في رق خطاب السرد واسترقاقه
في رق خطاب السرد واسترقاقه أحمد صادق أحمد. أنجز النحات المصري محمود مختار، نهضة مصر وابن البلد من أعظم أعماله، تمثالا صغيرا لخادمة عملت مع الأسرة في مطلع القرن الماضي وقد عرفت لدي أفراد الأسرة باسم "السودانية". تجلي ابداع الفنان الكبير في ملامح الحزن والكآبة
في رق خطاب السرد واسترقاقه
أحمد صادق أحمد.
أنجز النحات المصري محمود مختار، نهضة مصر وابن البلد من أعظم أعماله، تمثالا صغيرا لخادمة عملت مع الأسرة في مطلع القرن الماضي وقد عرفت لدي أفراد الأسرة باسم "السودانية". تجلي ابداع الفنان الكبير في ملامح الحزن والكآبة في ملامح وجهها التي نحتها بدقة الفنان وحرفية وخبرة النحات العارف. لم يكشف عن هذا العمل حتى الان ولا تجده في أي من الكتالوجات فقد زعم أحد أحفاده انهم " محرجين جدا من ذلك التمثال". بعد نصف قرن من الزمان وبذاكرة قوية وبطفولة سعيدة عاشتها الروائية المصرية/الفرنسية أندريه شديد (1920-2011) وسط الطبقات الارستقراطية آنذاك والتي حفظت تمثال تلك الخادمة حورتها في قصة قصيرة بعنوان "سودانية" ترجمها الناقد الجميل عزالدين ميرغني ترجمة بديعة قبل سنوات عن الفرنسية.
تاريخنا يحفل بالعديد من سرديات العبيد، و منذ نص الشاعر الروماني هيليودوراس- حوالي 460 ميلادية- و حضورهم في سرديات الرحالة و المكتشفين و المغامرين و حتي كتبة الإمبراطورية العثمانية السنية و الأخرى التي لا تغيب الشمس عنها و أستوي عودها من أواخر القرن الثامن عشر – و تجدر الإشارة هنا الي أن حتي الكتابات التي نجرؤ علي أن نقول انها "وطنية" مثل ود ضوة و رفاقه و مرورا بأحمد سيد القوم صاحب كتاب "سلسلة ملوك سنار" و ود ضيف احتشدت كتاباتهم بعدد هائل من الاستعارات التي تحيل الي تشكل طبقة و هويتها، موسومة علي الدوام بالدونية و عدم الإعتراف بهذه الفئة الخ ، تكفي هنا الإشارة لكتابين عظيمين: أحدمهما للراحل المقيم الأستاذ محمد إبراهيم نقد و الاخر للبروف أحمد سكنجة- و لحظة فيليكس دارفور، الذي شنق في هاييتي عام 1822، بعد أن صار ناقدا جسورا لتجربة الاستعمار الفرنسي و تجارة الرقيق في محيط العالم مطالع القرن التاسع عشرو مرورا بسليم أقا و الذي انتهي به سيده الاسكتلندي الي اسكتلندا حيث تعلم اللغة الإنجليزية و رد بالكتابة شعرا- مجرد تمارين بلغة ركيكة علي اللغة- و نثرا حيث حكي طرفا من سيرته و كيف اختطف من جبال تقلي و تم استرقاقه و حكايته بالكاد تصمد امام ما عرف لاحقا بسرديات الرق و ذلك لانها مختصرة جدا و أغفلت الكثير من الجوانب عكس السرديات الأخرى. ومن ثم اليوزباشي علي أفندي جفون، أحد أبطال الأورطة السودانية في المكسيك (1863-1867) و التي أملاها علي أحد الضباط البريطانيين بعيد عودته من المكسيك – صدرت متسلسلة في المجلة العسكرية البريطانية و ظلت بها حتي هذه اللحظة- بعد أن تمت ترقيته عسكريا الي يوزباشي و إداريا الي أفندي، و هذه السردية التي جاءت بصوته و بكتابة ربما لم تكن بريئة لكن يظل صوت قوية نبرته صارع اجيالا من السادة ليقف شاهدا علي عصر بأكمله من خلال سرديته التي استوفت عددا من تقنيات الكتابة السردية و ممتعة و شيقة حكايته بل و نزعم استيفائها لشروط الجنس الادبي الذي يعرف باسم سرديات الرق.
