عارض...

عارض... اسيا رحاحلية.. الجزائر  لم أدع أبي يلتقط أنفاسه. جريت نحوه و هو يجتاز عتبة الباب، كان يطرد بأنامله عن كتفيه حبات مطر عنيد التصقت بسترته الرمادية.  أبي، أبي، أخبرني ما سر هذا المطر؟ منذ يومين يسقط فجأة بغزارة ثم ينقطع فجأة أيضا وتظهر الشمس؟ - دعيني أدخل أولا.. هذا يسمّونه عارضا يا فاطمة. سحاب محمّل بالمطر الغزير، يمر بسرعة شديدة. احضري لي سترتي الأخرى وتعالي حدّثيني عن يومك في المدرسة.

عارض...

عارض...

اسيا رحاحلية.. الجزائر 

لم أدع أبي يلتقط أنفاسه. جريت نحوه و هو يجتاز عتبة الباب، كان يطرد بأنامله عن كتفيه حبات مطر عنيد التصقت بسترته الرمادية.
 أبي، أبي، أخبرني ما سر هذا المطر؟ منذ يومين يسقط فجأة بغزارة ثم ينقطع فجأة أيضا وتظهر الشمس؟
- دعيني أدخل أولا.. هذا يسمّونه عارضا يا فاطمة. سحاب محمّل بالمطر الغزير، يمر بسرعة شديدة. احضري لي سترتي الأخرى وتعالي حدّثيني عن يومك في المدرسة.
أحضرت لأبي سترته. لم أجلس لأحادثه كما طلب بل هرولت مسرعة خارج الغرفة. وقفت في وسط الحوش.. ورحت أدور حول نفسي بحركة بهلوانية، رافعة يداي إلى الأعلى، شاخصة ببصري إلى السماء وأنا أردد "عارض، عارض"..قطرات المطر تبلّل وجهي.. أخواتي يقفن على عتبة الباب، يتضاحكن من جنوني، وأمي من نافذة المطبخ، تضرب كفا بكف وتقول "جنّت الصبيّة".
هطل المطر بسرعة وغزارة ثم توقف في رفّة جفن. كأنّ خيوطا لا مرئية سحبته إلى السماء. بعد ذلك ظهرت شمس مختلفة جدا، مشرقة الجبين، مشدودة الوجه، مورّدة الخد كأنّما اغتسلت بالذهب.
غسل العارض قرميد منزلنا فبدا أحمر قانٍ، والعصافير التي فاجأها المطر و فرّت إلى حيث لا أدري، عادت من جديد لتبدأ موّال الزقزقة فوق شجرة التين العتيقة..
2
كنا نهرول في كلّ اتّجاه.
باغتنا المطر ونحن في باحة الجامعة الفسيحة..
السماء التي كانت صافية تماما تلبّدت فجأة وهطل مطر قويّ غزير.
قلت لأحمد ونحن نجري باتّجاه مكتبة الجامعة:
- هل المكتبة أبعد مما كانت عليه منذ قليل أم أنه يتهيأ لي؟
- هي نفسها، يا فاطمة، لكن المطر يغيّر الأبعاد.. هو الوحيد الذي يملك القدرة على تمديد المسافات. اقتربي..التصقي بي وتذكّري دائما ألاّ تدعي المسافة تتّسع بيننا سواء تحت الشمس أو تحت المطر..
وأردف:
- انتظري، ضعي هذا الكتاب على رأسك، سيحميك حتى نصل المكتبة.
- لا..لا.مستحيل ! أفضّل أن يتبلّل شعري على أن نخسر الكتاب. نحتاجه للمراجعة.
- يا مجنونة، الكتاب يمكن الحصول عليه من أية مكتبة. أين سأجد شعرك لو أفسده المطر؟
تعالت ضحكاتنا وامتزجت مع المطر وسحبتها السماء مع العارض إلى الأعلى.
منذ ذلك اليوم لم نضحك سويّا بذاك الصفاء أبدا.
العارض مطر مفاجئ ترسله السماء.
الحب عارض مفاجئ ترسله السماء.
الفرق أن الحب حين يمرّ لا شمس تشرق بعده بل صقيع قاتل يحاصر القلب.
كذلك تماما مرّ عارض حبّنا ليغرق قلبي في عصر جليدي طويل.
