ساعات مع ( أدونيس ) 

ساعات مع ( أدونيس )  إقرأ ( الكِتابَ ) مثلما تَشاء فصلُ شتاءٍ في اللاذقية أمجد محمد سعيد اللاذقية، مدينة الجمال، والتاريخ، والطبيعة الخلابة، كانت خيط مرور، حينما عبرتها، شتاء عام سبعة وستين وتسعمائة وألف، مع حوالي عشرين من الطلاب العراقيين من جامعة بغداد، في حافلة دفع تكاليفها، الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الدوري، رئيس الجامعة، حينذاك

ساعات مع ( أدونيس ) 

ساعات مع ( أدونيس ) 
إقرأ ( الكِتابَ ) مثلما تَشاء
فصلُ شتاءٍ في اللاذقية

أمجد محمد سعيد

 

 

 

 

اللاذقية، مدينة الجمال، والتاريخ، والطبيعة الخلابة، كانت خيط مرور، حينما عبرتها، شتاء عام سبعة وستين وتسعمائة وألف، مع حوالي عشرين من الطلاب العراقيين من جامعة بغداد، في حافلة دفع تكاليفها، الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الدوري، رئيس الجامعة، حينذاك، وأعطى كل طالب منا، عشرين دينارا، على ما أذكر، لنقوم برحلة إلى الأردن، وسوريا، وفلسطين، ولبنان، خلال عطلة نصف السنة، وكان ذلك قبل الاحتلال الاسراءيلي للقدس بستة اشهر . كنا طلابا نسكن المدينة الجامعية ومن كل الأطياف العراقية، قوميا، ودينيا، وطائفيا، وسياسيا، وإقليميا، وحتى بالتخصصات الاكاديمية. 

 

 


بعد أكثر من خمسة وثلاثين عاما، وصلت إلى اللاذقية، مرة أخرى، وطعم الزيارة السريعة الآولى، ما يزال في جوارحي، كان شتاء آخر، تعرفت خلاله على اللاذقية، المدينة، والأدباء ومقراتحاد الكتاب، الجامعة، وجريدة الوحدة، والمركز الثقافي في المدينة، البحر والهدوء الجميل، ميدان الشيخ ضاهر ( أكتبها كما يكتبها اللاذقانيون، بأخت الصاد)، الجبل ومدينة جبله، كانت أياما رائعة، قرأت فيها، وكتبت كثيرا، وشاركت في نشاطات ثقافية عديدة، ولعل القصيدة الطويلة ..  ( قهوة أدونيس ) هي أبرز ما أنجزته خلال الفترة التي بقيت فيها، مواطنا لاذقانيا، مع عدد من القصائد ، والدراسات النقدية حول بعض الكتب، لأدباء من المدينة، وحين غادرتها متوجها إلى القاهرة، أودعت كتابا يضم هذه الدراسات لدى الإخوة في اتحاد الكتاب، لمتابعة إصداره، في دمشق، ضمن مطبوعات الإتحاد، الذي سبق وأن طبع لي ثلاث مجموعات شعرية ومنحني عضويته، التي أعتز بها كثيرا. ولا أدري هل طبع الكتاب أم لا .
حين أخبرني الصديقان الشاعران السوريان عبد الكريم شعبان، والشاعر الصحفي مالك الرفاعي، أن الشاعر الكبير أدونيس، موجود في اللاذقية، رجوتهما أن نذهب  لزيارته. 
المطر يكاد يغرق المدينة، ويصب صبا، و النباتات، كأنها لعشقها لقطرات المطر، تحاول أن تتسلق خيوطه، في نوع من صوفية الطبيعة وهيمانها بنفسها، الشوارع تغتسل على نظافتها المعتادة، وهكذا صعدنا إلى قرية الشاعر ( قصابين ) التي تقع على سفح الجبل، ودخلنا إلى بيته الواسع، الجميل، الذي تطوقه حديقة ورد، وبستان فاكهة، السفح غارق في الخضرة، والقرميد المغسول يظلل المكان، بلونه الداكن النظيف. 
رحب بنا أدونيس، شربنا القهوة، أتذكر أنني كنت أنظر إلى المدفأة الحجرية، النار مشتعلة فيها، قال أدونيس (كانون يقطع ذيل العصفور)، وعقب، إن هذا أحد الأمثال الشعبية في المنطقة، وقال إنه يأتي سنويا، لزيارة والدته والسلام عليها، ولرؤية أصدقائه. 