ومن ثم ظهور حبوبتنا العظيمة بخيتة، التي استرقت وهي بنت سبع وقطعت رحلة طويلة من قريتها ام قصة، إحدى مناطق سلطنة الداجو العريقة. تمثل سردية جدتنا، و التي لا تقل في جمالها- سردية ملهمة بحق- عن سرديات الامريكان الأفارقة التي شاعت في العالم أجمع خاصة بعد ترجماتها البصرية المتعددة في مشهد السينما الأمريكية، رحلة متخمة بكل أشكال العنف المنهجي انتهت بعدد هائل من الاستعارات و التي حفزت الكثيرين الي تحويرها الي متخيل سردي، تخييل المرجعي، الي روايات و اخرها رواية الفرنسية فيرونيك أولمي و التي جاءت بعنوان يحيل الي المرجعي بشكل مباشر "بخيتة قديسة من السودان"، رواية تاريخية استدعت فيها أو قل قامت بتخييل المرجعي ألا وهو بيوغرافيا بخيتة الذي أملته لاحدي الراهبات الايطاليات بعد ان تعلمت اللغة الإيطالية وجاء متصدر صورة بخيتة في مطلع عام 1931. أشارت كذلك الكاتبة في هوامش الرواية انها استعانت بالباحثة ألينا فيزاديني- لها كتاب مهم عن ثورة 1924 "البحث عن قومية مفقودة" 2015- وحسب ما جاء في هوامشها بان فيزاديني أفادتها بمعلومات وبيانات عن الرق وتجارة الرقيق في السودان أواخر القرن التاسع عشر. تجدر الإشارة هنا الي ان جماعة فيرونا في الخرطوم- كمبوني- قد اصدروا كتابا توثيقيا في ثمانينيات القرن الماضي، باللغتين العربية و الإنجليزية عن حياة جوزفين بخيتة.
ونختم بالإشارة الي اخر سرديات الرق، في السودان ألا وهي سيرة العم الراحل ستانسيلاوس بيساما- في الأصل وقبل أن يتم اصطياده كان اسمه أسامة عبد الله كجك- والذي صار وزيرا للنقل والمواصلات في أول حكومة وطنية بعد الاستقلال. تلقي تعليمه على أيدي قساوسة يونايين، من هنا اسمه الأول، وقد أجاد بضع لغات: الإنجليزية والعربية ولغته الأم الفور ولغة الدينكا و الزاندي. كان العم بيساما شجاعا وجسورا وقد ظهر ذلك جليا حينما تصدي لبعض الترهات المنغلقة على الذاتية المتعصبة في مؤتمر جوبا 1947 خاصة مع محمد صالح الشنقيطي، وظهرت مواقفه المناهضة للنزعات العنصرية والجهوية آنذاك حينما تقدم باستقالته بثقة وأنفة وكبرياء من الوزارة ورجع الي أهله وعشيرته في واو ولزم بيته حتى وفاته في أواخر عام 1987. بعنوان " كيف صار العبد وزيرا" صدرت في الخرطوم باللغة الإنجليزية- ذات الناشر الذي أصدر الكتابين عن بخيتة- وقد ترجمها الراحل المقيم الأستاذ محمد عبد الله عجيمي ومبذولة في معظم المواقع الالكترونية السودانية.
عودة الي أطر نظرية ومفاهيمية، فان الخطاب النقدي الذي تناول سرديات العبيد ظهر في المشهد بأخرة و ذلك لأسباب موضوعية منها هيمنة و بياض الخطاب لردح من الزمن. و ما يهمنا في هذا السياق أن تلك السرديات و التي كتبت، سواء العبيد أنفسهم أو سادتهم، يمكن اختزالها في اختطافهم و سوقهم، بأقصى درجات العنف المنهجي، من سلخ جلودهم/جلودهن ووسمهم/وسمهن بعلامات و أرقام و رموز و قيود، سلاسل من حديد أو حبال حتي ينتهي بهم المطاف الي زرائب العبيد و ربما في ذات اليوم الي أسواق النخاسة حيث يصار العبد/العبدة الي سلعة و أنفاس تسليع كريهة و أقصي حالات التشيؤ أيضا. تلك النصوص متخمة حوافها بالحياة تحت الأسياد/السيدات حيث تبدأ أبشع علاقة في التاريخ الإنساني، لا تسعها تأملات نيتشه وتنظيراته حول تلك العلاقة المعقدة، لم تسعها تهويماته وعدميته، بل لا ينبغي لها أن تدخل أزمنة "نشيد الأبدية" الذي طالما عربد بدواخل انسان نيتشه المغرق في انسانيته. في حالات نادرة تنتهي سرديات العبيد بالانعتاق والتحرر ويبقي النص دليلا ماديا ومغايرا موضوعيا لافك هيغل والذهنية المركزية وكذلك الوعي الممكن حول" ... نقد مرجعية أية "حقيقة" في أي تاريخ كوني، بات متاحا أمام النظرية النقدية المعاصرة أن تعيد تثمين سرديات الشعوب التي طردت من فردوس الحقيقة الكونية (بوصفها "شعوبا بلا تاريخ"، على حد تعبير هيغل)، وأن تري الحكايات الكبرى التي أخرست في الماضي وهي تنهض من رماد، وتجثم كالكابوس على حاضر الأحياء"- صبحي حديدي 2019.