قلت لي "هذا الوطن ليس لنا يا فاطمة..هذا الوطن للسرّاق والخونة والمنافقين والجبناء.. لقد اقتسموه قطعة قطعة كالجبن.. هذا الوطن لا مكان فيه للأذكياء والعباقرة مثلك ومثلي يا فاطمة.. هذا الوطن سيقتل طموحنا، سيسحقنا، سيسرق أعمارنا، سيحيلنا ظلالا تمشي على الجدران. أنت و أنا نستحق وطنا أفضل، يعترف بموهبتنا، يقدّر ذكاءنا، يحترمنا..تعالي معي."
صرخت فيك "أيها الخائن، الناكر للجميل..كيف تقول هذا عن وطننا الذي مات من أجله والدي ووالدك".
ولأشهر طويلة بقيت تحاول إقناعي بالهجرة، الآن أستطيع أن أعترف بالحقيقة.. الفرصة التي جاءتنا لمواصلة الدراسة في أمريكا كانت ذهبية فعلا، من الغباء المصفّى أنني ضيّعتها..كنت تحلم بأنّ تصبح من أشهر المهندسين المعماريين في العالم.. كنت الأول على الدفعة ولم يكن حلمك صعب المنال.
قلت لي كل الأحلام الجميلة تتبخّر في هذا الوطن..قلت لك يبقى وطننا رغم كل شيء وقد كان الحلم ذات زمن..قلت لي الوطن ليس التراب، ليس الحدود الجغرافية..ليس العلم ولا النشيد الوطني ولا الرئيس ولا الملك..قلت لي الوطن هو حيث نستطيع أن نثبت وجودنا وقدراتنا، حيث نستطيع أن نمارس حياتنا اليومية بكل راحة و حرية، هو حيث نكون سعداء وأحرار وآمنين نحن الاثنان.
وكنت أقول لك الهجرة نوع من الهروب والهروب وسيلة الجبناء. لن يغفر لك والدك الذي لم يخن وطنه ورفاقه والجنود الفرنسيون يقتلعون أظافره وشعر رأسه في سجن "سركاجي"..
هل حقا كنت أدافع عن الوطن و كنت أدرك بأنّ معظم ما تقوله صحيحا؟
في الحقيقة كنت أدافع عن الحب..الوجه الآخر للوطن.. أنثى تهشّ الموت على حبها..قطة تحاول حماية صغيرها من الغرباء.. نعم الغرباء..كنت أتساءل.. حبّنا الذي ولد فوق هذه الأرض وتشبّع برائحة هذا التراب هل سينمو ويزهر فوق أرض أخرى، وتربة أخرى، ومناخ آخر؟ كان هاجسي أن أن أسافر معك وراء البحر لكي نبني ذاتنا و مستقبلنا فأخسر حبك و أخسر الوطن.
بقينا لوقت طويل بين أخذ ورد.. لا أنا اقتنعت بحتمية الرحيل ولا أنت اقتنعت بضرورة البقاء.
ثم سافرت.
قلت لي كلاما كثيرا، عن القضاء و القدر، عن المستقبل، عن الحب، عن الوفاء..قلت إنك ستكون تعيسا بدوني. نثرت في قلبي تلك الكلمات التي نوزّعها عند الوداع على عتبات الزمن و تحرقها نار الفراق فتصبح بعد وقت قصير مستحاثة بلا روح.
مرت أعوام كثيرة بعدها، وكنت كلما أتذكرك أشعر بالمسافة بيننا تتوسّع أكثر. وأبكي.
الدمع أيضا يمدّد المسافات يا أحمد.
 
3
- دعيني أغلق النافذة يا سيدتي..المطر يسقط داخل الغرفة.
- لا تفعلي أرجوك. أريد أن أستمتع برؤية هذا المنظر للمرة الأخيرة..أليس اسمه "عارض"..؟
لم تجبها الممرضة. اكتفت بأن صوّبت نحوها نظرة إشفاق ثم غادرت الغرفة. كان وجهها شاحبا كأن ليس به قطرة دم واحدة.. تبدو في العقد السابع من العمر..جاء بها أحدهم في صبيحة يوم شتوي بارد إلى دار المسنّين.دفع كل مستحقات الدار بسخاء. قال أنه من طرف فاعل خير ورفض إعطاء أية معلومات أخرى. لم تكن تتحدّث إلا نادرا..تقضي وقتها ساهمة محدّقة في اللاشيء ولم يكن على لسانها سوى سؤال واحد.."في أي فصل نحن؟"
بعد قليل، حين عادت الممرضة إلى الغرفة لكي تتفقّد العجوز، كانت عدة رسائل و صور مبعثرة على الأرض قرب السرير.
كانت فاطمة قد أغلقت عينيها إلى الأبد.
و كان العارض قد مرّ.