نظامها ، مع أن اللغة لا تبقى اعتباطيةً بعد استقرار نظمها. ولعلَّ التناص كان اللعبة المهمة في هذه الرواية ،إذ عاد روائيو ما بعد الحداثة للحادثة التاريخية امتصاصاً وتحويلاً بما يتوافق مع رؤيتهم وفعَّلوا التناص مع النصوص الحديثة كذلك لينتجوا نصاً جديداً برؤية جديدة، فهم يضعون الحدث التاريخي أمام الواقعي لمساءلته أو التهكم من ادعاءاته أو السخرية من تراتبيته، وهم في كل ذلك يزيحون الغبار عن الوقائع البعيدة التي غيّبها مرور الزمن فاضحين ما فيها من زيف التخييل والتأويل والمقصديات المتباينة، فرواية ما بعد الحداثة وفلسفتها عموما تتسم بموقف الشك والتشويش والسخرية من كل ما كان مستقراً ومدعياً اليقين .
     من هنا يجد الدارس أن ما وراء القص التاريخي يعمل على مواجهة الأدب بالتاريخ وليس تهميشه، ولذا نجد "هتشيون" تشير إلى أن رواية ما بعد الحداثة تقترح إعادة كتابة الماضي وتمثيله من أجل كشفه أمام الحاضر ومنعه من أن يكون نهائياً وغائيا ،معتمدة التهكم والانحراف عن التشريعات الروائية السائدة ،وعامدةً إلى فحص الطبيعة الخاصة للرواية من خلال الرواية ذاتها بحيث كان النقد مواجها للأدب في النص الواحد ،وتقدم "باتريشيا واو" تعريفا يكاد يكون شاملا لنصوص ما وراء القص بأنها كتابة رواية تلفت نظر القارئ منهجيا وعن وعي ذاتي كامل لحالتها بوصفها صناعة بشرية من أجل طرح قضايا عن العلاقة بين الحقيقة والخيال، علماً أن معظم المنظرين يشيرون إلى أن ما وراء القص ليس جنساً أدبياً أو صيغة تعريفية لرواية ما بعد الحداثة، بل هو سمة من سماتها، كما أنه لا توجد نظرية شاملة حول "ماوراء القص" في الرواية، بل هي آراء متفرقة في مباحث عدة.  
   "ما بعد القص"أو "ما وراء القص"أو "ما وراء الرواية" إذاً أحد تجليات ما بعد الحداثة ، الذي تعرّفه ليندا هتشيون بأنه كتابة رواية عن الرواية، فهذه الرواية هي التي تتضمن تعليقات على سردها وايضاحات لهويتها اللغوية مما يعني أنها دائمة القطع لسلسلة السرد، فهي تقطع الخيال بالواقع وتلقي الضوء على تركيبها الداخلي، وتستطيع بوعي تام أن تعرض عملياتها الإبداعية الذاتية، فالمؤلف في "ما وراء القص" يبدع رواية ويكتب تقريراً عنها في آنٍ واحد.مما جعل الانعكاسية الذاتية ووعي الرواية بكونها رواية وتركيباً خيالياً من أهم السمات المحددة لروايات ما وراء القص  
لقد حاول الروائي العربي في هذا الميدان تطويرَ تجربته وإثراءَها من خلال توظيف طاقاته كلها في تجريب طرائق جديدة يوردها في روايته منها "المخطوط" بوصفه شكلاً تجريبياً داخل رواية "ما وراء القص" إذ يلجأ الروائي إلى نصّ منجزٍ له أو لغيره، سابقٍ أو معاصرٍ له، كأنْ يكون رواية أو قصة أو رسائل أو يوميات أو وثائق، ويبدأ بكتابة رواية حول ذلك المخطوط الذي يُعدُّ بنية مرنة قابلة للتوضيح والنقد والإضافة والحوار،وأوضحُ مثالٍ على هذه التقنية في الرواية العراقية رواية عبد الخالق الركابي "سابع أيام الخلق" التي بناها الروائي على رواية منجزة سابقة له هي "الراووق" وأخرى دخلت فرعية إلى النص هي رواية "قبل أن يُخلق الباشق" ودارت الرواية الجديدة "سابع أيام الخلق" حول أحداث وشخصيات ورواة ورؤى الروايتين السابقتين ولاسيما رواية "الراووق" التي تعدّ المخطوط الرئيس، على أن كلَّ مكونات النص السابق يتعرض في الرواية الجديدة للنقد والنقض والأخذ والرد ويكون في حوارية دائمة بين الشخصيات أو بينهم وبين الراوي، بحيث تتحول الرواية الجديدة لكيانٍ جديد يحمل طابع الجدل المتواصل في عملية رفضٍ وتشكيلٍ دائمين..مما يجعل النقد حاضراً بامتياز في هذه الرواية. ويُعدُّ هذا اللون أحدَ ألوان الرواية الجديدة ،كونه يعتمد أساليب جديدة من خلال التأسيس على المخطوط والوثائق والتقارير والأخبار الصحفية وسيلةً لكسر النمط التقليدي في السرد وخرقه من قبل نصّ جديد آخر. 