و من ثم في مرحلة لاحقة شاعت تلك النصوص لما أن صارت من ضمن النصوص التي تدرس و من أهمها نص الأمريكي فريدريك دوغلاس (1817-1895)، و الذي يعتبر من أقوي و أميز سرديات الاسترقاق بل و تعتبر ملحمة ألهمت العديد من الكتاب في القرن العشرين ليصنعوا منها سرديا موازية متخيلة، بمعني يشتغلون عليها بأفق تخييل المرجعي في ترجمتها سرديا والعديد منها ترجمت بصريا من خلال دراما تلفزيونية و أفلام منها الروائي و منها الوثائقي.
تناثرت سرديات، حتي و ان لم تكن تخييلا مباشرا لمرجعي في عدد من السرود السودانية، بشكل أو اخر وردت أو تم التقاطها، صوت خافت و يعلو في أحيان أخري، منذ نص خليل عبد الله الحاج " انهم بشر" و مرورا بالطيب صالح ونص شوقي بدري "الحنق" و في السنوات الأخيرة ترد أسماء بركة ساكن و جمال محمد إبراهيم و الزين بانقا و بالتأكيد نصوص أخري لكن في سياقنا هذا نجد أن أحمد حسب الله هو الذي ترجم علي أفندي جفون ترجمة سردية سكنت بها احدي سرديات الرق، و ذلك في نصه "فشودة". في المشهد العام في المحيط العربي، تناسلت تلك السرديات و صارت تيمة أثيرة للكثيرين منهم السعودي محمود التراوري "الأخضر يا عود القنا" و الليبية نجوي بن شتوان "زرائب العبيد" و المصرية سلوي بكر “كوكو سودان كباشي" و محمد المنسي قنديل “كتيبة سوداء" ، المرجعي في الروايتين الأخيرتين تاريخ الأورطة السودانية في المكسيك، و يوسف القعيد في “تغريبة بني حتحوت" و اليمني علي المقري "طعم أسود ... رائحة سوداء"، و اخرون كثر.
عودة أيضا لنص بخيتة، فان هذه الرواية البديعة كانت سببا لأن يعود الناشطون في المشهدين الأوربي والعربي لموضوعة الرق والاسترقاق وتجارة العبيد بالإحالة المباشرة للخادمة/العبدة السودانية، النبر علي المفردتين الأخيرتين و نشطت عقول خامدة لقرون لتتصفح رقوق تم ترسيب سموم في متونها تراكمت بها استعارات ما زالت ناشطة حتي يومنا هذا و قد كتب الشاعر و الكاتب اللبناني عبده وازن حول الرواية "... شخصية روائية تراجيدية فريدة، تجمع بين القدر الشخصي و قدر العبودية أو الرق." – الحياة 30/11/2017
أشرنا لمرجعية المتخيل بحساب أنها رواية تاريخية لكتاب تلك الراهبة التي أنجزت بيوغرافيا جوزفين بخيتة والذي صدر عام 1931. من هنا تبدأ حكاية حبوبتنا بخيتة حيث قامت المؤلفة بتخييل تلك البيوغرافيا بحسب ايقاعها الكرونولوجي وتحول الي إيقاع سردي جميل وبلغة عذبة ضفرت الذاكرة، مرجعية المتخيل، والمخيلة السردية مما يفتح الباب واسعا أمام التفسيرات/ التأويلات لقراء محتملين لهذا النص المتماسك والذي نزعم أنه لم يفرط في تأويلاته للحكاية المرجعية.
