الأديب ومفوض الشرطة (1)

الأديب ومفوض الشرطة (1) عامر محمد أحمد حسين هذا العنوان مضلل جداً, ولا تثق به ياقاريء المقال. قبل سنوات وفي نهاية شتوية وفي حيز ضيق تحدد مساحته "الكشة" اليومية "لفريشة" الكتب. وقف شخص طويل القامة يتلفت في ذهول وعندما لا يلتفت تتحجر مآقيه. أنزل من ظهره "جوالاً – شوالاً" وبسرعة وفي نفس "الشوال" فرش كتبه

الأديب ومفوض الشرطة (1)

الأديب ومفوض الشرطة (1)

عامر محمد أحمد حسين

 

 

 

 

هذا العنوان مضلل جداً, ولا تثق به ياقاريء المقال. قبل سنوات وفي نهاية شتوية وفي حيز ضيق تحدد مساحته "الكشة" اليومية "لفريشة" الكتب. وقف شخص طويل القامة يتلفت في ذهول  وعندما  لا يلتفت  تتحجر مآقيه. أنزل من ظهره "جوالاً – شوالاً" وبسرعة وفي نفس "الشوال" فرش كتبه. تمددت مساحة دهشتي وهو يصيح بـ "ثلاثة" فقط ما اشتريته من كتب احتفظ بعناوينها للزمن إلا أن هذا الكتاب بعنوانه المختلف يحكي عن شعب وكتاب وكاتب.والكتاب ممتع ومحزن ومضحك، ويحكى عن التسلط والاستبداد بصورة تفوق الخيال ولكنه واقع وواقعية سحرية حقيقيه، وهذه بعض مقتطفات من كتاب " الاديب ومفوض الشرطة للكاتب المجرى الراحل "جورج بالوشي هورفات"

جورج بالوشي هورفات

يقول "قدري قلعجي" في مقدمة الكتاب "هورفات أديب مجري, يصف نفسه بأنه ينتمي الى "الأخوية العالمية للمنفيين وخريجي السجون, فمنذ صعود النازية في المانيا وهو يكافح ضد الظلم والطغيان وقد أفلت بأعجوبة من قبضة الجستابو يوم احتل الهتلريون بلاده فألتجأ الى أراضي الحلفاء, ووقف موهبته لمحاربة هذا الاحتلال. ثم عاد لينعم مع أبناء شعبه بالحرية التي ناضلوا من أجلها فتبين له أن كل ما حدث هو أن المجر قد استبدلت استعماراً باستعمار وأن القبضة الحديدية الروسية قد حلت محل القبضة الألمانية..

سقوط ستالين

وفي سنة 1956م أرادت روسيا أن تظهر في العالم بوجه جديد, وأن تسلك سياسة التعايش السلمي مع الأنظمة الرأسمالية وان تمد يد المصالحة للمارشال "تيتو" "الزعيم اليوغسلافي" فنددت في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي بعبادة الشخصية وعددت جرائم،  ستالين وشجبت الأحكام البوليسية، والمحاكمات الصورية وأعادت اعتبار الكثيرين ممن اعتبرهم العهد السابق خونة، ومجرمين. وقد تنفست أثر ذلك شعوب أوروبا الشرقية الصعداء،  وعبرت بأسم محاربة الستالينية. وهكذا انطلقت حركات التحرر في دول أوروبا الشرقية،  واشتعلت الثورة في المجر وانتصرت وخفقت في سماء المجر أعلام الوطنية والحرية والسلام.