وهكذا نجد هذا التوجه الجديد في الرواية العربية يفتح من خلال نماذجه ذات الوعي النصي والمجتمعي والمقارب لمفهوم الهوية، والقائم على هدم المركزيات واليقينيات بعداً جديداً للقراءة لكنه سيظلُّ بُعداً صعباً ومعرفياً، وتتخلله التعالقات النصية التي تفتح أفقه المعرفي على مختلف العلوم والفنون والوقائع والمعارف والأساليب والرؤى، وهو من خلال ذلك يمدُّ أكثر من وشيجة للأحداث التاريخية والعمل على مساءلتها من جهة ولواقع البؤس العربي الذي تهيمن عليه استلابات شتى وتلعب بإنسانه مضاربُ الاضطهاد والقهر والعدوان.        
كل ذلك جعل من رواية ما بعد الحداثة مشروعاً مفتوحاً على تعدد القراءات. فمعنى هذا النص الأدبي كما أكد "وولفغانج آيزر" ليس كينونة قابلة للتعريف والكشف مرة واحدة لكنه حدوث ديناميكي ،إنه حركة تبادلية بين القراءة وكينونة القراءة من أجل إنتاج قراءة جديدة. و لكون التلقي حدوثاً ديناميكياً وصيرورة مستمرة فهذه الرواية أكثر الأحيان تبدأ من بؤرٍغير مرئية ولا تسير بأي نظام أو قواعد من أجل تشكيل وصياغة قواعد ما سيتم إنجازه كما يؤكد ليوتارد. وهذا ما يعدد بؤرها ويُشظيها بما يجعلها عرضة للتأويل من جهة، وتعبيراً عن بؤس واقع أرهق روح الإنسان وجرده من أبسط مستلزمات التماسك والتواصل مع وجوده بأمن وسلامة. 
لقد حرّرَ الانفتاحُ النصي الجديد رواية ما بعد الحداثة من الخطوط التقليدية الضيقة، وأشرع أبوابها على الحوارية ومناهضة قهر التسلط حدّ اعتماد اللصق وتعددية الفنون المتجاورة والتلوين في التعبير عن تشتت المجتمع والإنسان معاً والبعثرة وتداخل المتنافرات وهيمنة الشك والغياب الذي يعدُّ أهم سمات مرحلة ما بعد الحداثة، سعياً من كتابها لاستيعاب تحولات العصر الذي بات حراكُ أزمنته في تسارع مذهل، مما جعل أسئلة الإنسان تتناسل، ودلالات الرواية تدور داخل صيرورة دائمة، فلا ثبوت لمعنى أو مقصد لأن الثبوت يدعو للتماسك، وهذا النصّ مناهضٌ للثبوت والسكونية، وأبعد ما يكون عن الاستقرار و التماسك. 
  إنَّ التحولات الشاملة في النظم والأنساق المعرفية هي التي أنتجت التحولات السردية التي عبرت بالرواية وأساليبها نحو طرائق تعبير جديدة ،  فقد أزاحت حوارية باختين مركزية الصوت الفرد لصالح تعددية الأصوات / الأساليب والمواقف انعكاسا لمبدأ تعددية المراكز وأشكال الوعي بالعالم الروائي وانحلت العقدة الهيكلية الناظمة لشبكية السرد كما انحلت عوامل الإقفال والإحساس بالنهاية لصالح النهايات المفتوحة  والمستويات المتعددة، فلم تعد عناصر السرد ووسائله علما متحكما في عملية الروي، وكل ذلك كان من نتائج الصراع في التغير الأجناسي ،  ولعل طرح مصطلح ما وراء السرد أو ما وراء الرواية  يتيح ما يمكن أن يتطلبه الأفق الكتابي الجديد من المرونة والانفتاح على مساحات أرحب، كون هذا المصطلح  بمرونته عابراً للسرد إلى سرد آخر يدل عليه بحيث تجتمع في هذا المصطلح المرن جملة من التضادات والتوترات بين الأساليب والأساليب المضادة لها. مما يؤكد ان جماليات السرد الذي كان يرتكز على قوانين وعناصر خاصة، قد انحلت وحلت محلها جماليات جديدة هي جماليات ما وراء الرواية كالانشغال بالشكل وموقع الراوي وحضور المؤلف في روايته مما يجعلنا اكثر احساسا بان قيم العالم وحقائقه قد تغيرت وان موضوعات جديدة وتداخلات شتى هي التي شكلت الانظمة العلاماتية لهذاالتغير. ففي انفتاح هذا الفن الروائي يتحقق  تكامل الفنون أكثر من أي فن أخر ، إذ إن تعدد الأصوات غالبا ما يجمع الخطاب السردي بتعبيرية الفن المسرحي وحواره مع شبكات الفن السينمائي