اختطفت حبوبتنا بخيتة من قرية أم قصة من أطراف بقايا سلطنات الداجو العريقة في سبعينيات القرن التاسع عشر وكان عمرها سبع سنوات، حيث التقطت الكاتبة رأس خيط سرديتها الموازية في تخييل تلك الذاكرة ونتابع مشاهد العنف التي لم تتوقف حتى تقاعدت بخيتة من عملها وقد ناهز عمرها 77. مشاهد تحفها أشكال عنف تنوعت في قبحها وبشاعتها ويؤخذ القارئ/القارئة المحتمل/المحتملة للنص الي زمن بل قل أزمنة العبيد، ويصير النص مرآة مشروخة تعكس الذاكرة الجمعية للعبيد وقد أخرجوا من التاريخ من أوسع أبوبه. في رحلة أكثر بشاعة ومرورا بأرض قفر وأودية غير ذات زرع وأدغال وغابات وأسود وثعابين، أمكنة تأتي فيها الظلمة من الداخل، تتنوع مشاهد الطبيعة البدائية بينما يظل العبيد مربوطين الي سلاسل من حديد وحبال غليظة تورمت بها أطرافهم/أطرافهن الغضة بعد أن نزفت طويلا، لا ماء و لا أكل و لا حتي هواء نقي يتنفسون و ظلوا علي ذلك الحال أيام و ليال حتي وصلوا زرائب الأبيض و بيعت بخيتة في اليوم التالي الي أحد أعراب كردفان ، لتخدم في بيته لثلاث سنوات عجاف ليل نهار و اغتصبت ذات نهار غائظ ببشاعة منفرة و كانت في العاشرة من عمرها. تخييل هذه المشاهد بالذات كتب بأيديولوجية نسوية فجة كان من الممكن تكثيفها بشعرية ترتفع أو يرتفع بها الحدث الي أزمنة مخيلة تزيد من جمال المشهد الا أن الكاتبة أفرطت في تأويلاتها للمرجعي في سياق السرد التاريخي: "لا تعرف شيئا عن اسمها، لا تعرف لغة تحلم بها ... تتذكر بضعة كلمات عربية و أخري تركية و ألفاظ إيطالية و تتحدث بضعة لهجات للغات سودانية مختلطة كلها بلهجة إيطالية عرفت باسم فينيتو، تتحدث بالسن هجين لدرجة يصعب فهمها و حتي التواصل معها يتطلب أن تكرر لها الكلام بضعة مرات و بعدة طرق حتي تفهمك ... استطاعت لاحقا و بعد ما يقرب من ثلاثة عقود أن تقرا الإيطالية و بصعوبة بالغة أيضا تعلمت الكتابة ... الا أنها حفظت عددا من الصلوات باللاتينية و كانت تؤدي الترانيم الدينية بصوت قوي و عميق " الرواية صفحة 221 ... كتبت كتاب الألم عن سيرتها و، الذي لم تقرأه قط، فقط قصة حياتها كما استنطقتها احدي الراهبات.
حينما تضع اللبوة صغارها ...
المقطع الوحيد الذي ظلت بخيتة تردده طوال حياتها بذات النبر و التنغيم و كما سمعته من أمها، تردد المقطع بنغم حنون للفتيات الصغيرات في زرائب العبيد لمساعدتهن لقهر الخوف بدواخلهن و الحلم و الأمل و الخلاص من براثن العنف المطلق من حولهن، لطالما أرادت لنفسها موقع اللبوة من تلك الأغنية/الحكاية و هي تحمي صغارها حيث "ينبض قلبها بإيقاع تم تم- متسارع يتردد صداه في ظلمة تلك الغابات، ينبض قلبها مثل إيقاع التم تم في نداء للتجمع." الرواية صفحة 16. فجأة صارت كل اللغات و الأصوات و الايقاعات غريبة بالنسبة لبخيتة، بداية محو لذاكرتها و إيذانا بمولد النسيان. اجتثت من جذورها و فصلت من أصلها و فصلها و بدأ تاريخ رق النص و من خلفه استرقاق الواقع/الذاكرة التي تفوقت الكاتبة في تخييلها و صار النص الي أرشيف من المحبة أودعته كل انفعالاتها النسوية و بافاق مقاومة سردية أولت عناية خاصة للذات النسوية المسترقة التي اختزل بها التواصل الإنساني الي مجرد بن و كاكاو و قصب سكر كما زعم شوبنهاور في سياق الحديث عن خروج الزنج و العبيد من التاريخ أو كما ورد في كتاب بول غيلروي "المحيط الأطلنطي الأسود" أن "العبيد أناس تخلت عنهم الالهة"، مرددا ما قاله لوكاش من أن "الرواية ... أداة تبلورت ضمن مجتمع تخلت عنه الالهة."
