كلام صريح

كلام صريح الغواية حسن النواب... العراق في ممرٍّ طويل طرَّزتهُ أعشاب ميتة وسوَّرتهُ من الجانبين شجيرات آسٍ اصفرَّتْ أوراقها من العطش، كنتُ أتجوَّلُ قانطاً في نزهة بائسة مع صديقي الرسَّام الذي توقَّفَ فجأةً عن الحركة وتبسَّم باندهاشٍ؛ بعد أنْ لمح شخصا لا أعرفه كان يجلس على مصطبة في حديقة جرداء تطل على نهر دجلة بمائه الشحيح، ظلَّ صديقي يتطلع بحرص وإعجاب إِلى ذلك الشخص الذي لم ينتبه لنا ثمَّ همس:

كلام صريح

كلام صريح

الغواية

حسن النواب... العراق

 

 

 

 

في ممرٍّ طويل طرَّزتهُ أعشاب ميتة وسوَّرتهُ من الجانبين شجيرات آسٍ اصفرَّتْ أوراقها من العطش، كنتُ أتجوَّلُ قانطاً في نزهة بائسة مع صديقي الرسَّام الذي توقَّفَ فجأةً عن الحركة وتبسَّم باندهاشٍ؛ بعد أنْ لمح شخصا لا أعرفه كان يجلس على مصطبة في حديقة جرداء تطل على نهر دجلة بمائه الشحيح، ظلَّ صديقي يتطلع بحرص وإعجاب إِلى ذلك الشخص الذي لم ينتبه لنا ثمَّ همس:
- أنظر لهذا الوشق. 
تأملت ذلك الكائن الحزين بملابسه البالية وصلعته التي كانت بلون التراب لكثرة ما تعرضت إِلى لفح أشعة الشمس وقد استغرق في قراءة كتاب صغير بين يديه المتغضنتين، لم يطرق سمعي هذا الاسم من قبل ولذا دعاني فضولي لاستفهام صديقي الرسام حتى يرفدني بمعلومات أخرى عن حياة ذلك الكائن الذي يشبه الوشق إِلى حد بعيد، أذكر أنَّ ابتسامة صديقي الرسام استهجنت جهلي وعدم معرفتي بهذا الكائن الغريب؛ بل أيقن في خلده أنَّ صاحبه الغر ما زال الدرب طويلا أمامه حتى يكتشف أسرار الحياة الأدبية بجنونها وتناقضاتها وعبثها وتمردها، بعد شهور شاءت المصادفة أنْ أرى ذلك الوشق في حانة الغابات المطلة على شارع أبو نؤاس، كانت المائدة طويلة عريضة حين شرفنا ذلك الوشق مترنحاً وانضم إِلى مائدتنا التي جلس حولها ثلة من الأدباء كان بينهم صديقي المعتوق، بعد دقائق نشبَ خلاف بين الوشق والمعتوق حول أفكار بوذا وخلال حمى السجال المتبادل بينهما اقترب من المائدة شخص بدين كأنه بقرة ويمتلك عجيزة هائلة بيده كأس مترعة سرعان ما أهداها إِلى الوشق الذي كرعها دفعة واحدة ثمَّ قال لصاحب العجيزة مشاكسا:
- ما دمت بهذه البدانة لن تصبح شاعرا. 
أجابه السمين بعينين ضاحكتين:
- لكن الشاعر أراغون كان بدينا أيضا.
شعر الوشق بالحرج لكنه تدارك الموقف الذي وضع فيه وعلق بسرعة:
- أراغون سمنته الفرنسية شاعرية، بينما ترهل جسدك لا يصلح إلاّ في حقل للثيران.
 وتعالت الضحكات من جُلَّاس المائدة، كنت حينها أراقب ذلك المشهد مرتبكا، إذ ليس من المعقول أنْ يكون الأدباء بهذه الخشونة وهذا الاحتدام وهذه الفضاضة؟ وافترقنا عائداً إِلى جبهة الموت " الحرب "؛ كنتُ أتحيَّن أيام الإجازة للقدوم إِلى بغداد، حتى حدث اللقاء المهم في حياتي مع الوشق؛ بعد حولين من لقاء حانة الغابات، حين وجدته جالسا بمفرده إِلى طاولة ملاصقة للنافذة المطلة على بداية جسر الصالحية من جهة شارع الرشيد في حانة شريف وحداد، استأذنته للجلوس إِلى جواره، حرَّكَ رأسه دلالة الموافقة، ولما سألته لأطمئن على وضعه المعاشي غمغم بكلمات غير مفهومة ثمَّ رفع كأسه بسأم وارتشف جرعة صغيرة من العرق دون مازَّة حتى بزغ احد مردييه فجأة من الذين يكتبون شعرا للأطفال، أطلق الوشق ضحكته وقال:
- أهلا بالنفايات.
لدقائق ساد المشهد طقس من المزاح الثقيل بينهما وحسم أخيرا بربع عرق إضافي إِلى الوشق يدفع حسابه ضيفنا القصير القامة الذي انضم إِلى الطاولة؛ ردَّد الوشق باسماً:
-  لا تزعل؛ كنت أمزح معك.
ظلَّ الشاعر القزم صامتا وانشغل بمسح الغبار عن نظارته بمنديل أزرق، بينما كنت أتحرَّقُ شوقاً عسى أنْ يطلع هذا الوشق على بعض أشعاري، بعد دقائق تجرأت وبيد مرتعشة وضعت احدى قصائدي أمام ناظريه، لاحظ الوشق ارتباكي ثمَّ انتشل الأوراق من فوق الطاولة واستغرق مثل أمير بقراءة القصيدة بحرص واضح، هذا هو الوشق عندما يقرأ؛ يقرأ بإخلاص على العكس من الآخرين الذين يقرأون استعراضا ليس إلاّ، صار الوشق بعالم آخر؛ بينما انبرى القزم يثرثر مع نفسه، بعد أنْ فرغ من قراءة القصيدة صرخ فجأة بوجه شاعر الأطفال طالبا منه السكوت ورفع نظره يتفحصني بخبرة مئات الشوارع التي جابتها حياته ثمَّ مدّ َكفّه الخشنة وصافحني قائلا:
- من هذه اللحظة أنت صديقي.
علَّق القزم بعد أنْ فرقعَ أصابعه:
- دع الفتى في حاله، لا تخدعه.
ردَّدَ الوشق بهدوء:
- هذا شاعر. 
وابتدأت الغواية ...
حلقة من حياة باسلة
حسن النوَّاب 
hassanalnawwab@yahoo.com