 

 


إلتقينا بأدونيس، منذ السبعينات ، وفي مناسبات أدبية مختلفة، وفي مناسبات أخرى كان آخرها في القاهرة نهاية الثمانينيات خلال حضوره الاسبوع الثقافي الفلسطيني . 
كان لم يزل حيويا، أنيقا، في معطفه الأسود القصير، ملتفا بلفافة حول عنقه اتقاء من البرد، هادئا، بشوشا، بيده سيكاره ، بدا شيخا مليئا بالحكمة والفكر والثقافة. وسرعان ما انسحب الحديث الى الشعر، واستغل الشاعر الصحفي مالك الرفاعي، المناسبة، وأخذ يسأله حول بعض الشؤون، والموضوعات، التي تصلح أن تنشر في جريدته اليومية، وكان أدونيس يتحدث بشفافية، وبساطة، خاصة حين يجيب على أسئلة، لا يمكن الإجابة عنها، إلا بإضفاء قدر من طابع الطرافة أو المجاملة، فكان يجيبه حين يسأله عن أحد الشعراء، بأنه شاعر كبير، إنه شاعر كبير وصديقي، وحين يضفي زميلنا الشاب كلمات الإعجاب والإطراء على الشاعر كان يقول له : أنت تنظر الي بقلبك. 
ورغم أن الزيارة كانت للمجاملة، وللتعبير عن اعتزازنا به، وبتجربته الإبداعية والأدبية، إلا أننا واصلنا الحوار، على سجيته، قلت له : إنه يحظى بتقدير عميق، من المثقفين، والأدباء العرب في كل مكان من وطننا العربي، بمختلف بلدانهم وقومياتهم ومذاهبهم وانتماءاتهم، رغم اختلاف الكثير منهم معه، في وجهات النظر، حول الشعر، والثقافة بشكل عام، فهل يعتبر نفسه منحازا إلى طيف محدد من جوانب التاريخ العربي، أم أنه ينبغي أن يكون، علامة وحدة وتضامن، في سبيل خلق صورة جديدة للواقع، عبر نظرة موضوعية للتاريخ، وإذا كان الأمر كذلك، فهل يكون كتابه (الكتاب) إدانة للحكم والسياسة العربية التاريخية، بكافة تابعياتها، أم لاتجاه محدد من ذلك التاريخ ؟ 
قال أدونيس : أبدا، إنني حين كتبت كتابي (الكتاب) استعرضت تاريخ القمع كله، في الدولة العربية، من أي جهة صدر، أو جاء، أنا لست منحازا لأية مرجعية أو تابعية، سوى مرجعية الإنسان، وهناك أمثلة تاريخية، تشير إلى أن من مارس القمع السياسي والثقافي كانوا من كل أطياف الصراع، حينما تولوا سدة الحكم، ولم يكن القمع مقتصرا على فئة دون فئة. 
وأضاف قائلا : إنه رجل علماني، لا تتصدر اهتماماته سوى قضية الإبداع، في الثقافة العربية، وأن إدانته، كانت لمن قام بها من الأشخاص، وليس لما ينتسب إليه، ذلك الشخص. 
وحين أشرت إلى أن تلك المراحل من تاريخ الأمة، كانت تشبه ما كان موجودا، في كل مكان من الدنيا، وأنها وفق السياقات العامة، للمرحلة الإنسانية في كل أقطار المعمورة، في اسيا، وأوربا، وأفريقيا، وغيرها، وليس مقتصرا على الأداء السياسي للحاكم العربي القديم .
قال أدونيس : إن ذلك ليس مبررا، ومثلما ندين تاريخ القمع لدى العرب، ندينه في أي مكان أو زمان. 