دارفور كانت الفضاء السردي لثلثي الرواية" حيث الاتجار بالبشر، مصحة عقلية للآثمين، القساة أعداء الانسان ... دارفور حيث يتآمر تجار الرقيق و بتحالف مريب مع الفكي ... لتوريد الرقيق الي أسواق الخرطوم. " الرواية صفحة 31. اقتيدت بخيتة الي سوق النخاسة في الخرطوم، "ما زال إيقاع التم تم يتردد صداه حولها، الإيقاع الخفي الذي يخترق ذاكرتها و المتن السردي بأكمله ... ينبض بقوة هذه المرة لأنها لا تدري أي خطر ينتظرها هذه المرة." الرواية صفحة 110. حقا ان " ... وجودنا في السرد أقوي من وجودنا في حقيقة التاريخ."
رحلة شاقة من الأبيض الي الخرطوم، تارة علي ظهور الجمال و دواب اخري تارة أخري الا أن معظمها قطعها العبيد مشيا علي الأقدام، اثارها وسمت بخيتة بندوب و علامات علي أقدامها مما أضاف علامات أخري قديمة من جلد السياط و الكي بالنار، أخبار مهدي السودان تتري في تلك اللحظة حينما فكر اخر سادتها التركي في أن يبيع كل رقيقه بعد أن اعتراه الخوف من شبح المهدي و هو يزحف نحو كردفان محققا الانتصار تلو الاخر و اشتغلت أساطير الحضر، بلغة الأنثروبولوجيا، و نشطت التصورات الذهنية حول المهدي و أتباعه. أخيرا وصلت بخيتة الخرطوم و سرعان ما أشتراها قنصل إيطاليا الذي صار سيدها الخامس. فيما يشبه المونولوج الداخلي همست بخيتة لنفسها في تلك اللحظة و هي تتنقل من بيوت أسيادها من أعراب دارفور و كردفان و اخرهم في الأبيض الباشا الغشيم، "يمكن للواحد أن يفقد كل شيء في لحظة، لغته و قريته و حريته و لكن لا يمكن أن يفقد ذاته، أمه. انه ذلك الحب الذي يوازي جمال هذا العالم ... في تلك اللحظة و بحركة لا ارادية وضعت راحتها برفق علي موضع قلبها تعزي نفسها لأن خوفا عظيما اعتراها، خوف من أن تفقد حتي نفسها." صفحة 133. مشاهد متنوعة تتخلل إيقاع السرد لأنثروبولوجيا المدينة، صخب الخرطوم بتعدد السحنات و الاجناس آنذاك و التي انتقلت منها مباشرة الي سواكن و منها أيضا مباشرة الي إيطاليا حيث تستقر أسرة القنصل الذي اشتراها (هدية/مفاجأة) لأحد أصدقاءه، في قرية قرب مدينة البندقية، كانت بخيتة في الخامسة عشر من عمرها في ربيع 1885. الشيطان الأسود، فتاة صغيرة حالكة السواد، عفريتة زنجية صغيرة، فتاة سوداء أعظم سوادا من سواد الجحيم، سرعان ما نشطت ذاكرة المجتمع من حولها و ارتدت الي مربعاتها الأولي شديدة البياض، الأسود المغاير، و تراكمت الأسماء/الاستعارات و بدأت هوية جديدة متجاوزة الذاكرة البيضاء و اتسعت دوائر الخوف بداخل بخيتة و فقدت كل لغة ممكنة للتواصل و انزوت بغصة الصامت و زاد رعبها من أولئك البيضان، تلك المشاهد تذكر القارئ بقصة العظيم تشيكوف "المسكينة"، ذات الرعب و هي تقف أمام سيدها في محاولة منه ليقنعها بحقوقها ...
