رفاعيات 3

رفاعيات 3 د. نعمات كرم الله صفات العالم وثقافته (ج أ) نثمن في البداية هذه الكتابة الجادة والملتزمة بطرحها وتركيزها على هموم ومشاكل مجتمعها وعموم الإنسانية. وفي علاقة مباشرةن نور مع الموضوع السابق نتناول هذه المرة صفات العالم وثقافته بحسب ما وضع اطرها وشدّد عليها كاتبنا المبدع علي الرفاعي من خلال شخصية (حسون ود النعمان) وآراء بقية الشخوص فيه داخل نصوص (طواحين النمل).

رفاعيات 3

رفاعيات 3

د. نعمات كرم الله

 

 

 


صفات العالم وثقافته (ج أ)
نثمن في البداية هذه الكتابة الجادة والملتزمة بطرحها وتركيزها على هموم ومشاكل مجتمعها وعموم الإنسانية. وفي علاقة مباشرةن نور مع الموضوع السابق نتناول هذه المرة صفات العالم وثقافته بحسب ما وضع اطرها وشدّد عليها كاتبنا المبدع علي الرفاعي من خلال شخصية (حسون ود النعمان) وآراء بقية الشخوص فيه داخل نصوص (طواحين النمل).
من أهّم الصفات التي يُلفت نظرنا اليها الكاتب هي البحث عن الحقيقة كما جاء على لسان (جوهانا ريد) ضمن خطاب أرسلته إلى المأمون بعد عودتها  الأولى للندن "والآن یامامون، آن الأَوان للإجابة عن سَؤال ظَّل یَؤِّرقني  زمانـا : لمـاذا لـم یكتب حسون تاریخ حیاته، كما یفعل بعض المشاهیر ومدعي الشهرة؟ ربما لأَنه یعتبر حیاته حیاة عادیة مْثل حیاة كـل النـاس، لـیس فیهـا شـيء خـارق یستحق التَّسجیل .. ُرَّبما أَنـه كـان یـؤمن أَنَّ حیاتـه ملـك لـه، والكتابـة عنهـا حق  لمن سیأتون بعده .. ُرَّبما لا هذا ولا ذاك، ولكنَّ التبریر الَّذي اقتنعت بـه أخيراً هو أَنه لم یكتب تاریخ حیاته بسبب حِّبه الشدید للحقیقة ؛ إذ لعلـه قـد وضع في تقدیره أَنَّ هنالك من سیأتي ویبحث في حیاته الخاصة من خلال مـا تركـه فـي تلـك الـصنادیق .. َّ لعلـه أَراد أَن یـشِبع روح البحـث عـن الحقیقـة فـي من یتصَّدى بالدراسة لمحتویات تلك الصنادیق. هل رأَیت یامامون ثباتًا على المبادىء أَكثر من هذا؟" (قبيلة من وراء خط الأفق: ص164).

 

 