وعن تقنيات كتابه (الكتاب) قال : إنه تمثَّل شخصية ( المتنبي ) لأنه الشاعر الوحيد الذي استطاع أن يجمع بين الشعري والسياسي، وأن هذه الوحدة لم تتحقق إلا عند المتنبي، وقال إنه يترك للقارئ حرية قراءته، قراءة غير سردية، بمعنى أن يقرأ من اليمين إلى اليسار، أو بالعكس، أو يبدأ من الوسط، وهكذا، وأضاف أنه استلهم الشكل الذي قسم بموجبه الصفحة الواحدة، من خلال رؤيته لشريط سينمائي ياباني، فالجزء الذي على اليمين، افترضته ذاكرة المتنبي، والصفحة الأساسية قسمان، الأعلى قائم على استلهام المتنبي، والأسفل، إشراقة أو لمعة حرة تضيء، أما الهامش الأيسر فمساحة لمن يريد أن يتوسع أكثر حول الموضوع . وقال إن كتابه (الكتاب) نوع من السَفَر في الثقافة العربية بطريقة غير سردية، وقال : أنا لا أميل إلى السرد، إنما إلى المقطعات، والدائرة، والإنفجارات. 
وحين سألته عما يصادفه أحيانا، خلال بعض زياراته للبلدان العربية من مفاجآت، أشار إلى أن هناك جانبين، الأول هو الجانب الرسمي، والثاني الجانب الثقافي، ولكل منهما من يمثله، وأنه حريص على استيعاب الجوانب الثقافية، أما الجوانب الرسمية، فهو يدرك أن ليس من وظيفة الشاعر، تقديم المجاملات الزائدة، وحضور الحفلات الرسمية، إلا في حدود، وقال : إنني عندما أزور مدينة يهمني أن أزور فيها الأماكن القديمة، والشواهد التاريخية، والمعالم التي تكون الشخصية العامة لها. أتعرض أحيانا إلى نقد جارح، أو غير جارح، ولكنني لا أكره أحدا، وأومن بالحوار، الثقافة هي القدرة على الحب، والإبداع هو سمو في سماء العقل والعاطفة. 
كنا علي وشك أن نغادر بيته، التقطنا صورا جماعية، ومنفردة، أحسست بحنو شديد، ومحبة غامرة، لهذا الشيخ الشاعر، الذي شغل الناس وما يزال، وتساءلت كم من المبدعين في وطننا العربي يصلون إلى قامته. 
كانت نار المدفأة الحجرية، تتوهج بجمر جديد، والصالون المزين بلوحات تشكيلية عديدة، وبسجاجيد وبسط شعبية، وبعض الأكسسوارات ذات الطبيعة الفولكلورية، شعرت أننا أثقلنا على الشاعر، وأنه على وشك السفر إلى بيروت، ومنها إلى باريس، حيث إقامته الدائمة قلت له عند عتبة البيت : سأكتب شيئا عن هذا اللقاء  لا أعرف، كتابا، أو قصيدة، تبسم، وودعنا . وودعناه. 
بعد أيام، بدأت أكتب قصيدة ( قهوة أدونيس ) مستوحيا من هذا اللقاء تجربة ثرية، وفهما جديدا، قد لا يتطابق مع آرائه جميعها، ولكن في كل الاحوال، يظل أدونيس، ظاهرة شعرية وثقافية أصيلة، في عصرنا الحديث.
حين التقيته مرة أخرى في القاهرة بعد سنوات وكان يحضر إحدى المناسبات الثقافية والادبية اعطيته نسخة من القصيدة التي كتبتها في اللاذقية وطبعتها طبعة محدودة في مصر , شكرني بلطف ومودة , وبعد حين على ما أذكر قرأها وهاتفني من باريس مكررا شكره وتقديره .