وإيقاع الموسيقى وجماليات التشكيل والمخطوطات والتقارير، كما ينفتح لشتى المعارف ،وذلك بسبب مرونة الرواية المعاصرة وقدرتها على التقبل والاستيعاب؛ مما يجعل هذا الفن هدفا مغرياً للعمل النقدي، وإن كانت تلك التقنيات قد اكتنفها - في نماذج روائية -  كثيرٌ من التشويش وغياب الدلالة واللاعقلانية، فضلا عن حضور نظرية المؤامرة والذهان المزمن والسرد العصابي والاتسام بالاستبطان والانكفاء على الذات والهذيان النرجسي الذي كسر رصانة اللغة، ذلك أن اللغة في رؤيتهم ما هي إلا أداةٌ لضبط الأحداث والوقائع وهذه الأداة قد تكون أبعد ما يمكن عن الحقيقة، ولذلك لا حقيقة لديهم إلا ما يشكله الخطاب استجابة لإرادات المرسل ومقاصده. كلّ ذلك يعبر عن خطر حضارة أرهقت الإنسان بالعنف والخوف والقلق والعصاب والتبعثر ، وألحقت به ضرراً كبيراً يوم تركته يعيش في حروب وصراعات وعنف وعدوان، وفي توجهٍ دائم نحو نهب ثروات االشعوب والأوطان المستضعفة واغتصاب الأرض والأمن في موجة أمركة العالم الطاغية.
 لقد حاول الروائي العربي الواعي بعملية التجريب والتجديد أن يستفيد من سمات رواية ما بعد الحداثة الغربية، لكنْ بضبط ما يفيده ويعبر عن قضاياه على مستويي الأشكال والمضامين، فكانت البداية لدى جبرا ابراهيم جبرا وفؤاد التكرلي ثم توالت لدى عبد الرحمن منيف، والطيب صالح ومحمد الأسعد وجمال الغيطاني ويوسف زيدان وبعض روايات اميل حبيبي ولطفية الدليمي، ومحمود طرشونة، وأحمد أبو سليم، ورواية "أوراق عارف الدمشقي" لنذير العظمة وعبد الخالق الركابي في"سابع ايام الخلق" وفاضل العزاوي في"الأسلاف" وعلي بدر في"مصابيح اورشليم" و"بابا سارتر" و"حارس التبغ" وأحمد خلف في"موت الأب" و"فرانكشتاين في بغداد"، لأحمد سعداوي على سبيل المثال، وغيرها الكثير من الروايات التي لم تعد تخلو من سمات ما بعد الحداثة ليس في هدم الحكاية واحتواء تقنية المخطوط ومساءلة التاريخ والتناص حسب، بل وفي السخرية والتهكم من الوقائع السياسية العربية وأنظمتها وفضح إجرامها وطرح معاناة الشعوب، وفي إشكالية الهوية والعلاقة مع الآخر، ومساءلة الأحداث والوقائع المأساوية الحادة وتكسير المركز والجمع بين اللغة الراقية والهامشية، لغة النخبة ولغة عموم الناس، وسمة التعددية، والموقف من الجسد وغيرها من السمات التي لوّنت الرواية العربية على يد المبدعين من روائيينا، لكنها لم تخلُ من سلبيات التحول والانفلات في نصوص منها. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ معاناة الإنسان المعاصرة وما أفرزه العصر من تقنيات وانفجار معرفي وعنفي وتداخل أحداث ،كلّ ذلك أدى بالرواية في أحيان كثيرة إلى الغموض واللبس الذي كان سببا من أسباب عزوف القارئ عن نصوص كهذه. فالغموض والتشظي والتداخل وحضور الغرائبي والعجائبي والتعتيم وغيرها من وسائل التضبيب بحجة التشويق، سماتٌ تقف سداً حائلاً دون إقبال القارئ الاعتيادي وحتى المختص أحيانا، أوغير المتسلح بثقافة شاملة ومعرفة عميقة قادرة على التفكيك والتحليل وإعادة التركيب، مما يحتم على النقد القيام بواجبه في الكشف عن مفاصل هذه النصوص، وإزاحة العتمة عنها ، لتقريبها من القراء. فالمعنى في القراءة الجادة ليس شرحاً للنص، بل هو تجربة يعيشها الناقد بوعيه ويكتب عنها متحرراً من أي سلطة. فقد تحققت للنص الذي يقاربه الحرية التي لا تصل أقصاها إلا في الفن والإبداع وحدهما حيث تتحرر اللغة من قيود المنطق ومن السببية. وتكون اللغة الأدبية قادرةً على تطويع الغرائبي والعجائبي وتحقيق المستحيل كذلك حين تسقط الأسباب وتغيب المسببات.