طقوس التألم وحيداً

طقوس التألم وحيداً سوزان ابراهيم.. سوريا ترتبط حياة معظم الكتّاب بمنهج تكون العزلة فيه كوناً آخر موازياً للواقع. هنا تكون العزلة منتجةً أكثر من الإقامة وسط الناس وصخب الحياة.

طقوس التألم وحيداً

طقوس التألم وحيداً

سوزان ابراهيم.. سوريا

 

 

ترتبط حياة معظم الكتّاب بمنهج تكون العزلة فيه كوناً آخر موازياً للواقع. هنا تكون العزلة منتجةً أكثر من الإقامة وسط الناس وصخب الحياة.
لطالما كانت العزلة مشغلاً حقيقياً للإبداع. حتى الرسالات السماوية جاءت من أمكنة العزلة كالغار والمغارة, وجاء بها أنبياء رعاة, ولا يخفى على أحد ما تتمتع به حياة الرعاة من عزلة وابتعاد عن الناس والحياة العادية.
تبدأ الكتابة والتأليف من سكون العزلة وصمتها, هي رحم يحتضن, لهذا يمكن وسم العزلة بأنها صفة أنثوية. في القديم القديم وكانت عشتار آلهة على عرشها, قام مردوخ بشطرها إلى نصفين, لأن أتباعها الذكور ملّوا حالة السكون والصمت باعتبارهما حالة أمومة, وانقلبوا عليها.
لكن الكاتب الذي يتقصد العزلة ويقصدها, لا يقبل بها حالة مستمرة لمنتَجه الإبداعي تالياً.. فنراه يخرج على العالم منتشياً بنصه- وليد العزلة ليعلو صراخ طفولته ويعلن بداية حياته.
حين يهمل الناسُ الكاتبَ, أو يهملون نصه, هل يدخلونه بيت عزلته مرة أخرى قسراً هذه المرة؟
إذ ثمة عزلة داخلية اختيارية, وعزلة خارجية مفروضة على الكاتب ممن يعزفون عن قراءة نصه- رسالته!
يبدو أن الكاتب يعيش تناقضاً كبيراً بين حاجته للعزلة, وحاجته للآخر, وحاجته للتقدير والثناء على عمله. بعض الكتاب يدّعون عدم الاكتراث بالقارئ, أو بالمتلقي, فهل يصحُّ ما ذهب إليه هذا الكاتب من تقليل لأهمية العالم الخارجي وتأثيره على نصه؟ ألا يشكّل الآخر في هذه الحالة استمرارية لحياة النص؟
من جهة ثانية, يعيش معظم الكتاب والمثقفين مع الكتب, وغالباً ما تتوافر مكتبة كبيرة في بيت كل منهم, فهل يمكن اعتبار من يقيم مع الكتب في حالة عزلة؟
تختزن الكتب حيوات وعوالم وأزمان. تختصر الكتب الجغرافيا والتاريخ, فهل يكون الشخص وحيداً حقاً بينهم؟
حين تعيش مع كتاب جميل- خاصة إن كنت كاتباً- فلا يمكنك أن تكون وحيداً ومنعزلاً لابد أن همنغواي مرّ بك وألقى التحية. لابد أن يكون شكسبير قد حدّثك عن بعض تراجيدياته. لابد أن يكون "ياغو" دينمو الفعل في "عطيل" قد أثار حنقك, أو أنك بكيت لمصير "آنا كارنينا"! لابد أن تكون أوراق الذرة الحمراء الرفيعة ل "مو يان" قد خشخشت في صمتك.
ببساطة تتواشج حياة الكاتب بين العزلة كمرحلة أساسية لإنتاج النص, وبين الحاجة إلى الآخرين الذين يعطون الأهمية اللازمة لقيمة ذلك النص.
خرجت الرسالات من عزلة, إلى مجتمع وكان لابد لها من أتباع, فما نفع رسالات بلا أتباع!!
هكذا تغدو مهمة الكاتب متماهية مع مهمة الأنبياء, باستشرافهم المستقبل وقدرتهم على التواصل مع الماورائيات, وما ذلك إلا بفضل العزلة والصمت- حالة الخلق الأولى, حالة الرحم, حالة الأمومة.
نحن أبناء العزلة, نخرج إلى الحياة من عماءٍ أولٍ. نتكون من كل ما تخمّر في تلك الكينونة الصامتة, ثم نعود إلى صمت الموت وعزلته. الحياة مسافة فاصلة بين عزلتين! إنها مجرد فاصل منشط بينهما!
ولكن لماذا نكتب؟ هل نضمد جراحنا أو خساراتنا بالكتابة؟
نكتب لأننا أبناء الهشاشة- فالحياة أكثر المخلوقات هشاشة- نلجأ إلى صلبٍ يسندنا, أو إلى كاهن لنعترف. الكتابة عزلة واعتراف, وربما انتقام من هشاشة الحياة. في عزلته يمارس الكاتب طقوس الألم وحيداً فالألم ليس طقساً جماعياً. يحترق. الكاتب في عزلته أنانيٌّ وهو يعي ذلك. الكتابة أيضاً في مغارة العزلة ليست طقساً جماعياً, ولهذا يكون الخلاص دوماً فردياً وليس طقساً جماعياً.
في عزلته يتألم الكاتب ويحترق, لكنه يريد لهذا الضوء المنبعث من نيرانه أن ينير الكون.