عرفت بخيتة بل قل انها خبرت لغة الألم، و الان التقطت لغة السلطة التي تفرق بين الناس علي أساس اللون و كانت من الذكاء أن تتعلم بسرعة فائقة "لغة الثورة" في التمرد علي هذا العالم الذي يزداد، و من وراء بياض مطلق، قبحا يوما بعد يوم. تمردت بخيتة علي سيدتها حينما طلب منها العودة الي سواكن و تتصاعد وتيرة الصراع- بالفعل عادت لفترة قصيرة عملت بأحدي الحانات حيث تكررت تجارب التحرش مرة أخري- استمر ذلك لعام كامل عادت بده بخيتة مرة أخري الي إيطاليا و وصلت قمة تمردها في وقوفها في وجه دوران تلك السلعة و اختارت (الرب) هذه المرة و رفضت أن تعود الي خدمة أسيادها مرة ثانية. هنا لزمت خدمة الرب في أحد الاديرة الي ان تمت ترقيتها الي قديسة و عاشت حياتها بجسارة وسط الراهبات البيضاوات العوانس و تنوعت مهامها من تدريس الي طبخ الي حراسة الي أن اقعدها الروماتيزم و فقدت بصرها و ماتت بهدء ذات صباح غائم في الثامن من فبراير عام 1947، سنتان بعد انتهاء الحرب الكونية و ما زال المكان تنبعث منه روائح نتنة من نازية و فاشية.
ينتهي الجزء الأول من الرواية " من العبودية الي الحرية"" ويبدأ الفصل الثاني "من الحرية الي اللاهوت"، والذي ينتهي بتعميد بخيتة كراهبة و قد حضر المناسبة جمع غفير من الفنانين و النبلاء و المثقفين و أسموها جوزفين بخيتة، الا أن أحزانها التاريخية لم تنتهي: فقدت ذاكرتها و تبقت لها أحلاما مشوشة، و عجزت عن قهر الخوف بداخلها، " ... خوف لا نهائي ... خوف عار ... لدرجة انها قررت في تلك اللحظات أن تبدأ من جديد بمحاولة قهر ذلك الخوف." ص 258. هنا نجد الكاتبة تخرج من زمن مخيلتها و تستدعي ذاكرة بخيتة بشكل مباشر " في السابع من ديسمبر عام 1893، فتحت الكنيسة أبوابها لهذه الشابة التي لم يكن ثمة من مأوي لروحها ... فقد أعطت روحها و بدنها للبارون لأنه الوحيد الذي يغفر الخطايا." ص 263. عرفها الجميع الان بقدراتها الفائقة علي الحكي فهي لا تتوقف مطلقا من نبش قعر ذاكرتها و كانت تعلم جيدا أن الحكي هو حيلة العاجز كما قال ابن المقفع، فبابتسامة غامضة و مبهمة تستدعي لحظة اختطافها و كل ما تعرضت له و ما أصبحت عليه الان. فقد قيل " ان السماء أرسلتها لتحكي قصصا و حكايات" ص 280. مع اندلاع الحرب العالمية الأولي، نعود هنا الي أزمنة المخيلة، أبطأت الكاتبة بإيقاع السرد و توارت المشاهد حول بخيتة و التي أحتلتها بحضور باهر و بطولة شبه مطلقة، هنا سيطر الطليان علي المشاهد، إيطاليا الفاشية تماما مثلما التقطها أمبرتو ايكو في رائعته " وهج غامض للملكة لوانا". نزعم هنا أن ماما بخيتة ظلت سوادا وسط بياض مطلق، رقا عجزت مخيلة الكاتبة عن محوه علي الرغم من تفوقها في السرد و الحكي و أنتزاع بخيتة من وهدة الاسترقاق و في مستويات عديدة فقدت القدرة علي موازنة ذاكرة (واقع رق وعبيد) و مخيلة سردية سعت بالخروج بها من علاقات سلطة و تمفصلات سلطة شائكة تكرست استعاراتها و اشتغالات مجازاتها حيث ان الرق ظاهرة مجازية بامتياز في أفق مالاته خاصة ان أحلنا الي عمل المفكر الهندي هومي بابا الذي يعول كثيرا علي تجليات الخطاب الكولونيالي في مجتمعاتنا المعاصرة. حتي و لو كان ذلك في سياق التحرر من اللغة المعطاة التي لا يمكن الفكاك منها الا بالتركيز علي اللغة باعتبارها منجما كاشفا للدلالات الجوفية و المطامح المقموعة كما يقول محمد برادة.