الدبابات

في فجر اليوم الرابع من تشرين الثاني نوفمبر 1956م تحدث "امري ناجي" رئيس الحكومة المجرية، التي أعقبت الثورة فقال "أنا الرئيس امري ناجي في هذا الصباح هاجمت الجيوش السوفياتية عاصمتنا لقلب الحكومة الديمقراطية, ان جنودنا تقاوم ببسالة والحكومة باقية في مكانها, وها أنذا أبلغ الدنيا ما نزل بنا. وأذاع اتحاد كتاب المجر بياناً قال فيه "هذا اتحاد كتاب المجر يناشد كتاب العالم ومفكريه ومعاهده وجمعياته أن يمدوا لنا يدهم بالمساعدة، أننا في ضيق شديد والوقت يمضي بسرعة وانتم تعرفون الحقائق, وليس هناك ما يستدعى الإسهاب في الشرح, فساعدوا المجر, ساعدوا كتاب المجر, وعلماءها وعمالها وفلاحيها, وشعبها كله, النجدة, النجدة, النجدة, اغيثونا, اغيثونا, اغيثونا, اغيثونا". وعلى أثر ذلك توقفت الاذاعة لتستأنف بثها بعد تسع ساعات, وكانت القوات السوفياتية التي اقتحمت المجر مؤلفة من ستة آلاف دبابة وآلاف المدافع والمدرعات وأسراب ضخمة من طائرات الميغ, تحمي مائتي الف جندي سوفياتي هرعوا لانقاذ المجريين من أخطار الديمقراطية..

مصير "ناجي"

التجأ "امري ناجي" الى السفارة اليوغسلافية مع خمسين من زعماء المجر. وقد أعطى "كادار" الذي ألف حكومة دمية جديدة أعطى "امري ناجي" وعد شرف بأنه سيسمح له ورفاقه بمغادرة البلاد دون أن يتعرضوا لأي مكروه،  اذا ما غادروا مقر السفارة اليوغسلافية, فما كادوا يفعلون ذلك حتى اعتقلهم الجنود الروس وظل مصيرهم مجهولاً وقتاً طويلاً ثم أذيع بعد ثمانية عشر شهراً "في 17 حزيران/يونيو 1958م" أنهم قد حوكموا في أحد الأقبية ونفذ  فيهم حكم الاعدام" وكانت حكومة "كادار" قد أذاعت وقت اعتقالهم "اعتقلهم الجنود الروس وساقوهم ليكونوا ضيوفاً على رفاقهم في الحزب الشيوعي الروسي الشقيق الأكبر والقائد الحادب على جميع الحركات اليسارية".

هورفات

كان "جورج بالوشي هورفات" أحد الأشخاص الذين استطاعوا النجاة من المذبحة، والإلتجاء الى الغرب ليعيش حياة المنفى" يقول هورفات "الكاتب يثير مفوض الشرطة بأقواله الناقدة،  وبموقفه التجريبي محاولاً أن يقول الأشياء بصورة مختلفة, فالكاتب في نظر مفوض الشرطة وقح ومتلاعب لا مسؤول في الكلام. مفوض الشرطة في الدول الشيوعية هو الكاهن الأعلى فهو يعتقد بكل رسوخ أنه لا يجوز لأحد في الحياة الحزبية والحياة العامة, أن يكون له اعتبار فردي وشعبية باستثناء الزعيم الأعظم أو الزعماء العظماء. ان التناقض بين الموهبة الأدبية الفردية والاحتكار الحزبي واضح تماماً, فالحزب يصر على السيطرة التامة على الأدب ويصر على التحيز, ويجاهر بكرهه للعبقرية الفردية, ويصر على ضرورة التشابه ما بين الشكل والمحتوى" ويضيف "هورفات" "مفوض الشرطة يطرى المؤلف الانكليزي ديكنز ككاتب مجيد،  يكشف التعاسة،  والظلم الذين شاهدهما في بلاده, ولكن الويل للكاتب الذي يجرؤ أن يقدم على مثل ذلك في أحد البلدان الشيوعية. ومفوض الشرطة يريد من الكاتب أن يكيف المخلوقات البشرية بحيث لا يسألون ولا يناقشون, أما الكاتب فإنه يريد أن يكتشف المخلوقات البشرية.

