قصيدة : ( السندبادُ العراقيُّ على شواطئ أسيوط )
قصيدة : ( السندبادُ العراقيُّ على شواطئ أسيوط ) ( إلى الشاعر سعد عبد الرحمن ) شعر : أمجد محمد سعيد كوكب أم مدارْ . هذه الأرض سجّادة من يواقيتَ أم شفةٌ للنهارْ. قال لي سعد قبل سنينَ
قصيدة : ( السندبادُ العراقيُّ على شواطئ أسيوط )
( إلى الشاعر سعد عبد الرحمن )
شعر : أمجد محمد سعيد
كوكب أم مدارْ .
هذه الأرض سجّادة من يواقيتَ
أم شفةٌ للنهارْ.
قال لي سعد قبل سنينَ
إذا ما أتيتَ هنا
فكأنكَ تختصر الأرض في قمرٍ
ظلَّ مختبئاً في سطوح القرى
ونخيلِ الجِوارْ.
قال سعد هنا نزل السندباد الجريح
سفينته العاج ظلَّت هنا
وتوسدت النيلَ من ألفٍ عام مضى
في حكايات
من أدلجوا في هضابِ الصعيدِ
ومنْ أنشدوا في خلاوي البوادي
تراتيلهم
فوق كثبانِها .
إنَّ أسيوط تكتب بالماء والرمل
والصخر والنخل قرطاسَها .
قال سعد هي الآن من فضة الوقت
تنسج أعلامها
وتسطِّر أيامها
إن أسيوط شاهدة
ظلَّ أبناؤها سلسبيلَ الزمانِ
وتلك النجوعُ على ساتر الشمس مِصباحُها .
**
منذ كم وأنا والمدينة في ختْمِ سعدٍ
وسعدٌ بعيد قريب
يراني أُدَوِّنُ في الريحِ إسمي
ويكتب بالدمع وسط الميادين
أسماءَها .
وهو في شُغُلٍ مستطيلٍ
يرتب ما آسطاع في بَرِّها
و يسافر ما آسطاع في نيلها .
وأنا عازف الروح لا قصبٌ في يديَّ
ولا من رقيقِ الصنوبر عودي
ولكنني جئت أسيوط في غبشِ الصبح
مرتدياً خِرقتي
وعصاي التي بيدي
سأهش بها ما تبقى من الكلمات
وأفطر عند المساء على خبزِها .
إنني السندبادُ العراقيُّ
يختتمُ البحرَ والريحَ
يلقي إلى الماءِ قمصانَه
ويقص على الناس أحوالهُ
ويقارِبُ أحوالَها .
***
شربتُ وسعداً
على شاطئ البحر ما يشبه الخمرَ
في ليلة تشبه الصبحَ
ثم كتبنا على الرمل ما يشبه الشعرَ
في زمن يشبه الحُلمَ
والدمع ينزف ما يشبه الجمرَ
يا سعد
لُذنا بأوجاعنا في شوارعِ مصرَ القديمةِ
بين الضفاف القصيةِ والنيل
طاف بنا طائف في مدارج سوهاجَ
أو ضفتيّْ بورسعيد
وكنتَ معي تمسكُ الجرح أن يتفجر في خافقيَّ
وتمسك فيَّ بلادي التي نسيت إسمَها
في رصيف المحطاتِ
بين صفير القطاراتِ
أدركتُ أنك تحرس قلبي منَ التيه
في المدن الأعجمية
قلتَ : هنا ماكث أنتَ
والرافدان هنا ماكثانِ
ستبقى بمصرَ
ستأكل من نخلها
وستشرب من نيلها .
***
أسيوطُ أُثقلت الدروبُ , وقامت الاصوات , تنهض من رماد الصمتِ , قامت مرة أخرى , يعيد بنو عَديٍّ ثورة السفنِ الكريمةِ , يشعلون النيلَ بالأجسادِ , ما ماتوا ولكن شب من أسمائهم وقتٌ يلاقينا على الكورنيش أو بين المعابد والجرانيتِ المقصبِ بالكتابةِ , منْ بني مُرٍّ يلاقينا فتى يمشي على كل الشوارع , يرفع العلَم الجديد , ويبرئُ الجرح القديم , يشد ما بين المشارق والمغارب , لمْ يمتْ , وكأنه قاد الجموع , وعاد للميدانِ , كان يجالس الشبان في وقت العشاءِ , ويشرب الشاي الصعيديَ الثقيلَ , وقامت الأصوات يا أسيوط تنثر جرحها الدامي على الطرقات مثقلة بعمق عجائب التغيير , لا أحد سيوقف زحفَها .
ومن الموات اليعربي إلى أقاصي الجوع لم تجد الجموع سوى الممالك والمهالك والزعامات الغشيمة واللصوص , الناس يُنتهكون خلف شوارع المدن المخيفة , يُشنقون على مصابيح الطريق , كأننا من جنس شيطان رجيم نام في جيناتِها .
ومن (النخيلة) هب صوت , كان (محمود) الذي في الموصل التقط الفراشات اللواتي صرن في أشعاره كنزا من النجمات في ليل العروبة , كان محمود يغني مجد بغداد الفريد , يبشر الدنيا بمولد أمة يصل السماء نداؤها .
( قد آذن الله في عـــلاهُ
أن ينهض الشرق من كراهُ
ويرحــل الليل عن سماهُ
وتسطـع الشمس من جديدِ
مــن أمسنا الثائر البعيدِ
بغداد يا قلـــعة الأسودِ )
**
الصدى لم يمتْ .
فارت الأرض بالدمع
وادّافع الدم في حدقات العيون
السواقي جرت غضباً في الميادين ِ
أشعلت النار في أثوابِها .
**
ومثل شقائق النعمان أزهرت النوافذ والجسور
وضجت الغزلان في جزر المدينة
أطلق الأطفال من أحداقهم ورد الخلاص
وغنت الأرواح في جناتها .
**
ومثل ولادة الأنهار حيث مشيمة الأعماق
تولد شمس هذا العصر من غضب الخيول الوالدات
وتفتح الريح الُمواسم بالرحيق الحر
والقداح في أسمائِها .
**
والأرض تنسج بالحصى والماء
والدم والدموع
حكاية تمشي بها نوق القبائل ِ
والقوافل ِ
ِوهي ترفع للسماء عيونَها .
تسري إلى رحم البلاد المستفيق
الأرض تنهض
والدروبُ ترتل الفرقان في أرجائِها .
**
لهيبُ المواجع زادُ السفرْ .
يرتب مملكة للجموع
ونخلاً لَأبنائهم من ميادين هذا القدرْ.
كأن الميادين رجع ٌلأنفاسهم
وصدى من دهور العذاباتِ
دع أيها الموت نافورة الروح
تطلق في أوجه الظالمين بأحقادِها .
**
ظلَّ الشباب واقفين في لهيبِها .
عَضّوا على جمرتها
معاندين القدر العنيد في صراعِها .
أوائلٌ يلامسون خصبها
ويحفرون دائبين في ترابِها .
ظلوا يجيئون تباعا مثلما الأرواح في قيامِها .
لمْ ينصتوا إلا لأصداء الدروب الصاعدات من مخاضِها .
ما صدَّقوا غير أنين فاجع يصعد من فؤادِها .