علي المك

علي المك صورة جانبية بقلم: الدكتور/ مصطفى الصاوي "أجمل ما ذرأ الله في أرضه" (محمد المكي إبراهيم) طقس واحد ظل علي المك يمارسه طوال حياته دون كلل، ودون ملل:الإبداع. ظل قابضاُ على جمرته (الحراقه) في مكتبه في الجامعة

علي المك

علي المك
صورة جانبية
بقلم: الدكتور/ مصطفى الصاوي
"أجمل ما ذرأ الله في أرضه" (محمد المكي إبراهيم)

 

 

 


طقس واحد ظل علي المك يمارسه طوال حياته دون كلل، ودون ملل:الإبداع. ظل قابضاُ على جمرته (الحراقه) في مكتبه في الجامعة، في المنطقة الصناعية، وحتى في سوق أم درمان وسط غمار الناس.. تجاوز معرفة الصفوة، ووجد جوهرته المفقودة بينهم، والتي أخرجها في (الصعود إلى أسفل المدينة) و(القمر في فناء داره) و(مدينة من تراب)، و(حمى الدريس)، وفي سيرة عبد العزيز، صفي قلبه وروحه التي دونها في ترجمة (سيرة غيرية) رائعة.
لعنة واحد إصابته - إن كانت لعنة - (حرفة الأدب) - التي تفجرت في القصة، والترجمة، وكتابة المقالات،والسيناريو. من كل هذه كان حلمه، وواقعه تفانيا في الغوص العميق ليمسك بالنص أي كان نوعه الأدبي منتجا اللون والطعم السوداني.
علي تميز بروح الدعابة والسخرية، تراها في كل ما كتب. دعي مرة ليحاضر في الجزيرة، سأل عن مكان المحاضرة، أجاب محدثه: (نادي الجزيرة)، تبسم علي قائلاً: (يا أخي نادى الجزيرة أحسن محل يلعب فيه الكونكان عاوزين تزحموه بالمثقفاتية!.. هذه السخرية تتفاقم في المواقف الحزينة التي عاشها. قال يبدي تظرفاً(صاحبك صوته خف).. قلت بحدة (صاحبي منو؟) قال (عبدالعزيز داؤود) قلت ساخراً(ما هو أنت موجود) . لقد كانت سعادته المنشودة عندما يكتمل عقد الصداقة النضير.. حسن يحيى الكوارتي، مختار عباس، صلاح أحمد، عبد العزيز داؤود؛ أو حينما يرافق صاحبه الفنان إلى المنطقة الصناعية ويتجمع حولهما الحرفيون والصناعية (صناع الحياة) على حد قول علي المك نفسه. هؤلاء هم الذين تسربوا بشفافية إلى قصصه وإبداعه بشكل عام.

 

 

 


أصالة علي لا يتناطح فيها عنزان.. قادته تلك الأصالة إلى غناء الحقيبة، وهنا كانت صلته مع عتيق، وأهتمامه بخليل فرح، ومدينة أم درمان الجنة المنشودة والمشتهاة؛ فأدخلها عالم الشعر والقصة فأصبحت سيرتها جزءاً من كتاباته، ولم تكن أبداً مصادفة.. ألم يتعلم من خاله علي سليمان (كيف يكون العيش في أم درمان صبابة). عشق مآذنها، ازقتها، وناسها، والتقى مع الظرفاء كمال سينا، الخيال، سامي الصاوي، عبد الرحمن وداعه، وغيرهم كثر.. أصحاب نكتة وظرف، ومجالس تعبق بالود والمحبة. 
شخصيات أخرى ظهرت في مأتمه لا ترتدي البدل اللائقة ولا تتعمم بالعمامات البيضاء الفارهة .. شخصيات باللون السوداني والبساطة السودانية، وتاريخ المدينة التي عشق.. رجال أو نساء، سيان الأمر، اجتمعوا على حب علي، كيف المدينة الآن بعد أن رحل عاشقها؟ لعلها تندب إشلاق البوليس، والملازمين، وملامحها التي تغيرت بفعل فاعل، وميدان الأهلية يراوح بين الإبقاء والبقاء، وجامعة أم درمان الأهلية تدخل الإنعاش.. والكثير الكثير، و(العزلمين) . 
في ذكرى علي نذكر كل القيم النبيلة ونحن نعيش زمن سقوط القيم. كتب أحد الكتاب (علي كاتب صنعه الإعلام). في زمن علي لم تكن هناك صناعة نجوم وفرض شخصيات بقوة الإعلام الموجه الجبرية. ولكن الطقس الإبداعي الذي مارسه منذ الثانوية، مروراً بجامعة الخرطوم، ثم ابتعاثه للخارج للدراسة، والصحبة الأدبية ونوع الدراسة، والحريات العامة، والمواهب الفطرية. ثم كان لعبدالله الطيب تأثير كبير على نمط كتاباته القصصية بما فيها من حسن السبك والدقة اللغوية والاستطراد المحبب. هذا الذي صنع علي المك ولا شيء سواه.. تلك قضية أخرى. صنعة الانتماء لهذا التراث والموهبة الفذة التي أفرغ طاقاته الإبداعية مستمدة من كل ما رأى وما سمع وما قرأ، وأدمجها في نسيج فن مميز ومتميز .
وعودة إلى بدء، فقد شكلت أعماله القصصية (الصعود إلى أسفل المدينة)، و (القمرجالس في فناء داره)، و(حمى الدريس) أنشودة حب تعني الإنسان البسيط والذات التي تتوق إلى الحرية والتضامن الإنساني.. وأهم من ذلك كله تبوأت المدينة مكانتها في نصوصه - أم درمان - كشخصية محورية. موهبة علي القصصية تنهض على استخدام اللغة بحساسية وتجويد؛ وتنبع هذه الحساسية من النصوص الكلاسيكية والقرآن الكريم. وكذلك يدمج العامية المحكية في نصه. وأنشأ علي المنظور الواقعي في المعالجة. وفي ذكراه نحتفي بقصصه وشخصياته، خاصة لأننا نشهد زمن القص الرديء ، واللغة الركيكة والأحكام النقدية الجوفاء. وتبقى قيمته الفنية الرمزية :حكاء عظيم ، ومثقف وطني، وأستاذ جامعي، ومواطن بسيط، عشق غمار الناس، وبسطاء الناس وعاش بينهم ودوداً ومحباً وعاشقاً.. نفذوا إلى إبداعه بشفافية وعمق .. رحمك الله وأحسن اليك يا (أجمل من ذرأ الله في أرضه).
صلاح أحمد إبراهيم