رواية آماليا

رواية آماليا
للاستاذة مناهل فتحي حسن..  
الحسن محمد سعيد..

*  أشهد أنني استمتعت بهذه الرواية أيما استمتاع ..فقد أخذتني عذوبة اللغة ،وجمال ودقة المجاز في العبارة ،إلى عوالم ثرّة من الإدهاش والراحة والقبول ،الأمر الذي جعل الصورة أمامي،قوية البنيان والبيان ،مجسدة ،كأنك تراها وتلمسها !! ..

*  جاءت الرواية في فصولها السبعة الأولى( والترقيم من عندي لأن عناوين الرواية جاء بلا ترقيم ) صورة ( فولكلورية ) باذخة العرض والوصف لعادات وتقاليد السودان ،سكبت فيها الكاتبة لغتها الشعرية ( الفسيحة ) ،فكانت آية من آيات الجمال ،ومن منابعه الموحية ،  الرصينة العبارة ..لم يكن ذلك فحسب ،بل كانت هناك ،الشجاعة في التناول ،والجراة في الوصف ،والجسارة في التعليق ..

ماذا تناولت هذه الروائية الجسورة ??!! ..
تناولت : الختان وطقوسه والغرض المتخلف منه في مفهوم هوس ( الشرف ) بقتل الشهوة والمتعة عند المرأة،وتشويه ذلك العضو الجميل الذي خلقه احسن الخالقين ! ..وتناولت الولادة وفرعياتها من الألم والمعاناة .. تناولت المشاط وعوالمه المدهشة من قبل ( مشاطة ) لها كل الحريات حتى في المسكوت عنه ..تناولت الشلوخ وعذاباتها ،ودق الشفاه ( الشلوفة ) وجهالاته ،فاضحت المرأة السودانية في حالة شقاء يتوالد ويتكاثر خلال اجمل سني حياتها ..
كانت الكاتبة صادقة حد التحدي للمسكوت عنه ،فاتحفتنا بجراتها وثقافتها العميقة في مجتمعها الذي تربت ونشأت فيه .
وقفت عند واقعة ( ولادة متعسرة في حالة عمة البطلة المفاجئة اذ جاءها المخاض في شهرها الثامن ) ..وصفت الكاتبة هذه الحالة وبعبارات ( مستورة ) الداية ولغتها الفاضحة  ،اذ اعتادت ان يأذن لها المجتمع في حرية القول المطلقة  وكأنه يعفيها من تحفظاته ودنياواته الضيقة التي تتأذى من السفور ..
تجلت الكاتبة في جرأتها الجسورة والصادقة الذي عرفناه عن امرأة( كمستورة القابلة ) ،وقامت الكاتبة بشرح دلالة اللفظ ،وليتها لم تفعل ،وتركته على ما هو عليه من إيحاء،كما جاء عفو الخاطر ..

*  الجدل بين التصوف والماركسية كان هناك ،بين ( كمال البدوي ) والد ( غفران ) الشيوعي والعلماني المتحرر الفكر ،وبين ( ثريا الفاتح ) والدتها ،المتصوفة بعقلانية وابنة البيت الديني الكبير في ( الهلالية) ..
كانت الكاتبة ناضجة الفكر والثقافة ،في تحليلها الذي الذي تضمنته الرواية في هذه الجزئية ،اذ جاء:-
( لم يهمس لها بشيئ من هذا ان يبدو تلميذا" في حضرتها ،هي التي بدا له انها خافت الوقوع في حبائل الماركسية.. كان يرى ذلك جليا" في ملامحها ،وهو يبثها حلمه بوطن تسوده الحرية والعدالة ..ويكرر أن الحزب الشيوعي،هو المنارة الوحيدة التي يناط بها تحقيق ذلك الحلم .. ولكنه كان يحاول ان يقيم علاقة تتجنب العداء،وتتجنب التبعية ،وقد نجح ) ..
ومن خلال هذا الفصل اتضح لنا أن الكاتبة ملمة بالطرق الصوفية بالسودان ،الماما" كاملا" ،زادت فيه معلوماتنا ،الامر الذي يشي انها أعدت مادتها السردية بعناية واهتمام ..