هنا نحت الكاتبة نحو لغة مرتبكة بتسليع حكاية القديسة بخيتة و تسويق كتابها و ظهرت ديناميكية اللاشعور الجمعي للاقتصاد السياسي للرق و اشتباكاته مع أنشطة التبشير و أيديولوجيا الدولة -الفاتيكان- و بانت رغائب الاخر المستعمر في استرقاق الاخر و استنزافه، و قد ظلت بخيتة في المخيلة السردية كما في الذاكرة بكل بساطتها و صمتها في عالم تسوده فوضي نصية و لسانية و ذلك حينما طفا في المشهد السياسي الأوربي آنذاك خطابي النازية و الفاشية، طفا للسطح موضوع العنصرية و الشوفينية متزامنا مع المسألة اليهودية، مرة أخري ثمة من خفة و هشاشة في المتن السردي الذي عجز عن تسكين، بالمخيلة، تلك الحمولات الأيديولوجية الثقيلة، ربما في سياق ما بعد كولونيالي حيث يستدعي الأمر مقاربة الجغرافيا السياسية بحذر و بلغة تستطيع أن تضفر المخيلة و الذاكرة و خاصة الذاكرة التي استند عليها النص لأنها اغواء بائن للوقوع في فخ الاكزوتيكا، فقد جاء عنوان الكتاب الذي صدر عام 1931 تتصدره صورة بخيتة بعنوان "قصة مدهشة".
علي مستوي التلقي، فقد اشرنا الي عبده وازن الذي احتفي احتفاءا انفعاليا بالنص و اقتصر علي إعادة سرد حكاية الخادمة أو العبدة السودانية من دارفور و بضعة تعليقات علي لغة الكاتبة في كونها "لغة فائضة و متموجة و ذات إيقاع متمرد" و خلص برد النص المتخيل الي مرجعيته أي كتاب "قصة مدهشة" المشار اليه انفا. بينما اكتفي اخرون بذات صيغة النقد و الاستجابة للنص، مثلما بويا غودا في النيويورك تايمز الذي كتب حول "خادمة سودانية تنتهي بقديسة في إيطاليا- نيويورك تايمز- 20/05/201، حيث الحضور الكثيف لظاهرة الرق في المجتمعات الإنسانية و تم اختزال هذا النص المتخيل، الذي في حسباننا مستوف لشروط تقنية الكتابة السردية، الي موضوعة رق و استرقاق، كما جاء في مجلة الرواية التاريخية: حيث أشير الي سردية العبيد التي كتبت بحيوية فاجعة و رقة متناهية- و عودة لمأساة دارفور، من إبادة جماعية و تطهير عرقي الخ، و كأني بالكاتبة و قد تناصت مع كتابات المفكر الفرنسي الكبير برنار هنري ليفي و مقالاته الشهيرة علي صفحات اللوموند في 2007 و الذي كتب بذكاء و عمق و بلغة أدبية عالية عن ما دار في إقليم دارفور حينئذ، ربما أسقطت الكاتبة، علي الرغم من استغراقها في تخييل حكاية بخيتة، أو بوعي منها أرادت ، سرديا، أن تلمح الي كيف يتم إعادة انتاج تلك اللحظات الان و بعنف منهجي أشرس من ذلك السياق الكولونيالي بالغ التعقيد بل من الممكن و المحتمل تسريبها لمالات اللحظات التاريخية التي التقطتها في الرواية أو قل و بلغة هومي بابا بتجلياتها في مجتمعنا المعاصر حيث لا زالت استعارات الرق و العبودية و الاسترقاق ناشطة و تشكل في مجتمعات وهمية و مشوهة بادوات السلطة و علاقاتها و ما زالت حتي هذه اللحظة كنداكات دارفور، حفيدات السلاطين و حفيدات حبوبتنا بخيتة يتعرضن لذات العنف الذي تعرضت له بخيتة و التي بالصدفة المحضة أدخلتها "سرديتها التاريخية" هي نفسها و كل الدارفوريات العظيمات التاريخ من أوسع أبوابه بل كل السودان و ناسه و تعدد ثقافاته و اختلاف ألسنته، أوديو حبوبتنا بخيتة و لترقد روحك بسلام و لترقد كل أرواح شهداء الثورة السودانية بسلام، أحفادها و صانعي التاريخ للسودان و أهله.
الرياض
07/08/2020