من حقيبة الذكرى
من حقيبة الذكرى الفنان السوداني الكبير عبد الكريم الكابلي أمجد محمد سعيد... مصر على ضفاف نيل القاهرة , المنساب من محبة نيل السودان , وإذ تصدح الأغنيات بتدفق الحياة , وولادة النجوم الجديدة , في سماء الإنسان العربي
من حقيبة الذكرى
الفنان السوداني الكبير عبد الكريم الكابلي
أمجد محمد سعيد... مصر
على ضفاف نيل القاهرة , المنساب من محبة نيل السودان , وإذ تصدح الأغنيات بتدفق الحياة , وولادة النجوم الجديدة , في سماء الإنسان العربي , وفوق ترابه الحاضن لمجد الخضرة , يرتقي الفنان السوداني الكبير عبد الكريم الكابلي , مشاعر وعقول الجالسين على مقاعد الصالة الكبرى , بنقابة الصحفيين المصريين بالقاهرة , المنصتين إلى هذا الصوت الملائكي القوي , القادم من ظلال الأبنوس , ومن أشجار التبلدي , من مياه بحر القلزم الأحمر الصخّاب , ومن ليالي الغابات الإستوائية اللانهائية .
كان المنصتون في القاعة من مصر وليبيا والعراق وسوريا وفلسطين والمغرب ولبنان والخليج العربي , كثيرون جاءوا لكي يشاركوا صحفيي قاهرة المعز , في تكريم ابن بار مبدع وأصيل , من أبناء السودان والأمة العربية والإنسانية .
عبد الكريم الكابلي
وأنا إذ أنظر إليه , أذكر سنوات خلت , كنت أسمعه في أمدرمان , وأنصت إلى ثقافته الوسيعة في الخرطوم , وأسهر معه في ليالي بحري , والان ـ وأنا على المنصة ـ سأقول فيه أمام هذا الملأ , ما تكدس في قلبي من عشق الغناء السوداني , الذي لا مثيل له في الدنيا , وبصوت عبد الكريم الكابلي الذي ظل وما يزال , يدهش الناس بخصوصيته وتفرده .
في ( بور سودان ) خليلة الرياح , والمراكب , والصواري , والمواويل البحرية , والنخل , والنجوم , كان لهب الشموع المرتجفة بين الفجر والندى , وأدعية الأهل , والعشيرة , الموشاة بزخارف الحناء , يبشر الساهرين بولادة صبي , لأب ظل يتمناه , وهو يعزف ألحان الأمل والفرح . ومنذ رضعة الحليب الأولى , رشف الطفل , من ينابيع اللحون , والأنغام , وفتح عينيه , وهو يطالع تكوينات وأشكال الالات الموسيقية , لدى والده الفنان المثقف المعروف , عبد العزيز الكابلي .
وبحسه المرهف , وإدراكه المبكر البصير , عرف الصبي عبد الكريم , أن القدرة الإلاهية , منحته تاج الإبداع النادر, وصولجان الغناء والموسيقى , فصوته يجمع بين القوة والشفافية , بين الطرب والتأمل , وأداؤه مرتب سلس مقنع , وصدى ترنيماته ودندناته , بدأت تنال الرضا والإعجاب , منذ أن كان طالبا في المدرسة المتوسطة , وأثار انتباه أساتذته وزملائه الطلاب .
الكابلي واسرته
لم يتردد عبد الكريم الكابلي إذ ذاك , عن الإمساك بزمام المبادرة , واستلهام الفرص , لتطوير مشغله الفني , وصقل موهبته , متابعة , ودراسة , وتدريبا , وغوصا في إدراك ماهيات , وأصول ما ينتظره , مستقبلا , فاستوعب المشهد الغنائي , والموسيقي السوداني , وظل يواكب , ويعمل , ويؤسس , فنا , وثقافة , ومشاركات , حتى تربع على عرشه , بجدارة , وتواضع , وتفرد .
حتى جاءت تلك اللحظة التاريخية في عام 1960 , حينما وقف عبد الكريم الكابلي أمام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر, وغنى قصيدة الشاعر السوداني الكبير تاج السر الحسن , ( أنشودة لآسيا وافريقيا ) وأنصت له , سكان ثلاثة أرباع الدنيا , لهذا الهدير الجديد , المولود مع ولادة حركة عدم الإنحياز, ومؤتمر باندونج باندنوسيا , أيام نهرو , وسوكارنو , وتيتو, وكانت تلك المناسبة هي بوابة الفن الكبيرة التي دخل منها الكابلي , إبن الثغر السوداني , بور سودان إلى عالم الغناء العربي , ولكي يشكل أروع إنجاز للاغنية السودانية والعربية والافريقية ذات الخصوصية الفريدة , والعوالم الإستثنائية :
( عندما أعزف ياقلبي
الأناشيد القديمه
ويرف الفجر في قلبي
على أجنح غيمه )
كان ذلك اليوم المشهود , ليس فقط بداية الشهرة الكبيرة للكابلي , إنما كان أيضا انطلاقة للقصيدة العربية الفصحى في المشهد الغنائي والموسيقي السوداني أيضا , ناهيك عن اكتشاف الشعب السوداني نفسه أنه اقرب ما يكون , تعاطفا , وفهما , وتجاوبا مع القصيدة الشعرية , وكانت تلك الوقفة قد منحته أيضا , شهادة الإصطفاف مع تلك المجموعة الخالدة من الفنانين الذين وضعوا أوطانهم , في الصميم من أهدافهم الفنية , ومثلوا الاغنية الوطنية والقومية والانسانية خير تمثيل منذ منتصف خمسينات القرن الماضي .
