زهايمر
زهايمر لمياء شمت في«ألزهايمر»، آخِر مؤلفات غازي القصيبي السردية، والتي رحل، عليه الرحمة، قبل أيام محدودة من صدورها عن دار بيسان البيروتية، يظهر بوضوح أن الكاتب قد اختار أن يعالج عبر السرد هواجس وجودية شاقة، لا تتوقف عند الألم والخوف والانكسار، بل تتجاوز ذلك إلى التصدع والفقد والنسيان.
زهايمر
لمياء شمت
في«ألزهايمر»، آخِر مؤلفات غازي القصيبي السردية، والتي رحل، عليه الرحمة، قبل أيام محدودة من صدورها عن دار بيسان البيروتية، يظهر بوضوح أن الكاتب قد اختار أن يعالج عبر السرد هواجس وجودية شاقة، لا تتوقف عند الألم والخوف والانكسار، بل تتجاوز ذلك إلى التصدع والفقد والنسيان.
وكان غازي القصيبي، بحسب شهادة الناشر، قد أنفق وقتاً جزيلاً لمراجعة مسودة «ألزهايمر»، وعكف باهتمام على تصحيحها ومتابعة أدق تفاصيل صدورها، رغم وطأة المرض وقسوته.
كما بدا الكاتب حريصاً هذه المرة على إطلاق اسم «أقصوصة» على ذلك المؤلف السردي، بل وتصدر التعريف واجهة الغلاف، حيث وضع مباشرة أسفل العنوان. وهو ما يشير ربما إلى محاولة الكاتب لجم توقعات القارئ، التي قد تتطلع لمعمار حكائي متعدد الطبقات والمسارات والشخوص. وهكذا فإن كلمة "أقصوصة" على الغلاف كافية للإشارة الاستباقية إلى تركيب سردي بسيط، منسوج حول حدث وحيد، وشخوص محدودة، مما يعفي ضمناً من خيوط التشعبات والسبك الحكائي، وتفاصيل حيوات الشخوص وتفاعلاتها.
وهكذا فقد أطلت «ألزهايمر» كتعبير سردي خاص يستبطن الرغبة العارمة في تجاوز التقاليد والحدود الأجناسية، حتى أنها لتبدو كجنين روائي أحس القصيبي أنه لا يملك مهلة من الوقت تكفي لتخلقه واكتماله.
فداخل المتن الحكائي تبرز وتعلو اعتمالات الذاكرة لتُشكل المحور الرئيس الذي ينهض عليه البناء السردي للأُقصوصة، كما يظهر من دلالة العنوان. ويظهر تحت بقعة الضوء السردي يعقوب العريان، الشخصية المحورية للأقصوصة، والذي يتلقى العلاج في مصحة للزهايمر في أمريكا بعيداً عن أسرته، ليجنبهم السعير اليومي لمعايشة مرض الزهايمر، حيث يسوخ يعقوب عميقاً في سديم النسيان وإرباكاته ودهشته، وهو يراقب الأشياء وهي تتغير من حوله على نحو مراوغ، شيئاً فشيئا (حتى يزيل العزيز الزهايمر النقوش من اللوحة بأكملها).
لكنه على أي حال يمضي متعزياً بعبارة رونالد ريغان الشهيرة (إنه مرض جميل! تقابل الأشخاص أنفسهم وتظن أنك ترى وجوهاً جديدة كل يوم). وعلى حافة الرحيل بوطأته الوجدانية والنفسية المرعبة، يبدو الموت وكأنه يعطي استحقاق نفض الأقنعة، وتجاوز أسيجة الاحتراز، والقفز فوق جُدر الأكاذيب والتلفيقات، المضروبة بصرامة حول الوعي، كرخصة نادرة وأخيرة للجهر بالمكبوت وإطلاق سراح المحظور والمكبوح من المشاعر والأفكار التي لا يكاد القصيبي يكف عن دحرجتها بعناد على وبين سطور النص.
والملاحظ أن الصوت السيري يسخر تقنية الرسائل ببراعة لتسريد الشهادات الاجتماعية والسياسية المباشرة على العصر وأحواله وأهواله، والتي تتطوف بالنفاق الاجتماعي، وتسطح المناهج الدراسية، مروراً بالتدليس السياسي والتكاذب الدبلوماسي، والكثير من الاختزانات الشعورية والنفسية والذهنية، والتي تشكل أحياناً بؤراً ناتئة على جسد السرد، تتكدس حتى لتكاد تعوق مجرى القص. وبرغم كل ذلك يزعق القصيبي بلسان بطله يعقوب العريان:(هذه ليست سيرة ذاتية.. هذه رسائل من زوج إلى زوجته.. والسيرة الذاتية ليست مبرراً كافياً للتعري وإيذاء الناس).
وهو ربما ما جعل مجموعة من النقاد تتفق ضمناً بأن كبرياء القصيبي قد حال دون منح نصه الإبداعي صفة السيرة الذاتية. على أن ذلك لا ينفي مطلقاً بأن القصيبي قد شاء لنص «الزهايمر» أن يكون ضربة إزميله الأخيرة لخلخلة الواجهات المخاتلة الكذوب، والدعوة للبرء من التخثرات وارتكاسات التهادن، ومهانة الإقامة المضطربة في منطقة المشتبهات والبين بين، وكسر الصمت بإطلاق أفكار احتجاجية مصادمة للعلن، ولو على هيئة اعترافات وتأملات وحكاوي وهواجس وهلوسات.