الأدب السوفياتي يسجل رقماً قياسياً في المؤلفات الناتجة عن الخوف

في موسكو أطلق الأدباء الذين يرجعون بالأصل الى الطبقة العاملة على جمعيتهم اسم "الكور" "كور الحداد" وأعلنوا أن الفن البروليتاري هو المنشور الذي تتركز فيه شخصية الطبقة وكانت هناك أيضاً "جماعة تشرين الأول" الذي ينتمي اليها "ايفرباخ وكيرنسكي" وجماعات اقليمية أخرى وانضم شعراء "المستقبل" الى الثورة أيضاً وأنشأوا فيما بعد "الجبهة اليسارية للكتاب وكان زعيم هؤلاء الشاعر فلاديمير مياكوفسكي الذي وضع الشعار القائل "المستقبل في خدمة الثورة" وكتب عام 1918م ابياتاً عنوانها "مرسوم الى جيش الفن" جاء فيها:

هو وحده شيوعي صادق

ذلك الذي يحرق جسر التراجع

كفى السير بطيئاً أيها

الاستقباليون

والى المستقبل.. سيروا قفزاً"

وكتب مياكوفسكي عام 1926م:

 "أريد أن يوضع القلم على مستوى واحد مع الحرية

أريد من ستالين باسم البولتبيرو

أن يقدم تقارير عن انتاج الشعر

الى جانب تقاريره عن الحديد والفولاذ"

ويضيف هورفات "في أواخر العقد الثالث من هذا القرن كان ستالين قد أتم إعداد جهازه القاتل الممثل بالطغيان البيروقراطي وبدأت عمليات التطهير،  فهاجم الحزب أفرياخ،  وفادييف لأنهما يحاربان ضد التطرف اليساري فقط متناسين النضال ضد الانحراف اليميني, ولكن سرعان ما حولا الى مفوضي شرطة للأدب وصارا من قادة الحرب الطبقية ضد جبهة الأدب.

الحرب الطبقية على جبهة الأدب

العام 1930م كانت الجمعية الروسية للكتاب البروليتاريين قد احتكرت حياة الأدب مما دعا السلطات الحكومية الى فرض الحظر على اثنتين من رواياته, وأرغم مياكوفسكي كغيره من الكتاب الآخرين على الانضمام الى الجمعية الروسية للكتاب البروليتاريين بغية الدفاع عن نفسه فجاء أول مرة الى اجتماعهم في شباط/فبراير 1930م وصرخ قائلاً:

"إن آرائنا مختلفة, فأنتم تعرفوني وأنا أعرفكم, وانني انضم اليكم لأنني أعلم أنني اذا بقيت خارج منظمتكم فلن أستطيع العمل". وفي 25 آذار/مارس من تلك السنة تلا مياكوفسكي شعراً جديداً في اجتماع عام قال فيه:

لقد زهقت

من الدعاية والتحريض

أود

أن أكتب لكم

أناشيد الحب, فهي

فاتنة ساحرة

وترد ربحاً جزيلاً

ولكنني

تغلبت على نفسي

وسحقت تحت القدم

الحلق الذي كان

يغني أناشيدي بالذات"

وفي 14 نيسان/ابريل 1930م انتحر مياكوفسكي باطلاق النار على نفسه فقوبل هذا التصرف الذي يتنافى مع البولشفية بانتقادات شديدة ومرت فترة من الزمن لم تنشر فيها مؤلفاته وازيل اسمه من برامج المدرسة أما اليوم فإنه يعتبر من جديد "شاعر الثورة" استغلالاً للشهرة التي اكتسبها" وفي 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1930م أعلنت الجمعية الروسية للكتاب البروليتاريين مايلي:

"نحن الكتاب ومؤلفي الدراما السوفياتيين نحيي من صميم قلوبنا الحارس الحقيقي للثورة "منظمة الغيبيو" "شرطة الأمن السوفياتي" ونطلب من الحكومة منحها وسام لينين".