*  عجبني الوصول إلى أصل( الرحمتات ) في الفصل الخامس ،الذي يحمل نفس العنوان ،والربط بين ( الحلو مر ) وبين تنوع السودان وتناقضه ..
تقول الرواية :-
( الحلو مر عصير يختصر دولة ..متنوع كتنوع قبائلها ..متناقض كتناقض ثقافاتهم وألوانهم ..لذلك ،فإنه لا يوجد في غيرها من الدول ..لا يستلذ بطعمه الحلو المر ،غير أهل السودان ،القادرة ألسنتهم على الجمع بين المذاقات وفرزها ،كما تفرز العين ألوان الطيف من ضوء أبيض) ..
هذا تصوير مدهش ،لا يقدر عليه ،إلا من قبل من كانت له مكنة ثقافية عالية في تراث السودان ،ومن كانت عنده ملكة في استحلاب شاعريته في اللغة .. ولعلي هنا استشهد بمقطع آخر من الرواية ،اذ جاء البوح من العروسة ( والدة البطلة ثريا الفاتح حينما فرض عليهما هي وعريسها كمال البدوي ان يناما مفترقين لظروف اقتضت ذلك فتسللت اليه عند الصباح بكامل زينتها ،فوجدته نائما" ،فقررت ان تكتب له رسالة تضعها تحت وسادته ) .فكتبت :-
( ايها السعف النائم ،هناك امرأة هي نخلتك وثمرتك ، امك وابنتك ،تحملها وتحملك ،تغذيها وتغذيك ،آن لحسرتك أن تنحسر ،وأن لك أن تتذوق ثمرتك ،وتحتسي انثاك ) ..
وعندما حاولت دس الوريقة تحت وسادته شعر بها ،فاحتضنها واحتساها ..
بهذه اللغة الشاعرية الجميلة،ادلف إلى فصول الرواية من الفصل الثامن ( المحموم ) وما بعده في ( الحب الصاخب المتاجج) الذي يجمع بين بطل الرواية ( خالد عبد الحق ) وعشيقته الروسية ( نتاليا ) وزوجته بعد عودته للسودان من روسيا ( غفران) ..

*  تزوج الدكتور ( خالد عبدالحق ) اخصائي جراحة التجميل من ( غفران كمال البدوي ) بطلة الرواية ،التي تعمل في الصحافة ..ولكن كان هذا الزواج قلقا" متقلبا" ،لأن الدكتور خالد ،كان مسكونا" بهوس ( نتاليا ) عشيقته الروسية ،والتي هي بدورها قد احبته حبا" مشتعلا" ،يحتاج فيه صقيعها المنحدر من ثلج ( سيبريا ) إلى شموس خالد الاستوائية طلبا" للدفء ..ورغم هذا الامتلاء ( بنتاليا ) إلا ان ( خالدا" ) احب ( غفران ) من زوايا أخرى لم بجدها في عشيقته الروسية !! ..فهو الذي اطلق عليها اسم ( آماليا) في لحظة حب ولسنوات ،فتمناها زوجة تجمع بين ماتتفرد به وبين ما تتفرد به ( نتاليا) ..فلم يكن سرير ( غفران ) كذلك الذي عاشه مع ( نتاليا ) ..وهنا ادانة ذكية من الكاتبة وهي تدين دون اعلان وصراخ عادة ( ختان ) البنات ..
وهنا تقول ( غفران ) في تداعيها الحر صفحة (175) :-
( كنت اتفرج على الأصناف المتناقضة ،وكأنني أنظر إلى خريطة حياتي ،جيناتي الهجينة ،لغاتي الهجينة ،مزاجي الهجين ،حبي الهجين ..ولكني لست وحدي ..هو ايضا" يتأرجح بين النقائض ،ما يجعلنا ننزلق إلى النكد البومي ،والخلافات التي لم تكن للأسف مفتعلة ..خلافات عادة ما كانا نحسمها بكثير من النفاق ،وقليل من الحب ..استلقي كل ليلة إلى جانبه في الفراش ،ونحكي تفاصيل يومنا وغيرها من القصص التي نحاول أن نردم بها فراغا" يمعن في الاتساع .. نردم ونردم ،حتى تغفو انفعالاتنا التي تعودت على أن تستفيق مبكرة ) ..