   إنّ البحث عن الحقيقة يعني أن يفكر الإنسان في فهم العالَم والكون من خلال التعمق في النظر والتأمل فيهما للإجابة، في حدود المتاح، عن الاسئلة الكبيرة والملحة التي تصب منافعها في حياة البشرية عموماً. وليس أدّل على ذلك اليوم من تسخير التكنولوجيا وتطورها، من خلال الذكاء الصناعي، لإعادة طرح الأسئلة القديمة في الغرب.
 والحقيقة العلمية تفرض نفسها على العقل، في كل زمانً ومكان، بقوّة المنطق والبرهان وحدها مما يثبت  عالميتها. يؤكد (حسون ود النعمان) أنّ العالِم الكبير ينتمي للعالَم كله وليس فقط لوطنه، وذلك لأنّه يفكر  بعقلية عالمية تهدف لمصلحة الأنسان عموماً دون تمييز أو فرز. وهكذا يتصف التفكير العلمي بأنّه بحثٌ موضوعيٌ نزيهٌ عن الحقيقة يُوزَن بميزان العقل وحده ويجعله أساساً له.
وقد ذكرنا أنّ التفكير العلمي لا يقتصر على العلماء وإنّما لكل شخصٍ يُنمي مقدراته العقلية بالمعرفة والخبرة. وهذا يتطلب توفير المعرفة وجعلها متاحة، وتنمية المهارات الأساسية مثل تطوير النزعة النقدية وحب القراءة والإطلاع خلال التعليم الأساسي في المدارس، بالإضافة إلى القدرة على البحث والتنقيب ومعرفة مناهجه. ونلاحظ أنّه في كثير من الدول يًعوّل على الخبرة والمهارة في التوظيف وليس تراكم الشهادات والدرجات العليأ، بعكس ما يحدث عندنا من التمسك بهذه السياقات. وفي هذا الاطار يقابل الكاتب علي الرفاعي  بين شخصية (جوهانا ريد) الباحثة الإجتماعية المتمرسة وشخصية (ود الباشكاتب) الذي يصفه  لنا الراوي من وجهة نظر(الميجر) "لـم یـستغرب المیجـر حـین وجـد ودالباشـكاتب یتحَّدث مع الخواجیة بإنجلیِزیة لم یفهم منها كلمة واحدة، وهو الذي یعلـم أَنَّ ودالباشـكاتب رغـم أَنـه لـم یتلـق تعلیمـاً منتظماً كثیـرا، إلا أَنـه قـد ثَّقـف نفـسه ثقافة رفیعـة للغایـة فـي كـل المعـارف خاصـة فـي اللغـة الإنجليزیـة ؛ حتـى إنـه عمـل كبیـر متـرِجمین خـارج وطنـه، وبعـد مـوت أَبیـه جـاء واسـتقَّر بالبلـد كمـا یفعل معظم أَبناء البلد"  (كي لا يستيقظ النمل: ص149).
وتوجد قي الواقع نماذج لباحثين ومفكرين طوروا أنفسهم خارج أطر التعليم النظامي من أمثال أبي القاسم حاج حمد وغيره.
وعندما شرع شباب القرية في البحث عن إجابة لتساؤلهم هل انتحر (حسون ود النعمان) أم قتل؟ تقدم ود الباشكاتب بالسؤال التالي للخواجية:
 ـلقد اقتربنا من الوصـول إلـى حقیقـة رِهیبـة، أَلا یوجـد فـي جعَبتـك مـا یسِرع بنا إلى النتیجة؟
الخواجیة : للأَسف لا. لكَّنها أَردفت بعد أَن نظرت بعمق في عیَني ودالباشكاتب :
 قطعا هنالك حلقة مفقودة . لماذا لا تسافر والمـامون إلـى الجامعـة الأَفریقَّیـة التـي عمــل حـسون بهــا آخـر مـا عمــل فــي حیاتـه؟
وهكذا نجح (ود الباشكاتب) بتفكيره المنظم، خلافاً للباحثة المتخصصة، في الإجابة على السؤال والتحقق من أنّ (حسون ود النعمان) قد قُتل بسبب علمه بواسطة الدكتور مايكل. ليس هذا فحسب، فقد كشف البحث والتنقيب الذي قام به شباب قوزقرافي برئاسة ود الباشكاتب أنّ دكتور (مايكل) قد خدع الباحثة (جوهانا ريد) كثيراً واستغلّها لتنفيذ مخططاته ضد بروفيسور (حسون)، وهي لم تدرِ شيئاً.
وعند سؤال (ود الباشكاتب) للدكتور (كتَكو) عن سبب كراهية الاوروبيين والغرب عموماً ل(حسون ود النعمان)، كانت إجابته:  
"بروفیـسور حـسون إنـسان تـآخى قلُبـه وعقُلـه؛ لـذا وقـف بـصلابة فـي وجـه مـن اسـتعمروا بـلاده. (...) أُوروبا كلها ـــ ومعهـا الغـرب ـــ تكـره بروفیـسور حـسون؛ لأَنهـا تعتقـد أَنَّ مثـل عقله لا یجب أَن یكون في جمجمة عبد. ، ولكـنَّ بروفیـسور حـسون أَثبـت بطـلان هـذا القانون كلمة كلمة ؛ لذا تكرهه أُوروبا والغرب . الأُورِبُّیـون وأَهـل الغـرب كـانوا یقولون (إذا رأَیت عبًدا نائما فایقظه؛ كي لا یحلم في نومـه بالحِّریـة) ؛ لـذا كرهـوا بروفیـسور حـسون؛ إذ أَثبـت لهـم أَنَّ النـوم لـم یعـد شـرطا للحلـم، وأَنَّ العبد أَصبح یحلم وهو مستیِقظ." (كي لا يستيقظ النمل: ص161/162).
هنا أضاف دكتور (كتَكو) بعداً آخر فيما يتعلّق بالبحث عن الحقيقة بقوله (حسون تآخى قلبه وعقله) في إشارة صريحة لمعرفة الذات الإلهية في مقابل الذات الفردية التي لا تتم بالعقل وحده، لأنّ العقل وظيفته إدراك الأشياء بأضدادها، أما معرفة ذات الله فتستلزم أن يتوحد العقل مع القلب لأنه لا توجد لها أضداد. والجدير بالذكر أنّ كل هذه الدلالات قد فصّلها الأستاذ محمود محمد طه في شرحه لمفهوم (الطريق إلى محمد صلى الله عليه وسلم).
" لعَّل ودالباشـكاتب قـد أَدرك فـي تلـك اللحظـة أَنَّ الكـون لـم یخلـق سـدى، وأَنَّ العقل البشِري لیس هو غایة الوجود"  هذا ما سرّه الراوي في نفسه.

يسلِّط الكاتب علي الرفاعي الضوء، من خلال صفة الموضوعية في البحث عن الحقيقة، كصفة للعالِم، على أهمية توجيه العلم والبحث فيه إلى فائدة البشرية حتى نصبح جزءاً عضوياً من عالم اليوم وليس من رجرجته أو عبيده. وليس خافياً على أحد تدني القيمة العلمية لكثير من البحوث العلمية بسبب عدم جدواها وفائدتها العلمية والمعرفية، ... مما يطرح سؤالاً حول فلسفة البحث العلمي هل هي للترقي على سلالم الهيكل الوظيفي والراتبي أم من أجل البحث العلمي في حد ذاته؟ سؤال نثق أنه من خلال سياسات التعليم المعلنة، في إطار خطط الدولة المدينة، ستكون إجابته تطويراً للعقول وللبحوث.
يقول الكاتب باولو كويلو، في سفره الموسوم ب(مكتوب)، على لسان معلّمِه أنّه "طلب من تلميذه أن يلبس حزامه في الإتجاه المعاكس الذي تعوّده. فامتثل التلميذ وبعد أشهرٍ أخبر معلّمَه انّه، وبفضل تجربته، صار يتعلّم أسرع من ذي قبل، وقال: تمكنت من تحويل الطاقة السلبية إلى طاقةٍ ايجابية. قهقه المعلِّم مجيباً: لا يمكن أبداً لحزامٍ أن يحوِّل الطاقة (...). ليس الحزام ما مكّنك من إحراز التقدم بل وعيك لكونك تتلقى التعاليم." (مكتوب، 2010: ص 142).