جمال عبد الناصر
وحينما وقف الكابلي أمام سيدة الغناء العربي أم كلثوم ليصدح بقصيدة أبي فراس الحمداني :
أراك عصي الدمع , شيمتك الصبرُ
أما للهوى , نهي عليك , ولا أمرُ
بلى , أنا , مشتاق وعندي لوعة
ولكنّ , مثلي , لا يذاع , له سرُ
ذكّرَها بعظيم أدائها للقصيدة , وألمح إلى عظيم أدائه لها ولكن بشكل وأسلوب آخر, إذ تلبس الأغنية الان الجلابية والعمة السودانية الخاصة . ولم ينس الكابلي مأساة فلسطين , فغنى لها :
بدمي
سأكتب فوق أرضك
يافلسطين آسلمي
وأموت يا يافا
شهيد الوعد
وآسمك في فمي
لقد توجه عبد الكريم الكابلي في فنه الراقي إلى كافة فئات الشعب السوداني , والعربي أيضا , وخاصة الطبقات المثقفة المستنيرة , وعبر عن مختلف جوانب حياة المجتمع السوداني , وتطلعاته , وأهدافه , غنى للوطن والأمة والشعب , وغنى للرجال , والنساء , والأطفال , غنى للإنسان في العالم العربي , والافريقي , ولكل البشر أينما كانوا على ظهر البسيطة , ندد بالظلم , والعبودية , والقهر , وهاجم الفقر , والحروب , وأشاع في الناس الحب والجمال .
ومثلما أبدع الكابلي في الغناء والموسيقى , إانه أبدع أيضا في كتابة الشعر المغنى , وغير المغنى , كما قام بمتابعة الشأن الموسيقي والغنائي السوداني , بحثا وكتابة ونقدا , باللغتين العربية والنجليزية .
ونحن في القاعة الكبرى بنقابة الصحفيين المصريين بالقاهرة , إذ نحتفل بالكابلي إنما كنا نمثل كل السودانيين والعرب في واحدة من أرفع الأمسيات الفنية والثقافية الموسيقية الغنائية , النادرة التي لا تنسى .
ثم صدح صوت الفنان السوداني العربي الكبير , الافريقي الانساني , وسط المئات من الحاضرين , الذين قدموا أبلغ معاني سعادتهم , وامتنانهم , وتقديرهم, لهذا الفنان الاصيل الذي ارتقى بالغناء السودان إلى آفاق عالية سامية , وأوصله إلى المراتب الصافية من حيث اختيار أجمل الكلام , ومن حيث عظمة الأداء , وأيضا من حيث المردود الموشى , بأرفع ايات الاحترام لفن الغناء والموسيقى , ولدور المغني أو المؤدي أو المطرب في حياة الشعوب .
كانت الأمسية , سودانية , مصرية , عربية , نظمتها رابطة محرري الشؤون الخارجية بنقابة الصحفيين المصريين , وكان الحضور شاملا لفئات راقية من المبدعين من كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين , وكذلك من دبلوماسيين ورجال أعمال , وأساتذة جامعات , وموسيقيين , وقطاعات مختلفة , من الجالية السودانية , والعربية , إضافة الى الحضور المصري الكثيف والمشرف .
وقد تحدث الكثيرون في الامسية , مشيدين بالكابلي , وتاريخه الخصيب , في مجال الاغنية السودانية , ودوره في إعطائها , مقاما سامقا , في سماء الاداء الموسيقي العربي , وحضوره الفعال , في أبرز محطات النهوض السوداني , الوطني والقومي عبر حياته الحافلة بالانجاز , ولعل ما قاله الناقد والشاعر السوداني المعروف ( السر قدور) في الامسية , ما يعطي صورة واضحة , عن عبد الكريم الكابلي , فنانا, وشاعرا, واكاديميا , ودبلوماسيا , ومثقفا كبيرا, لا تستطيع , الا ان تنصت اليه , بكل جوارحك , وحواسك .
ولم تخف شهادات المتحدثين , ذلك الاعجاب , المشوب بالاحترام الشديد , لهذه الشخصية , التي عرفت كيف توازن , بين متناقضات حياتنا المحلية , والقطرية , والقومية , وان تحقق مشهدا راقيا , من الابداع , أرضى كافة مستويات الشعب وخاصة الطبقة المثقفة , وفي ذات الوقت صعد باذواق الجماهير إلى منصته العالية , وانتشلها من واقع التخلف , والعادية , والسطحية الى مستويات الأغنية الأوبرالية الفخمة بصوته القوي , ولغته المحكمة , وأدائه المنضبط , وابتكاراته العلمية , التي أضفاها على السلم الموسيقي للاغنية السودانية التقليدية , ناهيك عن قدرته الحوارية التي تشمخ بمنطقياته الميسرة, للفهم والادراك . وكان حديثه في الأمسية لا يقل إبداعا ولا قدرة ولا ثراء عن نتاجه الفني والغنائي الموسيقي .
حقا إننا لفخورون بعبد الكريم الكابلي .