*  في الفصل الذي يحمل عنوان ( الهارب ) صفحة (149) ومابعدها تتناول الكاتبة ( فولكلور ) العادات والتقاليد السودانية ممثلة في :-
تعليم العروس الرقصات الخاصة بهذه المناسبة ..الزار وطقوسه السودانية المتفردة ،ثم عادة اللجوء إلى( رمي الودع ) من قبل ( سكينة الوداعية ) ،لتكتمل صورة السودان الشعبية التي سبق التعرض اليها ،لدى القارئ الأجنبي..

*  كانت الأستاذة( مناهل فتحي ) ملمة إلى حد الدهشة ،بمادتها السردية سواء كانت مادة علمية تخصصية ،كما هو الحال عند التعرض ( لنقل الأعضاء البشرية ) ،والذي جعلت منه مادة عميقة الدلالة لإدانة الفساد الذي تنوع استشري في زمن الإنقاذ ، او ( الفولكلور ) السوداني بعاداته وتقاليده واشعاره التي تناسب الموقف ..ذلك فضلا" عن اقوال الأنبياء والملوك والشعراء والروائيين وكتاب المسرح والفلاسفة والثوار والمتصوفة واهل الحكمة ،التي كانت تتصدر كل فصل ،فتلقي دلالات على الفكرة التي تريد طرحها ككاتبة عميقة الثقافة كقول ( ارسطو ) :-
( اذا طرحت سؤالا" على رجل السياسة ،فإنه يجيبك بطريقة تجعلك عاجزا" عن فهم سؤالك ) ..وهنا اشارة بالغة العمق لحالة التوهان التي عاشها بطل الرواية ( الدكتور خالد ) ،وهو يتمزق بين مبادئه التي كان يحملها،والمبادئ المنحرفة التي يحملها ( دكتور التاج ) مدير المستشفي الذي شغل ( دكتور خالد ) عنده فتاه وضل عن المبادئ المستقيمة ،واخلاق المهنة الشريفة ،فتلوث من خلال اشتراكه في عمليات تجارة الأعضاء البشرية .. او قول الإمام علي بن ابي طالب :-
( من كان همه ما يدخل جوفه ،كانت قيمته ما يخرج منه ) ..وبهذه العبارة العميقة ان نقف على الهاوية السحيقة التي تردى فيها( دكتور خالد ) ،لتنتهي حياته بالانتحار..

*  لقد كانت الأستاذة( مناهل فتحي ) في هذه الرواية عظيمة بكلمتها الشعربة ذات العذوبة الخاصة بها ،وبحرفها الجميل الوافر الظلال ..ولعلي هنا اتساءل :-
 هل سيكون لدينا كاتبة روائية في السودان ،تماثل الكاتبة الجزائرية ( احلام مستغانمي ) في هذا البوح من السرد الرفيع ? ..
ولعلي اجيب يقينا ( بنعم كبيرة ) ،فالمسألة مسألة زمن  وصبر على الإبداع..

*  لقد ابدعت الأستاذة( مناهل فتحي ) ،بروايتها هذه ،وكشفت لنا عن كاتبة ناضجة من وهلتها الأولى،عميقة الثقافة،حلوة اللغة ،متمكنة من ادواتها الفنية ،وتعي تماما" ما تريد تبيانه ..
وفي الختام ادهشتني رواية( آماليا ) وامتعتني ..