لمياء شمت
عزة لمياء شمت ياخلي .. وفرحي إنه صوت عبد الهادي الصديق، بشجنه الندي، يناجي التهارقي خليل فرح، متلمظاً بالنشوة من تبحره في لطافات وتمثلات اسم الخليل، وتفرع ممكنات اللغة من دلالته الممتلئة. وعبد الهادي يعلنها ناصعة بلجاء في (نقوشه على قبر الخليل)، محبة فوق العادة لذلك الأسمر النحيل، عالي الهمة، كثير الصمت، أنيق السمت، وئيد الخطى، وسيم الروح، نبيل الفكرة.
عزة
لمياء شمت
ياخلي .. وفرحي
إنه صوت عبد الهادي الصديق، بشجنه الندي، يناجي التهارقي خليل فرح، متلمظاً بالنشوة من تبحره في لطافات وتمثلات اسم الخليل، وتفرع ممكنات اللغة من دلالته الممتلئة. وعبد الهادي يعلنها ناصعة بلجاء في (نقوشه على قبر الخليل)، محبة فوق العادة لذلك الأسمر النحيل، عالي الهمة، كثير الصمت، أنيق السمت، وئيد الخطى، وسيم الروح، نبيل الفكرة.
وعبد الهادي لم يكتف بالنقش هناك، بل ظل ينقب عميقاً في تفاصيل الخليل، مذ أطلت سعفته الخضراء برأسها الواعد على مشارع النيل في تراب (صاي)، ويعبر معه وضجيج الحياة يهدر في الذاكرة، وقرقعة الحديد تتعالى في ورشة كلية غردون – قسم البرادين، حيث تخرّج الخليل أفندي مهيب، تتماوج حمرة طربوشه بين الدكنة والالتماع.
ويتابع تياره الجريء وهو يجترح طريقه رازماً بكل عبء الواقع المتململ في قلب الحاضر الحي. متجاوباً بأشعار وأغنيات كثيفة، مرموزة بدلالات الوعي اللصيقة بجوهر الأحداث آنذاك، في مصالحة عميقة بين الوعي بالواقع الاجتماعي والسياسي. حيث تمتد تلك المصالحة لتمس قلب اللغة، لتبدو الفصحى والعامية في أوج تمازجهما وتلاقحهما البديع. إذ يعمد الخليل الى كسر المألوف والمستقر في شعره وأغنياته، مفجراً طاقات العامية، ومُبشراً بسحرها وفصاحتها ونفاذها، ينسجها بحذق في قماشته الأصيلة دون أن يفلت نسق أمشاج الفصحى البديع.
وكما هو حال خله الحبيب، يقف عبد الهادي صعقاً دهشاً في أبهاء الحبيبة "الوطن"، وهي تخطر بين يدي الخليل، منبلجة من غمرة وجده الوطني، ومحتشدة بمجاميع هائلة من الدلالات والتمثلات والرموز التي تدفعها للإبحار أبعد فأبعد في وجدان الأمة، ترفدها أغنيات الخليل بشحناتها الوجدانية، ونبضها الحار وعراقتها المفيضة، وطاقتها الاستثنائية على الإنشاد الملحمي، في صدقية إبداعية تتلاطم بمد الشعور القومي الجياش آنذاك.
ومن تدافع كل تلك الفيوض يستمد اسم (عزة) أيقونيته الحبلى بالرمز والدلالة، ليصبح ذلك الاسم حلقة مُلغزة تلفها التفسيرات في شتى الاحتمالات. فعبد الهادي الصديق يؤمن بلا أدنى زيغ بأن (عزة) اسم سوداني خالص مغزول من (العِزة). أما محمد أحمد محجوب فيجد أن عزة ما هي إلا مرادف رمزي للوطن: (بك ياعزة أعني موطني). وإلى ذلك أيضاً يذهب الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم حيث يناجيها: (الهوى طارح معزة .. النوى جارح يا عزة).)
وتترى التأويلات، فيقترح البعض أنه اسم لفتاة من دم ولحم شغف بها الخليل. وهو ما يبدو تفسيراً فقيراً تتفصم عنه عرى المنطق. فالقيم السائدة عصرئذ تخبر عنها القصائد المختلفة التي اكتفى شعراؤها بالترميز والإلماح والاشارة الطاوية، التي تبوح تلميحاً دون أن تفشي أو تصرح. ومن زاوية أخرى، فإن تأمل الحال المتماور عصرئذ، يجعل (عزة) بالفعل أقرب ما تكون إلى الوجد الوطني منه إلى مناخ العاطفة الذاتية والدائرة الشخصية. وذلك ما يقول به كمال الجزولي الذي يلمح هناك طيف (عزة) زوج البطل عبد اللطيف وكتف نضاله. تلك المتنسكة في محراب الإيثار والعطاء والمحبة الكبرى. الشاحذة فعلها الجسور في وجه الظلم والمخاوف والأسى، وهي تختار أن تقطع أشواطاً فذة فوق جمر الفعل الوطني الملحمي الضاري.
وهي رؤية تترابط على نحو وثيق مع رؤية صلاح أحمد إبراهيم لعزة: (أنها تلك التي أعزت عزة البلاد في ثورة فتى الدينكا علي الثائر في وقفاته الجهيرة). وكما أسلفنا فعزة علي عبد اللطيف، بشقوة صهد كفاحها، تُعد كياناً مثالياً لاتجاهات فكر ووجدان الخليل، العضو البارز في جمعية الاتحاد السرية، والمنافح بعزم لا يبلى لإعادة صياغة صورة الكيان الأنثوي في الذهنية الاجتماعية بانفصامتها المعروفة. في محاولة لعتقها من مرارات النبذ والإقصاء، بتحريض جهير على حق الحياة والتعليم، وعلى هشم القيود في كل تمثلاتها البغيضة. ووفقاً لما استعرضناه وبغياب إفادة ترجيحية تريق الشك، تظل كل التأويلات تتقاسم ذلك المعنى الثجاج الكبير.
ولعل ذلك هو ما أبرزه عبد الهادي الصديق في (عناق الأشرعة). وهو يعقد مقارنة وافية بين خليل فرح وسيد درويش. حيث جمعهما زمن اجتماعي واحد، في مشهد موسوم بذات التململ والقلق الوجودي والكينوني الكبير، فتشاركا غيباً الهم والفكرة والالتزام، واجتمعا من حيث لا يعلمان حول تكثيفهما لرمزي النيل والهلال. وانحازا بإصرار للمرأة وحقها في التعليم. فكانت صرختهما المحرضة متماثلة أحياناً في المعنى واللفظ. حيث يقول سيد درويش:
دا وقتك دا يومك يا بت اليوم
قومي أصحي من نومك .. بزياداك النوم
وفيها صدى بيّن ( لعزة قومي كفاك نومك). وتحضر ذات القيم الاستنهاضية في (عزة في هواك)، التي قدر لها الخليل أن تكون في حد ذاتها نموذجاً نهضوياً مُلهماً، من حيث الآلات الموسيقية، والمقدمة والتوزيع والتنفيذ والمقام والتنويع اللحني، وفيوض الآهات التي منحها الخليل قيمة موسيقية غير مسبوقة في الغناء السوداني.